ترجمة وتحرير: نون بوست
في طريقنا عبر أنقاض ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر بعض الوقت لإدراك ما هو مفقود. كانت هناك نسوة تحملن البقالة، ورجال طاعنون في السن يركبون دراجات نارية، وأطفال نحيلون يحملون أباريق الماء. في المقابل، كان هناك عدد ضئيل من الشبان نظرا لأنهم إما ماتوا في الحرب أو زُج بهم في السجن أو مبعثرون خارج الحدود السورية.
بالنسبة لأم خليل، البالغة من العمر 59 سنة ذات الوجه المستدير، فقد كانت تعاني من ألم غياب أولادها الثلاثة الذين قتلوا وابنها الذي تعرض للتعذيب في سجن للمتمردين، أما الخامس فقد اختفى بعد تعرضه للحجز الحكومي. وبناء على ذلك، كان على بناتها البحث عن عمل، بينما كانت تربي خمسة أحفاد من دون زوجها الذي توفي في غارة جوية.
يبدو أن فرصة السيطرة على إدلب، آخر أراضي المتمردين، أقرب من أي وقت مضى
قالت أم خليل من منزل أحد أقاربها البعيدين وأبناؤها يجثمون على الأرض: “أحياناً أجلس وأفكر كيف حدث هذا؟ لقد كان لدي أبناء يعيلُونني. كان كل شيء طبيعيًا وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج ولقد فقدته أيضًا. في الواقع، ليس لدي إجابات لكل هذه الأسئلة لا يسعني إلا أن أقول سامح الله من كان وراء هذا”. ولكنها سرعان ما صرخت غاضبة وقالت: “اغفر لهم، لا تغفر لهم، ما الفرق الذي يحدثه هذا؟ أتمنى أن أجد من دمر هذه المدينة وسوف أقتله”.
الخراب والانتعاش موزع بشكل غير متساو
بعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية، تسيطر الحكومة السورية الآن على معظم أنحاء البلاد. يوم الثلاثاء، يبدو أن فرصة السيطرة على إدلب، آخر أراضي المتمردين، أقرب من أي وقت مضى. إن فوز الرئيس بشار الأسد لم يكن موضع شك لبعض الوقت. نحن – ثلاثة صحفيين من صحيفة نيويورك تايمز – أتينا إلى سوريا لنرى كيف بدى فوزه. خلال زيارتنا لخمس مدن وقرى تسيطر عليها الحكومة على مدار ثمانية أيام في شهر حزيران/ يونيو، وجدنا الخراب والكرم في الوقت نفسه كما صادفنا الناس وهو عالقون في حالة من الحزن ويمر اليوم بالنسبة لهم بصعوبة. في الواقع، تم توزيع المعاناة بشكل غير متكافئ، حيث عانى منها الفقراء ومتساكنو المناطق التي كان يسيطر عليها المتمردون سابقًا. الانتعاش أيضا تم تقاسمه بشكل غير متساو.
في دمشق، العاصمة التي تحتضن مراكز تجارية تفوق قيمتها 310 مليون دولار، والتي بنيت خلال الحرب على مسافة ليست بعيدة عن الجبل حيث كانت القوات الحكومية ذات مرة تطلق قذائف مدفعية على أراضي المتمردين، ترددت في التقدم بسبب صراخ المتسوقين ذوي الكعوب العالية.
السوق أو البازار في مدينة دمشق القديمة. لم تتأثر العاصمة السورية إلى حد كبير بالأضرار المادية.
عمال داخل منزل مدمر في شرق حلب. بدأ النازحون بسبب الحرب في العودة محاولين إعادة بناء حياتهم بين الأنقاض.
في دوما المجاورة، التي كان يسيطر عليها المتمردون خلال أغلب مراحل الحرب، كانت المياه الجارية مفعمة بالطموح أكثر من الواقع. أما في معقل الحكومة في اللاذقية، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فقد بكت الأمهات تحت صور أبنائها الميتين. بعد مرور أكثر من عامين على استعادة الأسد لمدينة حلب الشمالية، بدأت الحركية في المصانع والبازارات القديمة أو الأسواق، تعود لنسقها الطبيعي مرة أخرى. لكن الكهرباء كانت تنقطع كلما يغير الطاقم العامل في قطاع الكهرباء نوبات عملهم.
في الواقع، ليست البنية التحتية فقط هي التي تحتاج إلى إعادة البناء. سوريا التي رأيناها كانت تفتقد الطبقة الوسطى فقد تلاشى أعضاؤها أو سقطوا من السلم الاقتصادي. وتقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية من كل 10 أشخاص يعيشون الآن في فقر، حيث أن دخل الفرد يقدر بأقل من 3.10 دولار في اليوم.
مع عدم وجود مساعدات لإعادة الإعمار من قبل المانحين الدوليين، كان السوريون الذين قابلناهم يبذلون كل ما في وسعهم لإصلاح ثقوب الرصاص في جدرانهم وإطعام أطفالهم والعثور على عمل يوفر لهم راتبا
حتى مع عودة النازحين إلى ديارهم، لا يزال الشباب يُجبرون على الالتحاق بصفوف الجيش أما المنشقون فيختفون ويتم الزج بالمرتبطين بهم في السجون القاتمة. وبالتالي، لا يزال الناس يفرون من البلاد، رغم أن أعدادهم أقل بكثير مما كانوا عليه في أوج الحرب.
مع عدم وجود مساعدات لإعادة الإعمار من قبل المانحين الدوليين، كان السوريون الذين قابلناهم يبذلون كل ما في وسعهم لإصلاح ثقوب الرصاص في جدرانهم وإطعام أطفالهم والعثور على عمل يوفر لهم راتبا. ومع رحيل الكثير من الرجال، تُركت هذه المهمة للمسنين والشباب اليافعين، وخاصة النساء -بما في ذلك النساء من الأسر المحافظة التي تعمل الآن لأول مرة.
قالت أم عقيل، وهي امرأة تبلغ من العمر 40 عامًا في شرق حلب: “لم أعتقد مطلقًا أني سأعمل، لكن ذلك أفضل من أن أذهب لأطلب من الناس المال”. كما صرحت بأن الحكومة احتجزت زوجها -بشكل غير عادل -ولكنها مع ذلك بقيت على قيد الحياة. وأضافت أم عقيل أنها أرادت أن تعمل بناتها عندما ينهين دراستهن، “وذلك لكي لا تواجهن ما واجهته أمهن”.
الأسد في كل مكان؛ فما هي مكانته؟
في كل مكان ذهبنا إليه، كان من المستحيل أن ننسى من الذي يترأس الدمار، ومن سيدير الصعاب التي سيواجهونها مستقبلا. كانت هناك لافتة تحمل صورة الأسد كتب عليها “الأسد للأبد”، وهي واحدة من العديد من اللافتات على الطرق السورية. امتدت صورة الأسد على لافتات معلقة عند مداخل المدن التي تم الاستيلاء عليها. بدءا من ولاعات السجائر وصولا إلى حاملات الهدايا التذكارية في دمشق، كانت صورة الأسد بين صور مؤيديه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم حزب الله حسن نصر الله. وعند نقطة تفتيش تابعة للجيش مررنا بها، كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد، كلها تشير إلى اتجاهات مختلفة مثل مجموعة من الكاميرات الأمنية. علاوة على ذلك، طوال رحلتنا كنا نلتقي بوكلائه.
صور الرئيس بشار الأسد ملأت مدينة دمشق القديمة.
منعت الحكومة السورية العديد من زملائنا في صحيفة نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام الإخبارية من نقل الأخبار بتعلة إفراطهم في النقد، وقد استلزم الأمر منا نحن الثلاثة، أنا كمراسل في بيروت؛ والمترجم اللبناني والمصورة الأمريكية، ميريديث كوهوت، ما يقرب من نصف عام للحصول تأشيرة دخول. ولكن التأشيرة لا تعني الإذن بالتجول بحرية.
في كل مكان ذهبنا إليه تقريبًا، استقبلنا رجال الحكومة والعديد من الجنود والعناصر المسلحة من جهاز المخابرات السوري القوي الذين يرتدون ملابس مدنية. وكانوا في بعض الأحيان يعرّفون أنفسهم بأنهم “صحفيون”. كما كانوا يقفون بجانبنا خلال كل محادثة تقريبًا مع السوريين.
إذا كان من الصعب علينا التحدث إلى الناس، فهذا الأمر كان مخيفا بالنسبة لهم. في أحسن الأحوال، حصلنا على نظرة ضيقة وموالية لسوريا: لا أحد تحدثنا معه ألقى اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي استهلكت سوريا. كان الانهيار الاقتصادي دائمًا خطأ العقوبات الأمريكية، وليس الحرب أو الفساد.
“كلنا لدينا نفس القصص الحزينة”
كان الأشخاص الذين يراقبوننا يسعون لإظهار أن الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها، الأمر الذي كان بسيطًا بما فيه الكفاية في دمشق، التي تجنبت إلى حد كبير الأضرار المادية.
في دوما، كان السوق وسط المدينة يتدفق ببطء ولكن مكتظا بالعملاء الذين يبحثون عن الفواكه والأدوات المنزلية بسعر مخفض
بعد دقيقتين ونحن في السيارة المتجهة من دمشق إلى دوما، تحول المشهد خارج نافذة سيارتنا فجأة من مدينة متحركة إلى حقل من الأنقاض الرمادية الخاملة. بدا الأمر وكأننا قدنا السيارة لأميال، دخان ورماد الحرب، المباني السكنية التي تشبه مرائب وقوف السيارات في الهواء الطلق، والمداخل التي يكسوها الغبار الرمادي، والمآذن التي تحت الأنقاض مثل شموع نصف ذائبة وسط الكعكة. كانت ملامح الدمار متشابهة، كما طمست الطائرات الحربية والمدفعية معالم الإنسانية. سهلت علينا هذه المشاهد مهمة نسيان أن هذه البنايات لم تكن دائمًا تحت الأنقاض، بل في السابق منازل عامرة.
في دوما، كان السوق وسط المدينة يتدفق ببطء ولكن مكتظا بالعملاء الذين يبحثون عن الفواكه والأدوات المنزلية بسعر مخفض. لكن بعد مرور أكثر من عام على قيام الحكومة بقطع سيطرة المتمردين عليها بحصار أدى إلى تحول الناس إلى أكل الحشائش، ظل جزء كبير من المدينة غير صالح للسكن. يمكنك أن تعرف أين بدأ الناس في العودة والتخييم بشكل أساسي وسط تلال من الأنقاض، من خلال الأقمشة القذرة التي كانت بمثابة جدران للشقق التي لم يعودوا يملكوها.
في أحد الأحياء، كانت الثريات السوداء التي تظهر من خلال حفرة ضخمة في أحد المباني، تشهد بشدّة على الطبقة الوسطى المكسورة في دوما. قادنا أحد الأطفال الذين يلعبون بالخارج إلى الطابق العلوي لمقابلة جده وجدته، علي حمود طعمة وزوجته أم فارس. (في التقاليد العربية، تُعرف العديد من النساء باسم “أم” أو “والدة” ابنهما الأكبر، بينما يذهب الرجال غالبًا باسم “أبو” أو “والد”. وكان معظم الناس حذرين بشأن إعطائنا أسماءهم كاملة).
علي حمود طعمة وزوجته، أم فارس، في غرفة نومهما في دوما. لقد أمضوا معظم الحرب في قبو على الجانب الآخر من المدينة.
رجل يبيع البطيخ أمام المباني التي دمرتها القوات الحكومية في شرق حلب.
عاد الجدان إلى شقتهما في شهر أيار/ مايو، فوجدا أنها نهبت وأحرقت. كانت قطعة الأثاث التي تمكنوا من إنقاذها سجادة من اللون الأحمر الغامق والأزرق اصطحبتها أم فارس معها عندما فروا إلى قبو على الجانب الآخر من المدينة في الأيام الأولى من الحرب. وطوال السنوات السبع التي عاشوا فيها تحت الأرض، كانوا يمضون في بعض الأحيان أيامًا دون طعام أو ماء. وقد رفضت أم فارس فرش السجادة في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى منزلها مرة أخرى.
السوريون الذين قابلناهم كانوا دائماً يقدمون لنا شيئًا، بغض النظر عن قلة ذات الحيلة
بحلول وقت عودتهم، مات 20 فردا من الأسرة. وبقيت هي وزوجها يربيان 11 حفيداً يتيماً في مبنى مهجور إلى حد كبير. أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين بقوا، قالت أم فارس: “نحن نتجنب رؤية بعضنا البعض، لأننا جميعًا لدينا نفس القصص المحزنة”.
حفيدها خالد، البالغ من العمر 9 سنوات، جلس يمسح عينيه الدامعتين ويدفن وجهه في الوسادة. وقد قالت أم فارس إنه لم يكن يبكي على والده الميت. عمل خالد في ورشة للحدادة، حيث كانت أجرته شطيرة في اليوم. الشرار والمواد الكيميائية أقلقت عينيه. لم يستطع خالد تحمل تكاليف الدواء ولكن دون وظيفته لن يستطيع سد جوعه.
ذهب السيد طعمة وعاد وفي يده صحن صغير من المعجنات المحشوة بالجوز. السوريون الذين قابلناهم كانوا دائماً يقدمون لنا شيئًا، بغض النظر عن قلة ذات الحيلة. هنا في غرفة معيشة طعمة، كان رفضنا يعني عدم الامتنان. فيما بعدن أخبرتني السيدة كوهوت، مصوّرتنا، أنها شاهدته وهو يحفر بين أكوام من الممتلكات في خزانة ملابس ويكتشف شيئًا من القاع: الحلويات، من آخر صندوق مكتنز بعناية. بعد ذلك، ودعنا بعضنا في الشارع المدمر، حيث نظر السيد طعمة حوله إلى ما كان، وما زال، منزله وقال: “هذه أفضل منطقة في كل مدينة دوما”.
“كان شرف لنا أن نضحي به”
تضاعف عدد الأشخاص الذين يتبعوننا عندما سافرنا إلى منطقة اللاذقية الساحلية. كان معقل الرئيس يعج بأتباعه المسلمين العلويين، وهم أقلية دينية مهمشة سابقًا، وأعضاؤها الذين يمتلكون الجيش والأجهزة الأمنية.
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين قد تمت مكافأتهم بترف مقابل ولائهم. في المقابل، بالكاد حصلت هذه العائلات على التعويض، حيث تحدثوا عن عدم قدرتهم على شراء الحليب أو حليب الأطفال، وارتفاع تكلفة البطاطس والزيت والسكر
في قرية بيت يشوت الجبلية، كانت صورة الشابان اللذان ماتا وهما يقاتلان من أجل الأسد -“الشهداء”-تتدلى من أعمدة الهاتف. قام حشد ضم جنرالا عسكريا ومسؤولا في القرية ومسؤولين في شؤون المحاربين القدامى بنقلنا من منزل إلى آخر. سألت أحد أباء الجندي القتيل، ياسين حسنة، عن تضحيته- هل كان يستحق كل هذا العناء؟ فأجابني وعيناه تنظران للجنرال، الذي هز رأسه بالموافقة: “أي شيء من أجل سوريا يهون. أتمنى أن نصبح جميعًا شهداء للبلاد”. أما إحدى الأمهات، زكية أحمد حسن، فقد أظهرت لنا الكرسي البلاستيكي، حيث كانت تجلس في كثير من الأحيان بجانب قبر ابنها الحجري وتشرب القهوة وتغني له: “لقد كان شرف لنا أن نضحي به. لقد كان يدافع عن البلاد”.
زكية أحمد حسن دفنت ابنها فراس محمود إسماعيل في الفناء الخلفي لمنزل عائلته وهي غالبًا ما تجلس بجانب قبره وتغني له.
صور لرجال ماتوا وهم يقاتلون من أجل حكومة الأسد وهي معلقة في أحد شوارع اللاذقية، معقل الرئيس السوري.
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين قد تمت مكافأتهم بترف مقابل ولائهم. في المقابل، بالكاد حصلت هذه العائلات على التعويض، حيث تحدثوا عن عدم قدرتهم على شراء الحليب أو حليب الأطفال، وارتفاع تكلفة البطاطس والزيت والسكر. كما أنهم توقفوا عن الذهاب إلى الجزار. مررت السيدة حسن يدها عبر الخضروات التي كانت تزرعها بالقرب من قبر ابنها وقالت: “حتى لو كان الأمريكيون يعاقبوننا، على الأقل يمكننا أن نأكل الخيار والخبز!”.
كان حاكم المقاطعة، إبراهيم خضر السالم، حريصًا على التأكيد على أن الحكومة تكرس المزيد من الموارد لعائلات المحاربين القدامى. كان من المفترض أن يحصلوا على أولوية في الوظائف الحكومية، إلى جانب الامتيازات الصغيرة مثل الضرائب المفروضة على السيارات والرسوم الجامعية. وتجدر الإشارة إلى أن ثلاثة مصورين حكوميين صوروا مقابلتنا حتى استنفد المحافظ جميع خطوطه.
في حلب: الأيام المزدحمة مع الليالي المحرومة من الضوء
على الطريق شمالاً إلى حلب، كانت السيارات المحترقة مقلوبة على جانب الطريق، وانتشر الدخان الرمادي والبني على مسافة من أحد الحرائق التي جاءت مؤخرًا على آلاف الأفدنة من المحاصيل. لا يبدو أن هناك من يعرف المسؤول عن الحادث، ما عدى أن الإحساس بالجوع في سوريا بدا وكأنه يزداد سوءًا.
بعد مرور عامين ونصف على ما وصفه الجميع بتحرير شرق حلب الذي يسيطر عليه المتمردون، ما زالت الكهرباء تأتي من المولدات الكهربائية في المقام الأول
قبل الحرب، كانت حلب أكبر منافسي دمشق، أكبر مدن البلاد ومحركها التجاري. وفقا لرنا، التي كانت تراقبنا، لم ينم أهلها أبدًا أو لم يعتادوا على ذلك: لقد أدى الحصار الحكومي إلى تفتيت السوق الذي يعود الى القرن الرابع عشر، وفي معظم المدينة أطفأت الأنوار.
بعد مرور عامين ونصف على ما وصفه الجميع بتحرير شرق حلب الذي يسيطر عليه المتمردون، ما زالت الكهرباء تأتي من المولدات الكهربائية في المقام الأول. ومن دون أموال إعادة الإعمار الحكومية، كانت إعادة البناء تعتمد على المساعدات الفردية.
كان هناك أشخاص لا يستطيعون تحمل تكاليف الأبواب أو النوافذ، فالأشخاص الذين يعيشون مع القليل من الكهرباء يجلسون خارج المنزل كل ليلة حتى وقت النوم. من جانب آخر، بدأت المستشفيات الخاصة فقط في العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات مرارًا وتكرارًا، بينما ما زالت المستشفيات العامة في حالة خراب. ولكن في وضح النهار، كانت المنطقة مزدحمة بالباعة المتجولين وحركة المرور. أخبرتنا امرأة قابلناها في صالون أنها كانت تحصل على أول قصة شعر لها منذ بداية الحرب. كما أن المدارس قد فتحت.
المباني السكنية التي دمرت خلال الحرب من قبل القوات الحكومية في شرق حلب. دون أموال إعادة الإعمار الحكومية، يعتمد إعادة البناء على مساعدات المواطنين.
عمال يعيدون بناء السوق التاريخي في حلب.
كتب فوق لوحة إعلانية: “لقد عاد الأمن إلى سوريا”. لكن الأمن أثبت أنه بعيد المنال بالنسبة لأم أحمد، 28 عامًا، التي كانت تجلس منحنية مع أختها عند الغسق محاطة بالمباني محطمة. فالأزواج مفقودون وعلى حد قول المرأتين، تم احتجازهما مع تقدم القوات الموالية للحكومة في شرق حلب سنة 2015.
كان الذين يتبعون جميع خطواتنا يقتربون أكثر فأكثر. رنا، التي لم تذكر اسمها بالكامل، أخبرت أم أحمد أن الأمر أكثر تعقيدًا مما هو عليه، وأنه لا ينبغي لها أن تقول هذه الأشياء للصحفيين. وفي هذا الشأن، قالت أم أحمد “هل يجب أن نكذب؟ هذا ما حدث”. عند إذن، قادتها رنا إلى المطبخ، حيث سمعت أصواتاً مرتفعة ولكنها كانت هادئة عندما عادت.
في وقت لاحق، اشتكيت إلى وزير الإعلام حول وفرة المراقبين. فأجابني: “عليك أن تفهم نحن لسنا أمريكا. نحن نفعل ذلك بشكل مختلف. والجميع هنا يفترض أنك جاسوس”. عندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقنا مرافقو الاستخبارات العسكرية إلى الحدود اللبنانية. كان علينا أن نركن السيارة أكثر من أربع مرات على الطريق السريع لأن سيارتهم استمرت في التوقف؛ على ما يبدو، لم تكن صيانة السيارات في الميزانية. في كل مرة حاولوا فيها العودة إلى الطريق، كان صندوق السيارة من طراز سيدان السوداء المخدوشة يفتح دائما. وكانت هذه هي المرة الأولى التي ينحرف أي منهم عن البرنامج النصي طوال الأسبوع.
حتى بعد 8 سنوات من الحرب، لا تزال الأفضل
كيف يبدو النصر؟ ما لا يقل عن نصف مليون قتيل وأكثر من 11 مليوناً تركوا ديارهم، ركام للمدن، أشباح للجيران، مراكز التسوق للبعض، والخيار المحلي للآخرين. لقد شاهد معظم الناس الذين قابلناهم ما قالوا، وأغلقوا شفاههم ضد الحديث عن الماضي أو المستقبل، ورؤوسهم عازمة على مواصلة مهمة البقاء والصمود. لكن في كثير من الأحيان، ذَكرَنا شيء ما بأن سوريا كانت أقوى من حربها، مهما كانت طويلة، ومهما كانت فظيعة.
في وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبده، إنه كان يعرف بعض الأماكن لتناول الطعام بالقرب من الفندق منذ أيام ما قبل الحرب حيث كان يأخذ السياح إلى المدينة.
الانتظار في طابور لشراء خبز البيتا في حلب. يعيش الآن أكثر من ثمانية من كل عشرة أشخاص في فقر، حيث يبلغ دخلهم أقل من 3.10 دولار في اليوم للشخص الواحد.
القلعة، حصن من العصور الوسطى، عند غروب الشمس في حلب، حيث الكهرباء متقطعة.
في الواقع، كان أول مطعم تذكره السائق قد دمر وأيضا الثاني. في منتصف الطريق للحي التالي، وقف رجل في المدخل الوحيد المضاء بجوار علامة تقول “رستو أبو نواس” وحينها هرع أبو عبدو نحوه وقال: “السيد محمود هل تتذكرني؟ اعتدت أن آتي إلى هنا طوال الوقت. كان لديك أفضل طعام، الأفضل”. لكن، المالك، عبد الغني محمود، لم يتعرف عليه في البداية. بعد ذلك قال فجأة: “أوه نعم نعم”. كان المطعم فارغًا باستثناء رئيس الطهاة الذي يقف في الزاوية. كان غطاء الطاولة ملطخا وكذلك كانت الصور الزيتية لحلب القديمة على الجدران. كان الذباب يحوم حول منطقة الطعام. الشيء الوحيد الذي لم يبدوا كما لو أنه مرت عليه عدة عقود من الزمان هو الطاولة المليئة بالطماطم الطازجة والخيار والفجل والنعناع.
عندما طلب أبو عبده تناول مشروب بالثلج، اعتذر السيد محمود: “لقد تم تحطيم المولد الذي يشغل الثلاجة، لذا لم يكن هناك جليد”. نظرت إلى المترجم الفوري وقلت له: “هل فعلا كنا سنأكل اللحم هنا؟” قُدم لنا أولا الخضروات ثم الحمص المتبل والباذنجان المشوي ومن ثم العديد من الأطباق من الدجاج المشوي المتبل والكباب.
في الواقع، لقد بدأت الأكل ونسيت على الفور أمر التبريد. لقد تناولت هذه الأطباق عدة مرات من قبل في لبنان والآن في سوريا ولكن هذه كانت الأفضل. وفي هذا الصدد، قال أبو عبده “إنه نفس الشيء. نفس الطعم الذي أتذكره”. عندما غادرنا، كان الشارع مظلمًا وفارغًا. كان الوقت لا يزال مبكرا، لكن مرت سنوات عديدة على بقاء حلب مضاءة طوال الليل.
المصدر: نيويورك تايمز