تشهد السينما المصرية خلال السنوات الأخيرة ظاهرة أثارت انتباه الكثير من النقاد والمهتمين بالشأن الفني، تلك الظاهرة المتعلقة بعمل سلاسل فنية للأعمال الفيلمية المقدمة، حتى باتت معظم الأفلام المعروضة في دور السينما المصرية الآن في حقيقتها أجزاء تكميلية لأعمال تمت قبل ذلك.
تعيدنا هذه الظاهرة إلى مرحلة الستينات حيث ثلاثية “نجيب محفوظ” وغيرها من الأعمال التي كانت حينها حدثا نادرًا، ورغم ما حققه من نجاح كبير إلا أن غالبية القائمين على أمور الإنتاج السينمائي في مصر تجنب المغامرة بعمل سلاسل لأفلام سابقة، على عكس المعمول به حاليًا، والذي يحوّل السينما إلى ما يشبه شاشات التلفزيون العائلية.. فما الدوافع الحقيقية التي تقف وراء تفشي هذه الموجة؟
تاريخ قديم
لم يقف التاريخ السينمائي المصري على الكثير من سلاسل الأفلام المنتجة، وليس ثلاثية محفوظ وثنائية “أم العروسة”، والحفيد” سوى استثناء؛ وكلاهما مأخوذ عن روايات أدبية مُقسمة على أجزاء، علمًا بأن السينما المصرية أنتجت العديد من الأعمال المختلفة لنفس الرواية الواحدة، لكن كانت المعالجة والتفاصيل تتم بشكل مختلف تماما، وهو ما حدث مع الرواية الملحمية “الحرافيش”،التي تجسد عالم فتوات القرن التاسع عشر.
عرف العالم السلاسل السينمائية عام 1913 حين أنتجت هوليوود أول سلسلة لها تحت عنوان “ماذا حدث لماري؟”What Happened to Mary? ، وهى سلسلة أفلام حركة مكونة من 12 فيلم صامت، وكانت تٌنتج بمعدل فيلم كل شهر.
الجزء الثاني من فيلم “ولاد رزق” حقق 36 مليون جنيه (أكثر من مليوني دولار) في ستة أيام عرض فقط خلال أيام العيد ، وهو نصف ما حققته جميع الأفلام المعروضة
وبعد نجاح تلك التجربة باتت السلاسل جزءًا رئيسيًا من خطة هوليوود الانتاجية سنويًا، حتى تحولت مع مرور الوقت إلى ما يشبه المسلسلات الدرامية التلفزيونية، معتمدة على حكايات الشخصيات المتنوعة من خلال حبكة تدور فى عالم واحد، مثل عالم الحروب، وحكايات الغرب الأمريكى، ومغامرات طرزان.
ومع ظهور التليفزيون سحب البساط من تحت السينما فيما يتعلق بظاهرة السلاسل الفنية التي باتت أنسل للعرض التلفزيوني، إلا أن هذا الأمر لم يحجم هوليوود في هذا المضمار، فدفعها لتطوير نفسها بإستخدام وسائل الخدع والإبهار الجذابة للمشاهد السينمائى، ونجحت بعض السلاسل بسبب جاذبية العوالم التى تدور فيها؛ فعالم الجاسوسية والمغامرات فى أفلام “جيمس بوند”، التى بدأت فى الستينيات لا زال ساحراً حتى الآن، وكذلك سلسلة الخيال العلمى “حروب النجم”.
علاوة على سلاسل أفلام “الأبطال الخارقين” المأخوذة عن عوالم “مارفل”، و”دى سى كوميكس”، والتى حققت نجاحات غير مسبوقة، وباتت قبلة للملايين من عشاق الفن السينما، الأمر الذي منحها حصاد عشرات المليارات من الدولارات عبر شباك التذاكر التي باتت تحتكره لسنوات طويلة.
ثلاثية نجيب محفوظ كانت بداية معرفة السينما المصرية بظاهرة السلاسل
السينما المصرية
وفق نقاد فإن المشاهد العربي لا يفضل النهايات المؤجلة لأجزاء ثانية، خاصة في الأفلام السينمائية التي يقتصر عرضها على ساعتين أو ثلاثة على الأكثر، ومن ثم عمد المنتجون منذ البداية هذا الأسلوب كمنهج ثابت في أعمالهم السينمائية، لكن الوضع تغير بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
موسم عيدي الفطر والأضحى الماضيين كشفا عن ملامح تغير واضح لتلك القاعدة السابقة، فالنجاح الذي حققته الأجزاء الثانية لأفلام “الفيل الأزرق” و”الكنز” و”ولاد رزق” كانت بمثابة نقطة تساؤل دفعت القائمين على أمور العمل إلى إعادة النظر في مسألة إنتاج السلاسل السينمائية.
بعض المنتجين فكروا في انتاج أجزاء ثالثة للعمل ذاته وهو ما نٌقل عن صناع “الفيل الأزرق” ، كذلك عمل أخر تحت عنوان “الشايب” وهو مُشتق من “ولاد رزق”، فيما أعلنت شركات إنتاج أخرى عن نيتها إنتاج أجزاء ثانية من أفلام عُرضت خلال السنوات السابقة، منها “هيبتا”، و”الهرم الرابع”.
جدير بالذكر أن الجزء الثاني من فيلم “ولاد رزق” حقق 36 مليون جنيه (أكثر من مليوني دولار) في ستة أيام عرض فقط خلال أيام العيد ، وهو نصف ما حققته جميع الأفلام المعروضة، وصل حتى كتابة هذه السطور، أي بعد أسبوعين فقط من بداية عرضه، إلى مبلغ 65 مليونًا و778 ألفًا و849 جنيهًا.
هناك من يرجع هذه الظاهرة إلى حالة الفلس التي أصابت منظومة الأفكار والموضوعات التي يمكن معالجتها سينمائيًا، ومن ثم يستسهل صناع العمل بإنتاج اجزاء مكملة للعمل الأول
نجاح أم إفلاس؟
تعاني السينما المصرية خلال السنوات الأخيرة من سيطرة واضحة للأفلام التي تعزف على أوتار الجنس والجريمة والعنف، هذا بخلاف الأعمال الخفيفة “اللايت” والتي لا تضيف شيئًا للساحة الفنية، غير أنها تركز على حواس المشاهدين في محاولة لاستئثارها بما يدر دخلا على صناع العمل.
البحث عن الكسب السريع وتحقيق الانتشار وحصد الملايين جعل السينما في مصر تدور في حلقة مفرغة، فأخرجت حزمة من الأعمال السطحية المبتذلة التي تعتمد على الرقص والأغاني الشعبية، فأفرزت أفلام على شاكلة “إنت حبيبى وبس” ” عبده موتة” “30 يوم في العسل” وغيرها من الأعمال التي تعاني من انحدار في الفكر والمستوى.
الناقد الفني محمد عمر، أشار إلى أن نجاج “الفيل الأزرق” بعد عرضه عام 2014 ألهم صُناعه إنتاج جزء ثانٍ، ورغم مرور خمس سنوات على إنتاج الجزء الأول، لافتا إلى أن العمل الثاني لجأ إلى استخدام المزيد من الخدع البصرية السحرية الجيدة، وكان الأمر مقبولاً لدى قطاع المُعجبين بالفيلم.
وأضاف في تصريحاته لـ “نون بوست” أن نجاح العمل الأول كان الدافع الرئيسي لإنتاج العمل الثاني، وأن هذا الأمر ربما يتكرر لإنتاج جزء ثالث، كاشفا أن توظيف النجاح أمر مستساغ لدى صناع السينما، وأن هذا الأمر معمول به في مختلف دول العالم، سواء في هوليوود أو الهند.
65 مليون جنيهًا إيرادات الجزء الثاني من فيلم “أولاد رزق”
وأوضح أنه لولا ما حققه الجزء الأول من إقناع للمشاهد، سواء بالفكرة أو المعالجة، ما كان للجزء الثاني أن يدر كل هذه الحصيلة الإيرادية التي تجاوزت المتوقع بمراحل، منوها في الوقت ذاته إلى أن فكرة انتاج سلاسل سينمائية مغامرة لا يقدم عليها إلا من كان واثقا من النجاح، معتبرًا أن الجزء الأول لأي عمل هو بالونة الاختبار العملية لمسألة التفكير في انتاج أجزاء أخرى مكملة له.
وفي الجهة الأخرى هناك من يرجع هذه الظاهرة إلى حالة الفلس التي أصابت منظومة الأفكار والموضوعات التي يمكن معالجتها سينمائيًا، ومن ثم يستسهل صناع العمل بإنتاج اجزاء مكملة للعمل الأول، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عما هو جديد، من الممكن أن يضيف من خلاله إلى المكتبة الفنية.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن كافة الأعمال السينمائية التي كان لها أجزاء أخرى، وحققت نجاحات على مستوى الإيرادات، لا تستحق، غير أن رغبة المنتجين في تحقيق المكاسب وفهمهم الواقعي لميول الجماهير، دفعتهم لإنتاج أجزاء أخرى، مستخدمين في ذلك الخدع والمبهرات التي تضيف بعدًا آخر للعمل وكأنه يقدم لأول مرة، إلا أنه لا يقدم جديدًا يذكر على مستوى المضمون.