يقولون عنها جثثًا مجهولة الهوية، وما هي بمجهولة، إنما هي جثامين معروفة تعود لشعبٍ عريقٍ غني عن التعريف، لكن بسبب بطشهم يكاد الشعب يفقد هويته، وعلى إيدي قتلة معروفين، فلم تعد الجثث فقط من يتجاهلون هويتها، بل إن شعبنا العراقي يكاد هو الآخر بسبب سلوكياتهم، يفقد هويته. وإلا، كيف يتم المرور مرور الكرام على الغدرِ بمواطنين وتمزيق أجسادهم إلى أشلاء، انتقامًا منهم بسبب اختلافهم الطائفي؟ ويتم حجز جثثهم طيلة سنوات، دون أن يكون هناك رد فعل حكومي أو سياسي يتناسب مع هذه الجريمة؟ بل ويُتهم من يطالب بكشف ملابسات تلك الجريمة وفاعليها، بالدعوة للطائفية؟
ليست هذه الجريمة بجديدةٍ على الشعب العراقي، فقد عانى طيلة الفترة التي حُكم بها ممن جاء مع الاحتلال، من سلسلة من تلك الجرائم، ربما تختلف بالنوعية والأسلوب، ولكن الهدف واحد وواضح للجميع، بدءًا من الجثث الملقاة في أزقة وشوارع بغداد وباقي محافظات العراق أيام الحرب الطائفية التي شنت على المكون السنَّي، ومرورًا بالقصف الهمجي للمدن التي يسكنونها، وليس انتهاءً بتنفيذ أحكام الإعدام بحق الكثير من الأبرياء الذين كان كل ذنبهم أنهم لا ينتمون إلى الطائفة التي تريد سلطة النظام السياسي الحاليّ جعل الأغلبية لها.
طمس أدلة على الجريمة
وتتوالى أخبار اكتشاف الجثث والمقابر الجماعية هذه الأيام، وربما الهدف منها، طمس الأدلة على جرائم المليشيات والحكومة التي ترعاها، بعد أن استقرت لهم السيطرة على مقاليد الحكم بالبلاد، وأصبح من الُمحتم عليهم محو آثار الجرائم التي ارتكبوها طيلة الـ16 سنة الماضية. والحجج لأجل هذا الهدف، كثيرة وجاهزة، منها اكتشاف مقابر جماعية بحق الكرد ارتكبها النظام الصدامي السابق، ومقابر جماعية نتيجة المجازر التي ارتكبتها عصابات داعش، بل لم يسلم من تزييفهم حتى الكويتيين حينما حاولوا تزييف جثث أبنائهم بالقول إنهم اكتشفوا بعضها في صحراء محافظة المثنى.
مشكلة المكون السني الآن، أنه وحيد متجرد، لا أحد يدافع عنه، وإذا فعل شيئًا لاستعادة حقوقه، فإنه يتهم بالإرهاب، وتتكالب عليه قوى الداخل والخارج لإدانته
وإلا، لو كانت تلك الروايات صحيحة، لماذا لم يتم فحص الـDNA لتلك الجثث قبل دفنها وتصفية أمرها؟ رغم أن هناك بلاغات مقدمة بشكل رسمي للحكومة العراقية، بفقدان أكثر من 7000، ومع هذا فهي لم تكلف نفسها بإجراء هذا الفحص لمعرفة هوية تلك الضحايا، لكن الأمر واضح لكل عقل، من أن هذه الإجراءات، غايتها طمس الحقائق وراء الجرائم المرتكبة بحق هؤلاء العراقيين.
وعلى عادة كل من لم يبق له رصيد من الغيرة والشرف، فهو يصل للمرحلة التي يتهم الضحايا بنفس الجريمة التي ارتكبها هو بحق أولئك الضحايا، هذا ما فعله النائب عن كتلة مليشيا العصائب النيابية حينما قال: “المكون السنَّي من اقترف مجزرة سبايكر ولم تذكروا شيئًا عن ضحاياها”، وهو يعلم حق العلم من ارتكب تلك المجزرة ومن مهَّد لارتكابها.
لا راعٍ لحقوق السنَّة
مشكلة المكون السني الآن، أنه وحيد متجرد، لا أحد يدافع عنه، وإذا فعل شيئًا لاستعادة حقوقه، فإنه يتهم بالإرهاب وتتكالب عليه قوى الداخل والخارج لإدانته، فمن يسمون بالسياسيين السنَّة، تعالت أصواتهم بعد اكتشاف الجثث في الطب العدلي بمحافظة بابل، يريدون فيها إنصاف السنَّة، ولا أعلم أين كانوا؟ ولماذا بلعوا ألسنتهم حينما ارتكبت تلك الجرائم بحق مكونهم؟
هناك البعض من السياسيين السنَّة، من يدافع عن وجهة نظر المليشيات، التي تقول إن هذه الجثث لم تلق مصيرها البشع بخلفية طائفية، إنما ضحايا لقضايا جنائية لا علاقة لها بالانتقام الطائفي، هذا ما فعله محمد الحلبوسي (السنَّي) رئيس ما يسمى البرلمان العراقي
يريد السياسيون السنَّة، تدويل القضية اليوم، وقد مللنا من سماع هذا الكلام، فلقد سمعناه من قبل ولأجل قضايا عديدة، لكنهم لم يتجرأوا على تدويلها وارتضوا لأنفسهم الصمت وضمان المصالح وتوفير غطاء الشرعية لهذا النظام الطائفي البائس. وإني أستغرب إصرار بعض هؤلاء الساسة المحسوبين على المكون السنَّي على تدويل القضية، ذلك لأن القضية إذا تم تدويلها، فإنهم أول المدانين فيها، لأنهم جزء من هذا النظام الذي ارتكب هذه الجرائم؟ ألم يعطوه الشرعية، وارتضوا لأنفسهم المشاركة بعملية سياسية تذبح أبناء مكوّنهم؟ وإذا بررتم لأنفسكم، أن تلك الجرائم لم يرتكبها النظام السياسي بل المليشيات، فقد كنتم من المشاركين بالموافقة على شَرعَنَة عمل المليشيات تحت قبة البرلمان وجعل قوات المليشيات جزء من القوات الحكومية، بتشريع قانون الحشد الشعبي؟ ألم يتصد سليم الجبوري حينها لكل المحاولات التي أرادت رفض إقرار القانون؟ ألم يدافع الجبوري عن هذا “الإنجاز” باعتباره نصرًا سياسيًا له؟
بل إن هناك بعض السياسيين السنَّة يدافعون عن وجهة نظر المليشيات التي تقول إن هذه الجثث لم تلق مصيرها البشع بخلفية طائفية، إنما ضحايا لقضايا جنائية لا علاقة لها بالانتقام الطائفي، هذا ما فعله محمد الحلبوسي (السنَّي) رئيس ما يسمى البرلمان العراقي.
ومن المفارقات أن تجد البعض الآخر من النواب السنَّة ينتقدون صمت عبد المهدي ويطالبونه بإنصاف السنَّة، وكأنه بريء من هذه الجرائم التي تحدُث، أو كأنه ليس داعمًا للمجرمين الذين اقترفوها. لقد أثبت عبد المهدي للعالم، بأنه من أكثر رؤساء الوزراء الذين جاءوا لهذه العملية السياسية، دعمًا للمليشيات، فهل يُعقل أن يتعامل مثل هكذا رجل مع مظالم المكون السنَّي بإنصاف؟
لامتصاص نقمة الناس من منع السلطات والمليشيات عودة النازحين لمدينة جرف الصخر التي تجددت قضيتها بعد اكتشاف جثامين المواطنين المغدورين في محافظة بابل، أكد وزير الداخلية العراقي ياسين الياسري، أن وزارة الداخلية وضعت آلية لعودة العوائل النازحة إلى جرف (الصخر)
والبعض الآخر من الساسة السنَّة، يصدرون بيانًا باسم تحالف القوى، ينتقدون فيه صمت الحكومة العراقية، لدفن 120 جثة وجدت في محافظة بابل دون التثبت من هويتها، ويتهمون الحكومة بمحاولة التستر على الفاعل الحقيقي لتلك الجريمة، وهم لم يأتوا بجديد، فمن المؤكد أن صمت الحكومة هو شراكة في الجريمة، لكنهم مع ذلك، لا يزالون جزءًا من تلك الحكومة التي تقتل أبناء مكونهم الذي يمثلوه، فكيف يريدون أن يثق الناس بهم مرة أخرى؟ لا سيما أن هذه القضية ستطوى وتذهب أدراج النسيان، كما هو الحال مع كل الجرائم التي اقترفت بحق المكون السنَّي، لكن أهالي هؤلاء المغدورين لن ينسوا أبناءهم.
امتصاص نقمة العراقيين
ولامتصاص نقمة الناس من منع السلطات والمليشيات عودة النازحين لمدينة جرف الصخر التي تجددت قضيتها بعد اكتشاف جثامين المواطنين المغدورين في محافظة بابل، أكد وزير الداخلية العراقي ياسين الياسري، أن وزارة الداخلية وضعت آلية لعودة العوائل النازحة الى جرف الصخر.
كان الأحرى بمن يمثل هذا المكون العربي السني، أو أي جهة سياسية عراقية تُمثل كل العراقيين، أن تعمل على تدويل القضية العراقية كاملة، لا لأجل كشف المغيبين فحسب، إنما تدويل قضية العراق بالكامل
لكن هذا الوزير يعلم أكثر من غيره أن هذا الأمر لن يتحقق، فلا وزير ولا رئيس وزراء من قبله، استطاع أن يدخل جرف الصخر ليرى ما يجري فيها، عوضًا عن إرجاع النازحين إليها، هذا ما أكده النائب عن تحالف الفتح ثامر ذيبان، حينما قال: قبل أن نفكر بإعادة النازحين لهذه الناحية، يجب إعادة إعمار البنى التحتية لها، لأنها مدمرة بشكل شبه كامل بسبب عمليات تحريرها، وأغلب منازلها وشوارعها فيها ملغمة، في عذر أقبح من الذنب، يدلل على أن الدمار المبالغ فيه الذي لحِق المدن المحررة من عصابات داعش، كانت عملية مدبرة ومقصودة، لجعلها مدنًا غير صالحة للسكن البشري، وليمنعوا رجوع أهلها إليها، وهذا هو الهدف الرئيسي.
تدويل القضية العراقية بالكامل
كان الأحرى بمن يمثل هذا المكون العربي السني أو أي جهة سياسية عراقية تُمثل كل العراقيين، أن تعمل على تدويل القضية العراقية كاملة، لا لأجل كشف المغيبين فحسب، إنما تدويل قضية العراق بالكامل، لأجل وقف العملية السياسية الهزيلة التي تجري في بغداد، والمسؤولة عن كل هذه المآسي التي يعاني منها العراقيون اليوم، واستبدالها بعملية سياسية أخرى تمثل الشعب العراقي بشكل حقيقي. هذا هو الواجب الذي يطالب به الشعب العراقي، وعلى المجتمع الدولي أن يتفاعل إيجابيًا مع هذا المطلب العراقي، ليس تفضلًا منه، إنما هو واجب أممي ينبغي أن يقوموا به.
على الأمم المتحدة مسؤولية مباشرة عما يحدث في العراق، فهي التي صنَّفت القوات الأمريكية في العراق بعد 2003 كقوات احتلال، فعليها واجب إنشاء عملية سياسية حقيقية تمثل الشعب العراقي، لكن هذا ما لم يحدث، والولايات المتحدة نكثت بعهودها للمنظمة الأممية. فالآن عليها أن تأخذ دورها مرة أخرى، للعمل على تصحيح الأوضاع في العراق، بعد ثبوت فشل النظام السياسي العراقي رغم مرور 16 سنة على إنشائه.
من المؤكد ومما لا شك فيه، أن الحل لمشاكل العراق ووضع نهاية مؤكدة للجرائم التي تُرتكب بحق شعبهِ، هو استبدال هذا النظام الذي لم ينبثق عن رغبة من الشعب، بنظام آخر يمثل العراقيين، كل العراقيين بحق.