ماذا يحدث في روسيا؟ ولماذا اشتعلت فيها حمى تظاهرات السترات الصفراء؟ سؤال تقليدي سيقفز إلى ذهنك وأنت ترى السجال الحاد الذي وقع بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحافي مشترك في جنوب فرنسا الإثنين الماضي، كان بالأساس صراعًا بين ثقافتين واتجاهين متناقضين في السياسة والمعرفة والحقوق وكل شيء، حيث شبه زعيم الكرملين قمع المظاهرات المطالبة بالديمقراطية في بلاده بأعمال العنف التي رافقت حركة السترات الصفراء الاحتجاجية في فرنسا، فأوقفه ماكرون على الفور.. لا مجال للتشابه بيننا.
اضطرابات واسعة وقمع شديد
اعتقالات طالت نحو ثلاثة آلاف متظاهر منذ منتصف يوليو، وأعمال شغب تشتعل على نطاق واسع، تعبر عن غضب كامن في النفوس، للمطالبة بانتخابات نزيهة، إذ ترفض قوى المعارضة قرار لجنة الانتخابات في موسكو بعدم تسجيل مرشحين معارضين للمشاركة في انتخابات بلدية موسكو، وإثر ذلك شهدت العاصمة الروسية احتجاجات واسعة على القرار ذاته بداية من يوم 27 من يوليو، وما زلت مستمرة حتى الآن.
تجاوز المتظاهرون المدى، ولأول مرة منذ فترات طويلة لا يخاف المشاركون في الاحتجاج من انتقام السلطة وحصد 15 عامًا خلف الأسوار في السجون، وهي العقوبة المحددة لإثارة الشغب، وقد تكون لافتة كافية للغاية لاحتواء كل معارض يخرج عن المسار المرسوم له.
اللجنة القضائية التي شكلت لفتح تحقيقات في الأحداث، تجاهلت بالطبع الأسباب السياسية للتظاهرات، واتهمت المشاركين بارتكاب أعمال عنف ضد عناصر الشرطة ومسؤولين، وأعلنت أن التحقيق لن يقتصر على المنظمين، بل سيشمل المشاركين في التظاهر، بعدما خرقوا النظام العام واستخدموا العنف ضد السلطات و”شلّوا حركة السير” في وسط موسكو، بحسب البيان الصادر عن اللجنة.
كان واضحًا حشد كل مؤسسات الدولة، ضد الروح الجديدة التي لا تناسب من وجهة نظرهم خصوصية المجتمع الروسي، فنائب المدعي العام الروسي ألكسندر بوكسمان، اتخذ بدوره عدة قرارات حاسمة ووضع المزيد من إجراءات المراقبة الشديدة، خلال التحضير وإجراء انتخابات البلدية القادمة، لضمان عدم تكرار الأحداث التي وقعت في موسكو خلال الآونة الأخيرة، ولم يكتف بذلك، بل طالب القضاء بالقسوة في الرد على أي عمل للمنظمين والمشاركين في أعمال عامة غير مشروعة أو غير مرخص لها.
في قلب الأحداث استحوذ متظاهر اُتهم بإلقاء صندوق قمامة على شرطي، على الكثير من صخب الأحداث، بعدما أدوع بالسجن لمدة شهرين انتظارًا لمحاكمته
استجابت المحاكم الروسية لنداء المدعي العام، وأعلنت أنها أمرت باعتقال 60 شخصًا على رأسهم زعيمة المعارضة ليوبوف سوبول، وهي محامية ومدونة فيديو وأحد المرشحين المستبعدين من الانتخابات المحلية، وأضربت عن الطعام لمدة 21 يومًا، ثم زادت في تصعيدها بالتوجه للمشاركة في الاحتجاجات، ولكن الشرطة لم تدعها تخرج من سيارة أجرة كانت على وشك الانطلاق للتجمع، وتم جرها إلى سيارة أمنية سوداء وانطلقت بعدها مسرعة.
في قلب الأحداث استحوذ متظاهر اُتهم بإلقاء صندوق قمامة على شرطي، على الكثير من صخب الأحداث، بعدما أدوع بالسجن لمدة شهرين انتظارًا لمحاكمته، وقد يتعرض للسجن حتى 5 سنوات، وهي الإجراءات الحاسمة، من وجه نظر عمدة موسكو سيرجى سوبيانين الذي وجه التحية إلى الشرطة على الفور، في تعاملها مع المتظاهرين الذين شاركوا في مظاهرة غير مصرح بها، واضطروا الشرطة – بحسب تعبيره – لاستخدام القوة ضدهم.
لماذا يتصاعد الاحتجاج في الشارع الروسي؟
يبدو أن المعارضة الروسية، ضاقت ذراعًا من القبضة الحديدية التي يفرضها الرئيس بوتين الذي جاء للسلطة عام 1999، وهو ابن الـ46 ربيعًا، صحيح أنه حمل أحلامًا إمبراطورية للروس وحقق الكثير منها، ولكنه في الوقت نفسه لم يحافظ فقط على النمط الاستبداي للنظام السياسي في بلاده، ولكنه طور منه، حتى استطاع خلال أعوام قليلة من حكمه، إخضاع جميع السلطات التنفيذية لإرداته، وضاعف من سيطرة الدولة على الاقتصاد، وبعث الروح في القوات الأمنية السرية.
سيطر بوتين على المجتمع المدني وقيد حقوقه، وأصبحت التجمعات العامة تتطلب الحصول على إذن مسبق من السلطات، وتبعها قيود أشرس على الحريات الفردية
يعيش بوتن منذ عام 2007 – فترة حكمه الثانية – على تحصين روسيا بفكرة السيادة، وتحت هذه اللافتة عزز مفاهيم أخرى مثل العزلة والاقتصاد السيادي والغزو كما حدث في ضم إقليم القرم الأوكراني عام 2014، ومع استمراره في السلطة لعقدين من الزمان، حدث تغيير عميق في روسيا، إذ أصبح الرجل “أيقونة” روسية للشعبويين في بلاده، تغزو صوره قمصانهم، وتوضع على الأكواب والساعات وغيرها من المنتجات، فهو بالنسبة للكثير من الروس مدير الأزمات ومصلحها والمدافع الشرس عن الأمة.
مع توحش شعبية بوتين وسلطته في المقابل، لم يعد أمام الديمقراطيين الليبراليين أي فرصة ممكنة، خاصة أن العلاقة بين الطرفين لم تكن على ما يرام منذ توليه قيادة المخابرات بترشيح من الرئيس السوفيتي الأسبق يلتسن، فسيطر بوتين على المجتمع المدني وقيد حقوقه، وأصبحت التجمعات العامة تتطلب الحصول على إذن مسبق من السلطات، وتبعها قيود أشرس على الحريات الفردية، وأصبحت السلطات حساسة للغاية، ولديها نهم باعتقال المعارضين، ولسبب أو لآخر أصبح هناك قانون يعاقب من يسيء إلى المسؤولين على الإنترنت.
قمع بوتن الذي أصبح يميز نظم حكمه، قابله المواطنون بمعارضة خفيفة، حيث باتوا مستعدين لتقديم بعض التنازلات نظير ملء ثلاجاتهم والابتعاد عن حياة الفقر، بفضل ارتفاع سعر النفط، خاصة أن بوتين نجح في ذلك، بجانب أنه قاد عملية عبور آمن للسلطة، دبرها بتولي منصب رئيس الوزراء في 2008 وترك منصبه لديمتري ميدفيدف الذي حاول تطبيق نكهة ديمقراطية، فشاب البلاد حالة من عدم الاستقرار السياسي والاحتجاجات الجماعية، ليخرج بوتين في أكثر من لقاء يعرب فيه عن ندمه تسليم السلطة، وقاتل من جديد للعودة للحكم، وعاد بالفعل في 2012.
الخلاف بين المدرستين، لم يستطع بوتين تبريره، فاكتفى بمكايدة الإعلام الفرنسي، خلال لقائه بالرئيس ماكرون، ردًا على إحراجه بتعامل سلطاته مع متظاهري السترات الصفراء
شيء ما كان يفور تحت السطح، اعتراضًا على المنهج الأمني لبوتين، حتى تفجرت الأوضاع منذ بداية الصيف الحاليّ، إذ تضج البلاد باحتجاجات نشطة بقوة وتطالب بانتخابات حرة، في محاولة لقطع الطريق على بوتين بعد نهاية ولايته الثانية على التوالي، التي ستنتهي عام 2024، ما لم يتغير الدستور، حتى لا يتمكن من البقاء في سدة السلطة أكثر من ذلك، ومن ثم استمرار القمع على جميع المستويات.
لماذا ترفض أوروبا مقارنتها بروسيا؟
لا دخل لأوروبا بما يحدث في روسيا، هكذا يمكن فهم ما يحدث من الجدل الذي دار بين بوتين وماكرون، فأوروبا لا ترفض فقط اتهامها بتصدير تظاهرات السترات الصفراء إلى موسكو كما قال البرلمان الروسي، ولكنها ترفض أي مقارنة بين أسباب اندلاع تظاهرات السترات الصفرات في فرنسا أو أي بلد أوروبي آخر، وما يحدث في روسيا.
الخلاف بين المدرستين، لم يستطع بوتين تبريره، فاكتفى بمكايدة الإعلام الفرنسي خلال لقائه بالرئيس ماكرون، ردًا على إحراجه بتعامل سلطاته مع متظاهري السترات الصفراء، وذكرهم بسقوط 11 قتيلاً و2500 جريح، من بينهم ألفان من عناصر الشرطة ـ بحسب إحصاءاته ـ وكأنه يقول لهم، إن كانت المظاهرات سلمية وإن كنتم ديمقراطيين حقًا، لماذا وقع كل هذا العدد من الضحايا، حسنًا، لا نريد أن تقع لدينا مثل هذه الأحداث في العاصمة الروسية.
فرنسا شهدت حالات تخلّلتها أعمال عنف، أسفرت عن سقوط جرحى في صفوف المتظاهرين وقوات الأمن على حد سواء، غير أن فرنسا احترمت دستورها وحقوق مجلس أوروبا، فحرية التظاهر تمت حمايتها
طريقة حديث بوتين والغمز واللمز، رفضها ماكرون بشكل واضح، ورد عليه أمام الكاميرات بشكل حاسم، ليؤكد أنه لا وجه للشبه بين ما جرى في فرنسا وما يجري في روسيا، في فرنسا يوقعون معاهدات تصون الحرية الفردية ويحترمونها، يقول ماكرون ويكمل: “فرنسا شهدت حالات تخلّلتها أعمال عنف، أسفرت عن سقوط جرحى في صفوف المتظاهرين وقوات الأمن على حد سواء، غير أن فرنسا احترمت دستورها وحقوق مجلس أوروبا، فحرية التظاهر تمت حمايتها، لكن عندما يعتدي البعض على النظام العام فيجب عندها الحفاظ عليه، كما أن الذين تظاهروا ترشحوا بكل حرية في الانتخابات، وأصحاب السترات الصفراء شاركوا بحرية في الانتخابات الأوروبية، وسيشاركون في الانتخابات البلدية، بعكس روسيا التي وقعت على معاهدات دولية تنص على أن حرية التعبير وحرية الرأي وحرية التظاهر وحرية الترشح للانتخابات مكفولة، وكان ذلك سببًا كافيًا لفرنسا لأن تدعو روسيا إلى الالتزام بهذا الأمر، لأنه يثير قلق كثيرين، ويمد نزعة عنف السلطة في كثير من بلدان العالم”.