أمام تفاقم ظاهرة السرقة باستعمال القوة وتحت تهديد السلاح خاصة بعد ثورة يناير 2011، ناهيك عن عجز أجهزة الشرطة عن الحد من هذه الآفة وملاحقة السارقين، لم يعد أمام التونسيين إلا نصب كاميرات المراقبة لتأمين منازلهم، واعتماد مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة للتشهير باللصوص من ناحية ومساعدة رجال الأمن في الإطاحة بهم وتقديمهم للعدالة من ناحية أخرى.
يرى طيف من التونسيين أن الفيسبوك أصبح نسخة من فيلم (Robocop) الأمريكي، يُعالج القضايا المهمة في البلاد بطريقته الخاصة، فيفضح السارقين وقطاع الطرق كما يكشف تجاوزات المسؤولين وتخاذلهم في قضاء شؤون عامة الناس من خلال مقاطع فيديو تصور حالة الإدارة التونسية، وتفشي وباء الرشوة والمحسوبية.
درجت صفحات الفيسبوك التابعة لأجهزة الشرطة ومنها نقابة قوات الأمن الداخلي التونسي على نشر أخبار الحوادث المتعلقة بالقضايا الإرهابية والجرائم العادية كالسطو والقتل والسرقات بأنواعها
وفيلم “روبوكوب” هو فيلم خيال علمي أُنتج سنة 1987 للمخرج الأمريكي بول فرموهن، ويروي قصة عن المدينة تعاني من المجرمين واللصوص في مدينة ميتشيغان بولاية ديترويت في المستقبل الافتراضي، ولا تملك الشرطة فيها لا حول ولا قوة، بل بلغ الأمر بالمافيا والمجرمين إلى قتل أحد أفراد الشرطة بوحشية، ليتم تحويله فيما بعد بواسطة عملية جراحية إلى رجل آلي ساهم في حفظ النظام والقضاء على دابر الجريمة.
الصورة قرينة
درجت صفحات الفيسبوك التابعة لأجهزة الشرطة ومنها نقابة قوات الأمن الداخلي التونسي على نشر أخبار الحوادث المتعلقة بالقضايا الإرهابية والجرائم العادية كالسطو والقتل والسرقات بأنواعها، كما تعمد إلى إعادة نشر تدوينات تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي لظواهر متفرقة تستحق المتابعة من أجهزة الأمن.
وأوردت صفحة الشرطة على فيسبوك في وقت سابق، إلقاءها القبض على “لص المترو” في وقت وجيز بعد تحصنه بالفرار، وذلك بعد رواج مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يوثق لحظة قيام السارق بنزع عقد من رقبة امرأة وخروجه من باب المترو بعد أن تم خلعه ليتحصن بالفرار رفقة صديقه.
وفي واقعة أخرى أثارت سخرية التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، أقدم لص على سرقة هاتف نقال لفتاة كانت بصدد إجراء مكالمة فيديو مع والدها، ليُكمل الحديث بدلًا عنها دون أن يكترث لفعلته، وتم تداول الخبر بكثافة وسط دعوات بإعادة النشر على نطاق واسع، ليتم تحديد هويته سريعًا، فيما وُصف الفاعل بأغبى لص في العالم.
وفي تصريح خاص لـ”نون بوست”، قال مصدر أمني (استعلامات) رفض كشف اسمه لأنه غير مخول له الحديث لوسائل الإعلام، إن “الفيسبوك كغيره من مواقع التواصل الاجتماعي أصبح مصدر معلومة لوزارة الداخلية سواء كانت صحيحةً أم زائفةً”، مضيفًا “هناك تقنيون مدربون على التعامل مع الكم الهائل من المعلومات البصرية (فيديو وصور) مهما كانت المنصة الواردة من خلالها، يعملون على تحليل البيانات ومقارنة الصور من أجل تحديد نوع الجريمة وهوية المتسببين فيها”.
وأكد المصدر أن “التونسيين يعتمدون في تواصلهم على فيسبوك أكثر من المنصات الأخرى (تويتر وإنستغرام) لذلك من الطبيعي أن تتفاعل أجهزة الدولة وقوات الأمن بفروعها مع كل الحوادث التي تستهدف الأمن العام وسلامة المواطنين”، متابعًا القول: “ليس بالضرورة أن كل مقطع فيديو أو صورة تحمل بين طياتها جريمة أو خرق للقانون، شاهدنا في كثير من الأحيان أخبارًا زائفة ومعلومات غالطت الرأي العام”.
من جانبه، قال أحمد – اسم مستعار – وهو معروف في حي الجبل الأحمر المتاخم للعاصمة تونس أين تنتشر بكثرة عمليات السطو المسلح في عربات المترو رقم (5 و3) المتجه إلى حي الانطلاقة والتضامن وإلى حي ابن خلدون: “منذ أن بدأت صور النشالين والسراق تتداول على صفحات الفيسبوك بعد اعتماد وزارة النقل لكاميرات مثبتة في الحافلات وعربات المترو، قللنا من عمليات السلب (البراكاج)، أولًا حتى لا يتم اعتماد الصور الموثقة لتثبيت التهمة ومن ثم القبض علينا، وثانيًا درءًا للفضيحة ومنعًا لانتشارها بين الأهل والجيران”، مضيفًا “عدلنا التكتيك فأصبحنا ننتظر الضحية حتى تنزل من وسيلة النقل ثم نقتفي أثرها ونختار مكانًا أكثر ظلمة ثم نهددها بواسطة الآلات الحادة والسكاكين لسلبها هاتفها الجوال وما بحوزتها من أموال”.
بدوره، أكد أحد المطلوبين للأمن الذي أُصدرت في حقه 8 برقيات (مذكرات) تفتيش بتهم السرقة والسلب تحت التهديد، في تصريح لـ”نون بوست”، أن الفيسبوك والتصوير في محطات النقل العام والشوارع قلل من “الغلة” (ما يجنيه السارق في اليوم الواحد)، مضيفًا “كنا في السابق نصعد للحافلات في أوقات الذروة في الصباح أو المساء نقضي حاجتنا من جيوب الركاب وحقائبهم، أو ننتظر المواطنين لدى مغادرتهم مكاتب البريد، أما الآن فأغلب الشوارع تتركز فيها كاميرات مراقبة إضافة للاستعمال المتواصل للركاب ورواد المقاهي والمترجلين لهواتفهم الجوالة، ويخشى الكثير منا أن تُلتقط له صور يتداولها خلق الله”.
دور الفيسبوك لم يقتصر على فضح عمليات السرقة والسلب في الأماكن العامة ووسائل النقل، بل أصبح أداةً رئيسية في كشف وفضح تجاوزات المسؤولين الحكوميين
وتشهد تونس في السنوات الأخيرة زيادة نسبة الجريمة بأنواعها، حيث أكدت مديرة التنسيق الجهوي بالإدارة العامة للأمن العمومي نجاة الجوادي خلال مؤتمر عن الجريمة في تونس، أن واقع الجريمة لم يتغير، بل أعطت مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) صورة قاتمة عنه فقط، وأعلنت الجوادي في قراءة أمنية عن أرقام وصفتها بالمفزعة والمؤلمة، أن عدد القضايا المسجلة في جميع أصناف الجريمة بلغ أكثر من 174 ألف قضية في الفترة بين شهر يناير/كانون الثاني وشهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
السلطة الـ”الخامسة”
من جهة أخرى، فإن دور الفيسبوك لم يقتصر على فضح عمليات السرقة والسلب في الأماكن العامة ووسائل النقل، بل أصبح أداةً رئيسية في كشف وفضح تجاوزات المسؤولين الحكوميين وموظفي الدولة وخاصة منهم رجال الأمن والديوانة (جمارك)، عن طريق مقاطع فيديو وصور تُبين تلقيهم رشاوى في الطرقات.
وأطلق التونسيون عدة حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لمحاربة “الجعالة” (الرشوة) وكان أهمها حملة “افرح بيا” وهي جملة عادة ما يُطلقها الأمني “الفاسد” لطلب مبلغ مالي من مواطن ارتكب مخالفة مرورية أو نظير إسداء خدمة ما، الأمر الذي دفع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة دستورية) إلى إنتاج شريط تحسيسي ضد الظاهرة في شكل أغنية.
منصة الفيسبوك ساهمت أيضًا في تعرية الأوضاع المتردية لبعض مؤسسات الدولة (القطاع العام) كالمستشفيات (حادثة وفاة الرضع) والمدارس وحتى الأشغال العامة كالطرقات.
وأظهر مقطع فيديو جرى تداوله على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، فرقة موسيقية (نحاسية) تعزف مجموعة من أغاني أعياد الميلاد حول الحفرة الكبيرة في ضاحية الكرم شمالي العاصمة تونس، وبحسب وسائل إعلام محلية، فإن الحفرة مهملة منذ شهر، دون أن تتحرك السلطات المحلية لإصلاحها، وبيّن المقطع حضور سكان من المنطقة وهم يرقصون ويغنون احتجاجًا بطريقتهم الخاصة.
في مقابل ذلك، لم يتأخر رد فعل الجهات المسؤولة كثيرًا بعد الحادثة ونشر رواد موقع التواصل صورًا لآليات تصلح الحفرة ليلًا، وعلقوا على الأشغال: “عيد ميلاد الحفرة خلاهم يخدمو حتى في الليل، العين الحمراء”.
بعيدًا عن استخدامات فيسبوك النمطية المتعارف عليها كالتواصل مع الأصدقاء والأقارب وتبادل الخبرات والتجارب الحياتية ووسيلة للإعلان والتسويق ونافذة على أهم المواقع الإخبارية على الإنترنت، فإن التونسيين يعتمدون بشكل كلي على موقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم ويتخذونه أداةً يرون فيه ملجأ كلما ولى الإعلام الرسمي ظهره لهم.
وفي ذات السياق، تجاوزت المنصة الرقمية في تونس الاستعمال الشخصي إلى ما يُسمى بالحشد الجماعي تتجمع فيه الأصوات لتكون مراكز ضغط وتُحرك الرأي العام تجاه قضايا حارقة أيًا كانت طبيعتها (سياسية – اجتماعية – اقتصادية).