عند الحديث عن العلاقات الإستراتيجية والاقتصادية والامتدادات العرقية والقومية التركية، تقفز دولة أذربيجان إلى الذهن مباشرة، باعتبارها دولة شقيقة، بل أكثر؛ فهي نموذج لمصطلح “الدول التركية”، حيث ينظر الأذربيجانيون إلى تركيا نظرة الوطن الأم والحاضنة والشقيق الأكبر، ويراهم الأتراك أخوتهم بالدم والعرق.
ينتمي الأذريون إلى القومية التركية، فأذربيجان دولة ذات غالبية عرقية تركية، وتتجاور مع تركيا في الشمال الشرقي، وعضو مهم في المجلس التركي (الدول الناطقة باللغة التركية) الذي أنشئ في 2009 ويبلغ عدد أعضائه 7 دول، كما أن تركيا أول دولة اعترفت بجمهورية أذربيجان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، علاوة على أنها أكبر دولة داعمة لأذربيجان في قضية إقليم قره باغ المحتل من أرمينيا.
فيما تعتبر اللغة الأذرية من أقرب اللغات للغة التركية، فالأذرية هي لغة تركية من فرع أغوز، قريبة جدًا من التركية اليوم، لكن متأثرة بالعربية والفارسية والروسية، ويوجد حاليًّا بين 13 و30 مليون متحدث باللغة الأذرية.
دفاع تركيا التاريخي عن أذربيجان
العلاقات بين البلدين ليست محصورة في اللغة والثقافة فقط، بل هناك حروب تاريخية وقف بها التركي والأذري كتفًا لكتف، فدُفنوا جنبًا إلى جنب في حرب تحرير “باكوا” التي خاضها جيش القوقاز الإسلامي الذي أرسلته الدولة العثمانية، بقيادة العثماني “أنور باشا” عام 1918، من أجل تحرير بلاد القوقاز من الاحتلال البلشفي، بناءً على طلب تقدم به مسلمو أذربيجان وداغستان.
في مئوية تحرير باكو العام الماضي، ذهب الرئيس التركي للمشاركة شخصيًا في احتفال النصر الذي أحرزه البلدان المتكاتفان بقوله: “أترحم على جميع الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استقلال أذربيجان”
وقدم سكان أذربيجان دعمًا كبيرًا للجيش العثماني إبان دخوله جنوب القوقاز، وبادروا بشكل واسع النطاق بالانضمام إليه من أجل القتال في صفوفه ضد القوات البلشفية والعصابات الأرمنية، واستطاع جيش القوقاز الإسلامي فرض سيطرته على مدن ومناطق إستراتيجية مهمة في أذربيجان مثل: “كنجه” و”كويجاي” و”ساليان” و”آقصو” و”كوردمير” و”شماخي”، بعد أن فرض سيطرته على العاصمة “باكو” عقب قتال عنيف ضد قوات الاحتلال البلشفي والعصابات الأرمنية.
وفي مئوية تحرير باكو العام الماضي، ذهب الرئيس التركي للمشاركة شخصيًا في احتفال النصر الذي أحرزه البلدان المتكاتفان بقوله: “أترحم على جميع الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استقلال أذربيجان. لقد سطروا ملحمة وطنية ستتناقلها الأجيال المقبلة على مر التاريخ. وكان لهذه الملحمة أثرًا مهمًا في الأخوّة الأبدية بين تركيا وأذربيجان. إن تركيا لديها مقابر في 34 دولة. وأذربيجان يوجد بها مقبرة لألف و132 شهيدًا تركيًا وتعد الدولة الثانية التي تحتوي على أكبر عدد من الشهداء الأتراك بعد تركيا”.
وأضاف الرئيس أردوغان “الشهداء الأتراك والأذربيجانيون يرقدون هنا بجانب بعضهم البعض وهذا يمثل الشراكة للبلدين. إن تركيا وأذربيجان دولتان شقيقتان ماضيهما وثقافتهما ولغتهما ودينهما واحد. نحن اليوم لا نحتفل بالذكرى المئوية لتشكيل جيش القوقاز الإسلامي والملحمة الأسطورية التي سطرها إخواننا الأذربيجانيون فقط، نحن في نفس الوقت دولتان بأمة واحدة”.
وتابع: “من خلال الكفاح الذي قام به جيش القوقاز الإسلامي والجيش الأذربيجاني عام 1918 تم وضع حجر الأساس لسيادة الأراضي الأذربيجانية. إن تركيا كانت أول دولة تعترف بأذربيجان التي أعلنت استقلالها من جديد عام 1991“.
لتركيا أيضًا مواقف حاسمة في أزمة “قره باغ” بين أذربيجان وأرمينيا، التي تعود إلى عام 1992 إبان سقوط الاتحاد السوفيتي، عندما سيطر الانفصاليون المدعومون من أرمينيا على الإقليم، وتمكّنوا من احتلاله وأخذه من أذربيجان في حرب دامية راح ضحيتها ما يقارب 30 ألف شخص.
حيث أغلقت تركيا حدودها مع أرمينيا إثر الأزمة بينها وبين أذربيجان عام 1993، واشترطت تركيا لتطبيع العلاقات بينها وبين أرمينيا تحرير إقليم قره باغ الأذربيجاني المحتل من أرمينيا، وتعد تركيا من أكبر داعمي أذربيجان في هذه الأزمة.
الدعم التركي لأذربيجان في هذه الأزمة لم ينته، وذلك ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستمرار دعم بلاده لأذربيجان فيما يتعلق بإيجاد حل سلمي لقضية قره باغ ضمن وحدة الأراضي الأذرية
لم تنته أزمة قره باغ حتى الآن، رغم استمرار التفاوض بين البلدين منذ وقف إطلاق النار عام 1994، لكن المناوشات والتهديدات باندلاع الحرب ما زالت مستمرة، في ظل عدم توقيع أي من الطرفين على معاهدة سلام دائم، وبينما تهدد أذربيجان باستخدام القوة لاستعادة الإقليم حال فشل المفاوضات، تؤكد أرمينيا استعدادها للرد بعنف حال لجوء جارتها للحرب.
وبذلك، فإن الدعم التركي لأذربيجان في هذه الأزمة لم ينته، وذلك ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باستمرار دعم بلاده لأذربيجان فيما يتعلق بإيجاد حل سلمي لقضية قره باغ ضمن وحدة الأراضي الأذرية، قائلاً: “موقفنا واضح تمامًا في هذا الموضوع، ومن المستحيل أن نتراجع عنه”.
“باكو” أول زيارة للرئيس التركي
بعد يوم واحد فقط من أداء رجب طيب أرودغان اليمين الدستورية لرئاسة للجمهورية التركية لولاية ثانية العام الماضي، توجه إلى “باكو” عاصمة أذربيجان، ليفي بوعده لصديقه الرئيس الأذري إلهام عالييف، بأن تكون باكو أول عاصمة يزورها بعد فوزه بالانتخابات.
تُعد تركيا من أكثر الدول تعاونًا مع أذربيجان في المجال الاقتصادي، حيث بلغ حجم الصادرات التركية إلى أذربيجان عام 2011 مليارين و65 مليون دولار وارتفعت إلى 2.960 مليار دولار عام 2013، فيما بلغ حجم الواردات 2.290 مليار دولار عام 2014
وكان هذا الوعد ذاته قد قطعه علييف لأردوغان قبيل فوزه بولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية بأذربيجان العام الماضي، وزار بعدها علييف أنقرة في أول زيارة خارجية له بعد فوزه، وكان لهذه الزيارات دلائل كبيرة تصف مدى الرابط العميق بين البلدين اللذين يرفعان شعار “بلدان لشعب واحد”.
المشاريع الاقتصادية بين البلدين
تُعد تركيا من أكثر الدول تعاونًا مع أذربيجان في المجال الاقتصادي، حيث بلغ حجم الصادرات التركية إلى أذربيجان عام 2011 مليارين و65 مليون دولار وارتفعت إلى 2.960 مليار دولار عام 2013، فيما بلغ حجم الواردات 2.290 مليار دولار عام 2014م، وتعتبر المواد الصناعية الأكثر تصديرًا إلى أذربيجان، حيث بلغت نسبة الصادرات الصناعية 86% من حجم الصادرات.
وإلى جانب التجارة، فإن عدد الشركات التركية التي تستثمر في أذربيجان يبلغ أكثر من 2600 شركة، بينما يبلغ عدد الشركات الأذربيجانية في تركيا نحو 1600 شركة، وتم توظيف استثمارات أذربيجانية بمبلغ 5 مليارات دولار أمريكي في تركيا، أما تركيا فاستثمرت 6.3 مليار دولار في أذربيجان.
مشروع “تاناب”.. شراكة الغاز
وقعت تركيا وأذربيجان مشروع “تاناب” لنقل الغاز الطبيعي الأذري إلى أوروبا عبر الأراضي التركية عام 2012، الذي تم افتتاحه العام الماضي، ويُعتبر من أهم مشاريع الطاقة على مستوى العالم، لأنه سيعطي الأفضلية لتركيا على أنها نقطة مرجعية في أسواق الطاقة العالمية، إذ سيفتح المشروع المجال أمام إمكانية نقل الدول المالكة لاحتياطي واسع من الغاز الطبيعي، وعلى رأسها دول منطقة بحر قزوين، لمصادر الطاقة إلى الأسواق العالمية عبر الأراضي التركية.
بفضل مشروع “تاناب” ستنخفض كلفة إنتاج الطاقة وستتمكن تركيا من تأمين الغاز دون انقطاع، حيث ستبلغ حصتها، ضمن المرحلة الأولى من المشروع، ملياري متر مكعب
يقول الباحث إسماعيل كافاز من قسم الاقتصاد بكلية العلوم السياسية في جامعة يلدريم بيازيد بأنقرة، إن هذ النوع من الأنشطة سيتطور ويزداد مع مشاريع الطاقة الدولية، مثل “تاناب”، ضمن أهداف تركيا للعب دور فعّال في أسواق الطاقة العالمية والتحول إلى دولة مركزية في قطاع الطاقة.
وأضاف أنه بفضل مشروع “تاناب” ستنخفض كلفة إنتاج الطاقة وستتمكن تركيا من تأمين الغاز دون انقطاع، حيث ستبلغ حصتها، ضمن المرحلة الأولى من المشروع، ملياري متر مكعب، على أن تصل لاحقًا إلى 6 مليارات متر مكعب، وبهذا ستتضاعف كمية الغاز الأذري المصدر إلى تركيا، ما سيؤدي إلى انخفاض نسبة اعتمادها على الغاز الروسي، وبالتالي تقليص المخاطر السياسية والاقتصادية الناجمة عن هذا الأمر.
وقد صرح سالتوك دوزيول مدير عام المشروع، في وقت سبق أنه يُنتظر أن تزيد واردات تركيا من الغاز الطبيعي عبر مشروع خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي العابر للأناضول “تاناب” زيادةً تدريجيةً من مليار وربع مليار متر مكعب أُرسلت بين 30 من يونيو/حزيران عام 2018 و28 من فبراير/شباط عام 2019، إلى 4 مليارات متر مكعب بحلول نهاية هذا العام.
عام 2017 تم افتتاح خط حديدي دولي يربط بين أذربيجان وتركيا مرورًا بجورجيا “باكو ـ تبليسي ـ قارص”، يهدف إلى نقل مليون مسافر سنويًا، بالإضافة إلى 6.5 مليون طن بضائع بين البلدان الثلاث
كما سيوفر خط الأنابيب الذي تبلغ طاقته 16 مليار متر مكعب، 6 مليارات متر مكعب من الغاز لتركيا سنويًّا، في حين أن الـ10 مليارات متر مكعب المتبقية موجهة إلى الأسواق الأوروبية عبر خط الأنابيب العابر للأدرياتيكي تاب TAP. سوف يعبر مشروع تاب الذي تبلغ قيمته 4 مليارات ونصف مليار يورو (5.08 مليار دولار) اليونان وألبانيا والبحر الأدرياتيكي للوصول إلى إيطاليا، ويجري العمل على بناء المحطة الأوروبية للمر “تاب”، ومن المتوقع الانتهاء من تجهيزها بحلول عام 2020.
طريق الحرير الحديدي
عام 2017 تم افتتاح خط حديدي دولي يربط بين أذربيجان وتركيا مرورًا بجورجيا “باكو ـ تبليسي ـ قارص”، يهدف إلى نقل مليون مسافر سنويًا، بالإضافة إلى 6.5 مليون طن بضائع بين البلدان الثلاث، كما يسهم الخط من خلال ربطه بين تركيا وآسيا ومنطقة القوقاز والدول الأوروبية، في نقل 50 مليون طن من البضائع كل عام.
ويمتد المشروع على طول 838.6 كيلومتر، ولا تقتصر أهميته على تركيا فقط، بل سيعود بالنفع على جميع بلدان العالم التي ترغب في التجارة من خلال تركيا، حيث ستمر البضائع المُراد شحنها من الصين وكازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، إلى أوروبا عبر تركيا.
الهدف العكسري الواحد “الأخوة الراسخة”
انطلقت في جمهورية نخجوان ذاتية الحكم التابعة لأذربيجان، يونيو الماضي، مناورات عسكرية مشتركة بين قوات مسلحة تركية وأذرية، تحمل اسم “الأخوة الراسخة 2019″، وأشارت وزارة الدفاع الأذرية في بيان لها إلى مشاركة 5 آلاف جندي ونحو 200 دبابة ومدرعة و21 طائرة ومروحية من الجانبين في المناورات.
تهدف البلدان، تركيا وأذربيجان، إلى التضامن في السلم والحرب والاجتماع على كلمة واحدة وموقف واحد وتطوير العمل المشترك والصداقة بين جيشيهما
وأوضحت الوزارة أن الهدف من المناورات تطوير التنسيق بين الجيشين والقدرة على تنفيذ عمليات مشتركة، من خلال تبادل القوات المسلحة الخبرات، وأضافت أن التدريبات تتضمن سيناريوهات عديدة، منها استهداف أهداف رمزية للأعداء وعمليات الإنقاذ.
تهدف البلدان، تركيا وأذربيجان، إلى التضامن في السلم والحرب والاجتماع على كلمة واحدة وموقف واحد وتطوير العمل المشترك والصداقة بين جيشيهما، وأكد ذلك وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في أثناء العملية، قائلاً إن بلاده وأذربيجان تقفان معًا ضد جميع أنواع التهديدات والمخاطر، وفي الحزن والفرح.
وأشار أكار، إلى أن حماية شعبي البلدين، خصوصًا في ظل ارتفاع المخاطر والتهديدات بالمنطقة في الفترة الحاليّة، يتطلب جيشًا رادعًا وفعالاً، قادرًا على الحركة في أي لحظة، وأكمل: “توافر أسلحة وآليات حربية حديثة، وتكوين جيد للعناصر البشرية، ضروري من أجل الحصول على جيش بهذه المواصفات”.
ختامًا إن ما تقوم به كل من تركيا وأذربيجان هو أفضل نموذج لتحالف البلدان ذات القومية والعرقية والدم الواحد، هدفها رفعة هذه البلدان بسكانها واقتصادها وجيشها، بالتقاء المصالح وتنميتها لصالح الجميع، إذ تمنح تركيا التقنية والخبرة لأذربيجان، وهناك مشاريع عملاقة لاستفادة تركيا من النفط والغاز الأذربيجاني.
ويتجلى ذلك في خطاب الرئيس التركية في عيد استقلال أذربيجان بقوله: “تركيا قدمت كل ما في وسعها من أنواع الدعم لأذربيجان الشقيقة منذ استقلالها، ولا تعتبر تركيا اليوم أهم شريك لها في المجالين السياسي والعسكري فقط بل في المجالات التجارية والاقتصادية والثقافية والمجالات الأخرى كافة، إن عدد الأذربيجانيين الذين تلقوا تعليمهم في تركيا منذ استقلال أذربيجان تجاوز 125 ألف طالب. والآن يواصل أكثر من15 ألف أذربيجاني تلقي تعليمهم في الجامعات التركية. وفي الوقت الذي يشارك فيه جنود البلدين في مناورات عسكرية مشتركة يلتحق جنود البلدين بمختلف الأنشطة العسكرية في أفغانستان وأنحاء العالم كافة”.