العضو المنسي: كيف يؤثر الميكروبيوم على حياتنا ومزاجنا؟
![](https://www.noonpost.com/wp-content/uploads/2025/02/noonpost-3708468.png)
البكتيريا وشقيقاتها الدقيقة -من عتائق وفطريات وفيروسات وطلائعيات- لا ينبغي أن تكون ذات سمعة سيئة، بل على العكس، إذ يعمل معظمها بجد لضمان استمرارية حياتنا بدءًا من دورها في تحليل المواد في التربة صعودًا إلى تأثيرها في تشكل السحاب ومرورًا بصحة الإنسان والحيوان.
وحين نفكر في أجسامنا، فقد يكون أول ما يقفز إلى مخيلتنا تلك الخلايا المتراصة والمكونة لأعضائنا المختلفة، لكن في الحقيقة ثمّة مملكة من الكائنات الدقيقة القابعة في داخلنا التي رغم حجمها المجهري، إلا أنها تضيف على وزننا مئات الغرامات بسبب عددها الذي يساوي أو يفوق عدد خلايا جسمنا.
هذا الجيش غير المرئي يلعب دورًا أساسيًا في صحتنا وأداء الوظائف الحيوية: مثل الهضم، وتقوية المناعة، وحتى التأثير على الحالة المزاجية.
نتعرّف -في هذا المقال- على “العضو المنسي” كما يصفه العلماء، ويُسمى علميًا بـ“الميكروبيوم”—ذلك المجتمع الدقيق الذي يشكل جزءًا كبيرًا من حياتنا رغم أنه يعمل في الظل!
إذن، ما هو الميكروبيوم؟
الميكروبيوم هو تحالف من البكتيريا والفيروسات والفطريات وأنواع أخرى من الكائنات الدقيقة المختلفة التي تتوزع داخل أجسامنا وعلى جلدنا بكميات هائلة تقدر بعشرات التريليونات، تساوي أو تتفوق على عدد خلايا جسمنا.
تلعب هذه الكائنات دورًا أساسيًا في صحة الإنسان ومحاربة الأمراض المختلفة، وتعمل يدًا بيد مع جهاز المناعة، وتساعد في عملية الهضم وإنتاج الطاقة ولها وظائف أخرى عديدة، والعديد من المواد الكيميائية والفيتامينات (التي لا يستطيع جسم الإنسان إنتاجها عادة) يتكفل الميكروبيوم بتصنيعها.
ويختلف تشكُّل هذه الكائنات داخل أجسامنا بحسب ما تتغذى عليه، خذ ولادة طفل مثالًا، فالولادة في المنزل تكسبه ميكروبيومات مختلفة عن تلك التي قد يكتسبها من ولادته في المشفى، كما أن طريقة الولادة تلعب دورًا في اختلافها، فالأطفال المولودون طبيعيًا يكتسبون ميكروبيوم الأم الموجود في جهازها التناسلي، أما الذين يولدون بعملية قيصرية فيكتسبون الميكروبيوم الذي على جلدها.
في معدتك 2 كلغ من الميكروبيوم
كل مكان من جسمنا يحتوي على مجموعته الخاصة من الميكروبيوم، لكن تجمعها الأكبر يكمن داخل جهازنا الهضمي وبالأخص في القولون.
يتفاعل ميكروبيوم الأمعاء مع الجهاز المناعي بشكل قوي خاصة في المراحل المبكرة من عمر الإنسان، حيث تشير الدراسات إلى أن الإشارات التي يقوم الميكروبيوم بإرسالها لجهاز المناعة تؤثر على تشكل أنواع معينة من الخلايا المناعية مما يحدد قابلية هذه الخلايا على مقاومة الأمراض في المستقبل.
يحمل كل شخص توقيعًا بكتيريًا فريدًا في أمعائه، تمامًا مثل بصمة الإصبع
الأمعاء لوحدها تحتوي تحتوي ما بين 1-2 كيلوغرامًا من الميكروبيوم، ويحمل كل شخص توقيعًا بكتيريًا فريدًا في أمعائه، تمامًا مثل بصمة الإصبع، إذ قد يتشابه تكوين ثلث الميكروبيوم لدى معظم الناس، إلا أن البقية يتفرد بها كلٌّ على حدة، وذلك بناءً على عوامل عدة كالعمر والنظام الغذائي والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، وهذا أحد الأسباب التي تجعل استجابة كل فرد للأطعمة والأدوية مختلفة.
ميكروبيومك يؤثر على مزاجك
تتشعب تأثيرات هذه الكائنات الصغيرة أكثر فأكثر، فقد أثبتت الدراسات أن ميكروبيوم الأمعاء يؤثر على الصحة النفسية، فنقص البكتيريا الموجودة عادة في القولون والمسؤولة عن إنتاج حمض البيوتيريت يقترن بشكل أساسي بأمراض الاكتئاب والتوتر.
وخلال إحدى التجارب، نُقل ميكروبيوم فأرة سليمة لأخرى تعاني من القلق، لاحظ العلماء لاحقًا أن أثر هذا التوتر أصبح أقل مما كان عليه.
وتلعب الأمعاء دورًا مهمًا في صحتنا النفسية بفضل شبكة من الخلايا العصبية والخلايا الصماء المعوية التي تفرز مواد كيميائية تساعد على التواصل مع الدماغ. على سبيل المثال، تنتج الأمعاء حوالي 90% من مادة السيروتونين، وهو ناقل عصبي يؤثر في تنظيم المزاج والهضم.
أضف أن بكتيريا الأمعاء، أو الميكروبيوم، تساهم في تعديل توازن النواقل العصبية؛ إذ أظهرت بعض الأبحاث قدرتها على إفراز مركبات تشبه الدوبامين أو تحفيز إنتاجه من قبل الخلايا المعوية، مما يؤثر بدوره على الوظائف العصبية والمزاج.
دراسة DNA البكتريا!
ويواصل العلماء محاولة فهم عوالم البكتريا، فبعد نجاحهم في فكّ شيفرة الحمض النووي لخلايا الإنسان، (بعد 13 عامًا من العمل على مشروع الجينوم البشري 1990- 2003)، انتقلت جهودهم لمحاولة لدراسة وتحليل جينات الميكروبيوم البشري، إذ أطلقوا مبادرات عدة بهذا الخصوص من أهمها مشروع الميكروبيوم البشري (Human Microbiome Project) عام 2007، لكنها عملية تواجه تحديات جديّة.
فإضافة لما ذكرنا من أن عدد هذه الكائنات في أجسامنا قد يفوق عدد الخلايا، واختلافها من شخص لآخر، فإن فكرة استخراج هذه البكتيريا وزراعتها ليكون بالإمكان دراسة جيناتها تبدو عبثية، إذ العديد من أنواع البكتيريا الموجودة في جسم الإنسان لا تنمو بسهولة في المختبر باستخدام طرق الزراعة التقليدية.
هنا طوّر العلماء الميتاجينومية “metagenomics”، وهو علم دراسة جينات البكتيريا داخل مجتمعات بدلًا من عزلها ودراستها كلّا على حدة، مما أتاح لنا فهمًا أعمق للتكوين الوراثي وللتفاعلات داخل المجتمعات الميكروبية دون الحاجة إلى زراعتها، وهو ما مثّل طفرة علمية في دراسة الكائنات الدقيقة.
اعتنِ بميكروبيوماتك/صحتك
على الرغم من تحقيق تطور مذهل في السنوات الأخيرة، إلا أن علم دراسة الميكروبيوم ما يزال في بداياته، إذ أن العديد من الأسئلة تحتاج إلى إجابة، خاصة تلك المتعلقة بفهم طريقة تأثير كل من هذه الكائنات بشكل منفرد على الأمراض.
وإلى ذلك الحين الذي نفهم فيه بشكل أدق تأثير الميكروبيوم على أجسامنا، يمكنك اتباع النصائح الآتية لتعمل على رعاية هذه الكائنات اللطيفة:
- نوّع مصادر غذائك واحرص على تناول الأغذية الغنية بالألياف والفيتامينات.
- تجنّب قدر المستطاع السكر الصناعي.
- تناول اللبن الطبيعي غير المبستر، والمخللات المختلفة، التي تحتوي على بيئة حاضنة للبكتيريا المفيدة.
- المضادات الحيوية تُخلّ بتنوع الميكروبيوم مما قد يعود بنتائج سلبية على الصحة، لذلك تجنب تناولها بغير وصفة طبية.
- والنصيحة التي نسمعها دائمًا؛ نم جيدًا واحرص على القيام ببعض الرياضة أسبوعيًا.
وإن كنت مهتم بالتعرف على ميكروبيوماتك الشخصية، فهذه الفرصة أصبحت متاحة في عدد من الشركات الخاصة.
يتم ذلك عبر أخذ عينة من البراز وفحص الحمض النووي للكائنات المتواجدة فيه، مما يبيّن أنواعها المختلفة ونسبة تواجدها، ثم تحلل وتفسر النتائج بعد ذلك عن طريق مقارنتها بالبيانات المتواجدة مسبقًا في قاعدة البيانات.
ويستخدم هذا التحليل لتشخيص بعض الأمراض المحتملة وخاصة الأمراض الهضمية مثل متلازمة القولون العصبي وأمراض المناعة والحساسية بالإضافة إلى الاكتئاب والقلق، ومن ثم اقتراح علاج لها يشمل نظام غذائي مخصص.
لكن يجب التنويه إلى أن هذه التقنية ليست معتمدة علميًا، كما أن معلومات قواعد البيانات المتوفرة لدى هذه الشركات قد لا تكون كافية، خاصة مع عدم وجود تعريف واضح بعد لما يعد مايكروبيوم صحي. كما أن التحاليل تستغرق عادة عدة أسابيع لتظهر نتائجها، وفي هذه المدة من المحتمل أن يتغير شكل المايكروبيوم، هذا فضلًا عن أن هذه التحاليل باهظة الثمن.
عمومًا، ما يزال أمامنا الكثير من الألغاز لفكها، لكن هذا لا يتعارض مع أننا يجب أن نكون على وعي بأن الحفاظ على توازن هذا العالم الدقيق هو استثمار مباشر في مستقبل صحتنا وجودة حياتنا.