يشهد العراق منذ سنوات تزايدًا ملحوظًا في تسجيل معدلات الانتحار ومحاولات إنهاء الحياة، في ظاهرة كانت نادرة الحدوث فيما سبق، حيث تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المؤسسات الحكومية إلى تسجيل أرقام قياسية بما يؤشر لترسيخ هذه الظاهرة.
ويعزو خبراء ومتخصصون أسباب الإقدام على الانتحار في العراق لعوامل عديدة، أهمها انتشار المخدرات والبطالة والاستخدام السيء لوسائل التواصل الاجتماعي فضلًا عن التفكك الأسري وغيرها من الأسباب.
ويواجه العراق معدلات مرتفعة لحالات ومحاولات الانتحار، إذ كشف رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، أن البلاد سجلت أكثر من 2000 حالة انتحار خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تم تسجيل 1073 حالة في عام 2022، بينما شهد عام 2023 نحو 700 حالة، فيما تم تسجيل 300 حالة خلال النصف الأول من عام 2024.
وأضاف الغراوي أن العراق سجل بين عامي 2016 و2021 ما مجموعه 3063 حالة انتحار، حيث بلغ عدد الحالات المسجلة 343 حالة في عام 2016، وارتفع إلى 449 حالة في 2017، ثم 519 حالة في 2018، وصولًا إلى 588 حالة في 2019، في حين شهد عام 2020 تسجيل 644 حالة، بينما ارتفع العدد إلى 863 حالة في عام 2021، تزامنًا مع تداعيات الحظر المفروض خلال جائحة كورونا.
وتتركز معظم حالات ومحاولات الانتحار في المحافظات الوسطى والجنوبية، حيث أكد مدير مكتب حقوق الإنسان في البصرة، مهدي التميمي، أن محافظته وحدها سجلت 150 حالة ومحاولة انتحار خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2024. وأوضح التميمي أن غالبية حالات الانتحار تعود إلى فئة الشباب، خاصة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا.
المسبب الأول: العامل النفسي
مع استفحال ظاهرة الانتحار في البلاد، يقدم المنتحرون على تبني العديد من الأساليب، حيث يأتي الشنق في أولها ثم إطلاق الرصاص ومن ثم استخدام السموم والسقوط من الجسور أو الأبنية شاهقة الارتفاع.
وعلى الرغم من أن العراق يأتي في مراتب متأخرة في مؤشر الانتحار في العالم حيث جاء في المرتبة 154 من بين 183 دولة، إلا أن تزايد حالات الانتحار في البلاد خلال العقدين الماضيين يؤشر على تحول كبير في المجتمع العراقي.
يعزو المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية سيف البدر ظاهرة الانتحار بنسبة 43% إلى أسباب نفسية بالدرجة الأولى، فيما تأتي الأسباب العائلية بنسبة 35%، في الوقت الذي حازت فيه الأسباب الاقتصادية نسبة 15% ثم أسباب أخرى ذات تأثير أدنى.
وفي هذا السياق، يرى الباحث في علم الاجتماع مصطفى أحمد في حديثه لـ “نون بوست” أن الحالة النفسية تعد المسبب الأول لحالات الانتحار في البلاد، مؤكدًا أن من أهم العوامل التي تؤدي إلى الانتحار هي “الكآبة” التي تتسبب بها المخدرات بالدرجة الأولى، حيث أن الإدمان المفرط للمخدرات يؤدي إلى فقدان المسؤولية وفقدان الاهتمام بالحياة، فضلا عن أن تراجع الالتزام الديني ما يوصل بالشخص إلى غياب أي رادع أمام من يحاول إنهاء حياته.
ووفقًا لأحمد، فقد انتشرت تجارة المخدرات بين الفئات العمرية اليافعة التي تتراوح أعمارها بين 18 و25 عامًا. وغالبًا ما تكون هذه الفئة في بداية حياتها العملية أو في طور البحث عن عمل، وبالتالي، ومع عدم توفر الأموال اللازمة لشراء المخدرات الباهظة الثمن، يدخل هؤلاء في حالة من الاكتئاب الشديد، مما قد يؤدي إما إلى الانتحار أو إلى التوجه نحو الأعمال الإجرامية والخروج عن القانون.
ويذهب في هذا المنحى أستاذ علم الاجتماع في جامعة النهرين ببغداد محمد السعدي الذي يضيف أن هناك عوامل عديدة أسهمت في زيادة واتساع ظاهرة الانتحار في المجتمع العراقي، مبينا أن من بينها تراجع الأمل بوجود تحسن في الحياة العامة من ناحية الخدمات المقدمة، فضلًا عن المستوى التعليمي.
التفكك الأسري
يسجّل العراق ارتفاعًا كبيرًا في معدّلات العنف الأسري في البلاد، وهو ما يؤدّي بالمحصّلة إلى زيادة معدّلات الانتحار، وفق مختصّين. إذ يسجّل المجتمع العراقي حالة من اللامبالاة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ومن قبل مختلف الفئات العمرية، بما يؤدّي إلى تفكّك أسريّ واضح، حيث باتت السلطات تُحسّه من خلال ارتفاع معدّلات الجرائم والعنف الأسري والانتحار.
ولا يمكن التغافل عن أن هوس الكثير من الشباب العراقي بمتابعة المؤثّرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والشهرة، والمال الذي يحقّقونه، يؤدّي بهم إلى الإحباط، مع غياب الموجّه الاجتماعي الذي كان ربّ الأسرة يلعبه فيما سبق، فضلًا عن غياب دور الأم في كثير من الحالات بسبب انشغالها هي الأخرى في متابعة ما يهمّها على وسائل التواصل.
وبالإضافة إلى ما سبق، يبدو أن البطالة المستشرية في البلاد، وسوء الخدمات في الكثير من المحافظات والمناطق، مع التدهور الكبير في القطاع الخاص، تؤدّي مجتمعةً بالعديد من الشباب العراقي إلى الإقدام على الانتحار، الذي يراه العديد منهم الملجأ الأخير للإفلات من الواقع الذي يكابدونه.
في سياق ذلك، يؤشّر الخبير الاقتصادي رياض الزبيدي إلى أن الوضع الاقتصادي الذي تكابده الأسر العراقية والشباب اليافعون، مع قلّة فرص العمل في القطاع الخاص وانعدامها في القطاع العام، أدّى مجتمِعًا إلى دخول الشباب من الذكور والإناث في حالة من التيه والضياع.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، بيّن الزبيدي أن الشباب في الفئة العمرية 18-25 دائمًا ما يقارنون أنفسهم بأقرانهم، وبالتالي، فإن تباين المستوى المعيشي والاقتصادي، مع وجود برامج التواصل الاجتماعي والمؤثّرين، ولا سيّما “التيك توك”، يؤدّي بالنتيجة إلى دخول هؤلاء في مرحلة الاكتئاب الشديد، المؤدّي في كثير من الحالات إلى الانتحار.
استراتيجية وطنية
وفي محاولة للحد من الانتحار ومعالجة أسبابه، تبنت الحكومة العراقية في عام 2024 استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار، حيث أعلن وزير الصحة صالح الحسناوي عن هذه الاستراتيجية، فيما أكد مستشار رئيس الوزراء لشؤون الصحة صالح ضمد تركيز الحكومة على الطب النفسي للذين يعانون من الأمراض النفسية.
وفي سياق الترويج للاستراتيجية، قال الحسناوي إن “الاستراتيجية الوطنية تعطي دوراً لكل وزارة وكل قطاع إضافة إلى الجهات غير الحكومية المتمثلة بالإعلام والجهات الدينية والرموز المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني التي يجب أن تتضافر جهودها”.
يرى الباحث مصطفى أحمد أن هذه الاستراتيجية وعلى الرغم من إعلان الحكومة العراقية عنها، إلا أنها لا تخرج عن كونها دعاية حكومية ومحاولة لفعل شيء ما دون أي أثر واضح لها على أرض الواقع.
وتابع أن الاستراتيجية التي أعلن عنها لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع، إذ تفتقد لآليات واضحة وعملية، فضلا عن عدم معالجتها للأسباب الرئيسية التي تؤدي للانتحار لا سيما الأوضاع الاقتصادية والبطالة والمخدرات وقلة فرص العمل والتباين الطبقي الكبير بين فئات المجتمع، وفق قوله.
ويبدو أن وتيرة الانتحار ومعدلاته لا تزال في تزايد مستمر، خاصة أن الحكومة بدأت تحجم عن الإعلان عن الإحصائيات الرسمية لمعدلات الانتحار، إضافة إلى تسجيل الأجهزة الأمنية الكثير من حالات الانتحار بين صفوف منتسبي القوات الأمنية في ظل عدم وضوح الرؤية المستقبلية لكيفية معالجة هذه الظاهرة التي باتت متصاعدة يوما بعد آخر.