ترجمة وتحرير: نون بوست
ليست الحرب مجرد مبانٍ مدمرة وسكان مشردين، بل هي مأساة إنسانية تترك وراءها عواقب مادية طويلة الأمد على الأفراد والمجتمعات.
وأدت الهجمات الإسرائيلية المتكررة على المستشفيات والقيود الإسرائيلية المشددة على دخول المساعدات إلى غزة على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية إلى عجز قطاع الرعاية الصحية عن تقديم الرعاية الطبية اللازمة بسبب نقص الموارد الطبية والبشرية، فقد دُمرت العديد من المستشفيات، بينما أغلقت مستشفيات أخرى بسبب القصف أو نقص الإمدادات الأساسية، وواجه الأطباء والممرضون ضغطاً هائلاً، حيث تعاملوا مع أعداد هائلة من المرضى وسط نقص حاد في المعدات والأدوية، وقد ارتكبت القوات الإسرائيلية انتهاكات جسيمة بحق الطواقم الطبية؛ فقتلت العشرات من الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية، وسجنت وعذبت كثيرً منهم.
وأدت الحرب في غزة إلى انتشار العديد من الأمراض بسبب البنية التحتية المدمرة والتلوث البيئي ونقص الخدمات الصحية الأساسية واكتظاظ مخيمات اللاجئين ومراكز إيواء النازحين ونقص المياه والكهرباء، وقد عايشتُ بنفسي كيف تشكل هذه الأمراض جزءًا من الخسائر الخفية للحرب، مع عواقب حقيقية طويلة الأمد على المتضررين، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الساري حاليًا، إلا أن الوضع الصحي لا يزال محفوفًا بالمخاطر في غزة؛ حيث لا تزال الظروف غير الصحية تشكل خطرًا حتى لو توقفت القنابل.
تفشي التهاب الكبد الوبائي (أ) والتسمم الغذائي والأمراض الجلدية
يعد أحد أكثر الأمراض انتشارًا في غزة هو التهاب الكبد الوبائي (أ)، والذي ينتج عن شرب المياه الملوثة؛ فمع تدمير إسرائيل لشبكات المياه والصرف الصحي في غزة، لم يكن أمام الناس خيار سوى الاعتماد على مصادر المياه الملوثة للبقاء على قيد الحياة، مما أدى إلى تفشي الفيروس على نطاق واسع.
ولجأ الآلاف من الفلسطينيين إلى المدارس المزدحمة أو المستشفيات أو المخيمات؛ حيث لا يوجد سوى حمام واحد في المتوسط لحوالي 700 شخص، مما تسبب في انتشار المرض كالنار في الهشيم.
وتبدأ الأعراض بالتعب الشديد وإرهاق الجسم والغثيان والقيء وعدم القدرة على تناول أي شيء، ولسوء الحظ، لا يوجد علاج لالتهاب الكبد من النوع (أ)، وقد يستغرق التعافي منه أسابيع أو أشهر.
لقد أصبتُ بالتهاب الكبد (أ) بعد استخدام حمام عام، ولم أكن أتخيل أبدًا أن دقيقة واحدة في دورة المياه تلك ستكون كافية للإصابة به أو التسبب لي في كل هذا الألم، وبعد بضعة أيام، بدأت أشعر بإرهاق شديد في جميع أنحاء جسدي، ولم أستطع الوقوف على قدمي لأكثر من بضع دقائق، ولم أتمكن من تناول أي شيء، وكان الغثيان والتقيؤ مستمرًا، وشعرت وكأن أحشائي تخرج من داخلي، وكنت أشعر بطعم الصفراء الحامضة في فمي، وفقدت شهيتي تمامًا، وفقدت أيضًا ستة كيلوغرامات (13 رطلاً) في غضون أسبوعين.
كنت أبكي طوال الوقت من شدة الألم، وكنت خائفة من نقل العدوى إلى عائلتي، خاصةً أطفال أختي الصغار.
وأدى نقص الكهرباء وتدمير إسرائيل للبنية التحتية لتخزين الأغذية والبنية التحتية للنقل إلى تلف واسع النطاق للأغذية في غزة، والذي أدى بدوره إلى تفشي التسمم الغذائي بين السكان، خاصة في ملاجئ النازحين المكتظة، وفي ظل المجاعة التي تواجهها غزة، يمثل الغذاء الملوث خطرًا رهيبًا على مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعانون بالفعل من المجاعة مع وجود خيارات قليلة لإطعام أنفسهم.
يمكن أن يسبب التسمم الغذائي التقيؤ والإسهال والحمى والأوجاع والجفاف، ويمكن أن تكون آثاره شديدة بشكل خاص على الأطفال وكبار السن ومن يعانون من ضعف الجهاز المناعي، وهذا على الأرجح حال معظم الناس في غزة بعد أن عاشوا لأكثر من عام في ظروف سيئة للغاية.
وتسببت وجبة بسيطة من الأرز والخضروات في إصابة أطفال نورا حمدان الخمسة بالغثيان والقيء لعدة أيام.
وقالت نورا: “أصيب أطفالي بتسمم غذائي بعد تناولهم طعامًا قدمته إحدى المنظمات المانحة، لم ندرك أنه كان فاسدًا. ما زلت أتذكر فرحة أطفالي وهم يأكلونه بحماس شديد بعد الجوع الشديد الذي عانينا منه”.
من المؤسف أن الطعام غالبًا ما كان يباع فاسدًا بالفعل أو غير صالح للاستهلاك، مما عرّض الأشخاص اليائسين الذين يعانون من الجوع للخداع بطرق قاسية.
وكانت رهف صابر البالغة من العمر 19 عامًا تقيم خارج دير البلح مع عائلتها عندما وجدت بائعًا في السوق يبيع الحليب المجفف مقابل 20 شيكلُا (حوالي 6 دولارات).
تتذكر رهف: “كنت سعيدة للغاية واشتريته ثم عدت إلى المنزل، وعندما فتحته، كانت رائحته غريبة، لكنني اعتقدت أن هذه هي طبيعته. حاولت إعداد كوب منه، لكن شكله وطعمه كانا أسوأ من ذلك؛ فتحققت من تاريخ انتهاء الصلاحية ووجدت أنها منتهية”.
وتابعت رهف: “عدت إلى البائع لإبلاغه، لكنه أخبرني أن الأمر ليس من مسؤوليته ورفض أن يعيد لي المبلغ، وعندما سألته عما إذا كان سيسمح لأطفاله بشربه، أجابني بغرور أنه اشترى النوع الغالي الثمن لأطفاله وليس هذا النوع”، ورمت رهف الحليب المجفف بعيدًا وهي غاضبة من إهدار أموالها الثمينة على طعام فاسد.
وتساءلت قائلة: “كيف يمكن لشخص أن يبيع حليبًا منتهي الصلاحية عن علم؟ لن أنسى أبدًا سعادة إخوتي الصغار عندما أخبرتهم أنني اشتريته”.
ومثل العديد من سكان غزة الآخرين، واجهت نورا ورهف مجموعة من المشاعر المتقلبة، من فرحة العثور أخيرًا على شيء لإطعام عائلتيهما إلى خيبة الأمل الرهيبة وتفضيل الاستمرار في الجوع على المخاطرة بالتسمم الغذائي.
وانتشر أيضًا الجرب والقمل والالتهابات الجلدية الفطرية على نطاق واسع في ملاجئ النازحين بسبب نقص المياه النظيفة ومرافق ومنتجات النظافة الشخصية، وحتى يوليو/تموز 2024، أفادت منظمة الصحة العالمية أن حوالي 150,000 شخص أصيبوا بأمراض جلدية بسبب الظروف المعيشية المزرية في غزة.
وأصيب الفتى علي غباين البالغ من العمر 14 عامًا بالجرب في صيف عام 2024 بعد أن كان يعيش مع عائلته في ملجأ مزدحم في دير البلح، ويقول: “لم تتوقف الحكة لأسابيع، ولم يكن هناك علاج سريع، وكان جسدي مغطى بالقروح والندوب. كان الأمر مؤلمًا للغاية، ولا تزال الندوب على جسدي”.
تتذكر الطبيبة إسلام الجوراني حالة مفجعة لمريضة صغيرة عالجتها في مستشفى الأقصى في دير البلح؛ حيث قالت الطبيبة: “جاءتني فتاة تبلغ من العمر 10 سنوات – أعتقد أنها اختارتني لأنني امرأة، وشعرت أنه سيكون من الأسهل عليها أن تثق بي أكثر من طبيب آخر – وكانت ترتدي الحجاب، وهو الأمر الذي فاجأني بالنظر إلى صغر سنها، وأخبرتني أنها كانت تعاني من القمل في شعرها وكانت تعاني من صعوبة في النوم بسبب ذلك”.
طلبت منها الطبيبة جوراني أن تنزع حجابها حتى تتمكن من رؤية ما يزعجها، لكن الفتاة الصغيرة رفضت.
قالت الطبيبة: “بدت محرجة، فأخذتها جانباً إلى منطقة خاصة، وعندما نزعت وشاحها، صُدمت؛ فقد كان رأسها عبارة عن مستعمرة من القمل، وكان شعرها متصلبًا لدرجة أنه كان ملتصقًا بأذنيها، وعندما حاولت سحبه للخلف، التهبت أذناها من الأوساخ والشعر المتشابك. كيف تحملت هذه الفتاة مثل هذه الحالة؟ عندها فهمت لماذا كانت ترتدي الوشاح وشعرت بالخجل”.
نصحت الطبيبة جوراني مريضتها باستخدام شامبو خاص للقمل، لكن الفتاة أخبرتها أنها لا تملك ماءً جاريًا في المكان الذي تعيش فيه، ولا تستطيع شراء الشامبو، ورغبة منها في مساعدتها، وصفت لها الطبيبة كريمًا خاصًا لأذنيها ووجهتها للحصول عليه مجانًا من صيدلية المستشفى، ولسوء الحظ لم يكن شامبو القمل متوفرًا في المستشفى.
تتذكر الطبيبة جوراني قائلةً: “في اليوم التالي، رأيتها وهي تحلق شعرها في فناء المستشفى؛ حيث كان هناك حلاق يعمل بأدوات بسيطة مقابل أجر زهيد. تلك الفتاة المسكينة. وقفت جانبًا أراقبها، ولم أكن أريدها أن تراني وتشعر بمزيد من الحرج، لكنها رأتني، وعندما التقت أعيننا رأيت في عينها حزنًا عميقًا ودموعًا”.
رئتان مليئتان بالدخان والغبار
تسبب استنشاق الدخان والغبار المتصاعد من المباني المنهارة إلى جانب العيش في ملاجئ غير صحية في انتشار التهابات وأمراض الجهاز التنفسي على نطاق واسع في غزة؛ فقد فقدت سعاد حسين، وهي امرأة مسنة، منزلها في خان يونس في غارة جوية إسرائيلية واضطرت إلى اللجوء إلى مدرسة مزدحمة.
وقالت: “عانيتُ من التهاب رئوي حاد بسبب البرد والغبار، ولم أستطع التنفس بسهولة، ولم يكن هناك ما يكفي من الأدوية”.
أصيبت سعاد بالالتهاب الرئوي بشكل خاص بسبب كبر سنها، وبينما كانت المدرسة توفر لها الدواء في بعض الأحيان، إلا أن الحصول عليه كان غير منتظم، وحتى يومنا هذا، تشعر سعاد بالتغيرات التي تطرأ على صحة رئتيها حسب الطقس؛ حيث تشعر بقسوة الشتاء بشكل خاص، وقالت: “أريد فقط العودة إلى المنزل”.
وأدى التعرض للدخان أيضًا إلى تفاقم المشاكل الموجودة مسبقًا بالنسبة لأولئك الذين يعانون بالفعل من الربو أو غيره من أمراض الرئة المزمنة، مع حدوث عواقب مميتة في بعض الأحيان.
وفقدت صديقة طفولتي نور علي حسن ثلاثة من أشقائها في الحرب، اثنان منهم بسبب فشل الجهاز التنفسي، وكانت شقيقتاها ملك وآلاء، وكلاهما في أوائل العشرينات من العمر، مصابتان بمرض التليف الكيسي، وهو حالة وراثية تؤثر على الرئتين والجهاز الهضمي من خلال إنتاج مخاط سميك.
قالت نور: “كانت حالتهما مستقرة إلى أن تم قصف برج سكني قريب في حي النصيرات، واستشهد أخي الأصغر عبد الرحمن في ذلك الهجوم”، كان الهجوم خلال الشهر الأول من الحرب، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأضافت نور: “أتذكر رؤية المنطقة، كانت ضبابية ومظلمة ومليئة بالغبار، ولم أستطع التنفس”.
انتقلت الأسرة الناجية إلى منزل أحد الأقارب في رفح، ولكن حالة ملاك وآلاء بدأت تتدهور بعد فترة وجيزة.
وأضافت نور: “نظرًا لنقص الأدوية وانقطاع التيار الكهربائي، استمرت حالة آلاء في التدهور، وأصبحت شاحبة وضعيفة وعيناها صفراوان وتنزف من فمها، نقلناها إلى مستشفى في رفح ومن ثم إلى المستشفى الأوروبي [بالقرب من خان يونس]، لكن حالتها ساءت ولم تعد قادرة على المشي”.
وتابعت نور: “في يوم الثلاثاء 9 يناير/كانون الثاني، في الساعة الثالثة صباحًا، فقدنا حبيبتنا آلاء. لقد كان وداعها مفجعًا، ودُفنت في رفح”.
لكن فاجعة العائلة لم تنتهِ بعد؛ حيث قالت نور: “بعد وفاة آلاء، بدأت تظهر على ملك نفس الأعراض: الضعف واصفرار العينين وعدم القدرة على المشي، وسعى والدي لعلاجها خارج غزة، وبعد شهرين من الانتظار، أُرسلت إلى مصر؛ حيث ذهبت مع شقيقتي هبة إلى مستشفى العريش، لكن حالتها لم تتحسن، ثم نُقلت لاحقًا إلى مستشفى آخر في مصر، حيث واجهت سوء المعاملة والإهمال الطبي”.
وأضافت نور: “رغم الألم، ظلت ملك متفائلة بشفائها، لكنها توفيت يوم الجمعة 19 أبريل/نيسان 2024 في الساعة الثانية صباحًا دون أن نتمكن من توديعها”.
تتذكر نور شقيقتيها اللتين كانتا محبوبتين وذكيتين ومندفعتين؛ آلاء خريجة إدارة أعمال، وكانت تطمح للحصول على درجة الماجستير في الخارج، وملك التي حصلت مؤخرًا على شهادة في تعليم اللغة الإنجليزية. ويفطر قلبها أنهما لم تعيشا لتشهدا اليوم الذي تتمكن فيه العائلة من العودة إلى النصيرات.
وقالت: “كنا نعلم أننا سنفقدهما، لكن هذا أسوأ شيء حدث في حياتي، لا أستطيع تخيل العودة إلى المنزل بدونهم. ملك، آلاء، عبد الرحمن، أنا أفتقدكم”
العواقب الصحية طويلة الأمد
بالإضافة إلى المعاناة المباشرة، تترك الحرب أثرًا دائمًا على صحة الناجين؛ فقد أصبحت أمراض الجهاز التنفسي الناجمة عن استنشاق الغبار والدخان والالتهابات الجلدية المزمنة والأمراض المعدية مثل التهاب الكبد الوبائي (أ) جزءًا من الحياة اليومية في غزة، ولا يقتصر خطر انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية على خطر الإصابة بالتسمم الغذائي فحسب، بل يضعف الجهاز المناعي أيضًا، مما يزيد من التعرض للأمراض والظروف المعيشية القاسية، كما يواجه المرضى الذين يعانون من حالات صحية وراثية أو مزمنة مثل السكري وأمراض مثل السرطان عواقب عدم الحصول على العلاج اللازم لإنقاذ حياتهم لأكثر من عام.
هذه الأمراض ليست مجرد أمراض مؤقتة؛ فآثارها الجسدية والنفسية سترافق المريض لفترة طويلة، إن لم يكن مدى الحياة. كما أن عدم توفر العلاج والموارد في المستشفيات يجبر الأطباء والممرضين على إعطاء الأولوية لحالات معينة على حساب حالات أخرى بناءً على خطورتها، وهذا الوضع ليس إنسانيًا على الإطلاق.
إن قصص المرضى في غزة ليست مجرد إحصاءات، بل هي شهادات حية على المعاناة الهائلة التي سببها الصراع؛ فقد تأثرت كل عائلة بهذه الأمراض. لقد اعتاد الناس على المرض والإرهاق، وكل ما يتمنونه هو مجرد البقاء على قيد الحياة، لقد تركوا منازلهم معتقدين أنهم سيجدون الأمان في جنوب غزة ليواجهوا المزيد من أكاذيب الاحتلال؛ حيث كانت ظروف النزوح مزرية: اكتظاظ الخيام التي لم توفر لهم أي حماية من برد الشتاء أو حر الصيف، ولا حماية من صواريخ الاحتلال.
وحتى مع وقف إطلاق النار، لا يزال الوضع الصحي حرجًا، فمعظم المستشفيات والمراكز الصحية مدمرة وغير قادرة على علاج المرضى. نحن بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى شاحنات الأدوية والمستلزمات الطبية وأسرة المستشفيات والوحدات الطبية المتنقلة والأطباء المتخصصين للتخفيف من معاناة غزة، ورغم أن آلة الحرب قد تباطأت، إلا أن الظروف المعيشية المزرية التي أوجدتها إسرائيل عمداً لا تزال تحصد الضحايا.
المصدر: موندويس