على الرغم من أن أغلب الآراء والأفكار تذهب باتجاه المواءمة السياسية والعسكرية بين تأسيس الحشد الشعبي وسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش، إلا أن المتمعن بالحيثييات العامة للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية في الشرق الأوسط، التي يخططها مجلس الأمن القومي الإيراني وينفذها الحرس الثوري الإيراني، يجد بأن الموضوع أكبر من مجرد لحظة عابرة في التاريخ السياسي العراقي.
ذلك أن الوصاية الدينية للعديد من المراجع ورجال الدين على الحشد ومليشياته، أصبحت تقليداً دينياً متبعاً، إذ أصبحت كل مجموعة ترتبط برجل دين معين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى نجد أن طبيعة النسق العقيدي لقيادات الحشد الشعبي، تظهر بأنه تكوين غير عشوائي الهدف والغاية. فعلى الرغم من أن الغاية الأساسية لنشأته كانت محاربة تنظيم داعش وحماية المقدسات، إلا أن الأكبر من ذلك هو لخلق كيان موازي داخل العراق، وتنفيذ أهداف عابرة للحدود بإتجاه دول الجوار تحديداً، ومن ثم تحوله إلى وتد أساسي من أوتاد الإستراتيجية الإيرانية في العراق والشرق الأوسط.
إن التوجه الإيراني نحو تحويل أغلب المليشيات المسلحة إلى إطار رسمي مؤسسي يجنبها حرج التدخل في الشأن الساسي العراقي من جهة، والتخلص من الدعوات المستمرة من قبل الفرقاء السياسيين العراقيين وتحديداً “السنة”، بضرورة حل هذه المليشيات من جهة أخرى، جعل من إيران ترى في ظهور تنظيم داعش الفرصة الذهبية في ذلك، كما أن أغلب المليشيات الموجودة في الساحة العراقية، كانت قد تشكلت وتكونت في إيران، إلا أنه بعد عام 2014، تحولت هذه المليشيات إلى مؤسسة عرفت باسم الحشد الشعبي.
التطورات السياسية التي مر بها العراق، والتي جاءت متوافقة مع تطورات أمنية كان للحشد الشعبي نصيب كبير منها، إذ سهل إندماج العشرات من المليشيات المسلحة إلى هيئة الحشد الشعبي
لتأتي بعد ذلك الضغوط الإيرانية لتقطع الشك بالبقين، عن طريق الضغط على الأحزاب الشيعية، بضرورة تشريع قوانين تقضي بتحويل هذه المليشيات إلى مؤسسة رسمية، وكان لها ذلك بأصدار قانون هيئة الحشد الشعبي والمؤسسات التابعة له، وتحوّله إلى تشكيل مسلح يعمل خارج إطار المؤسسة العسكرية العراقية، ليسهل لمستشاريها وجنرالاتها العمل بحرية تامة وهو ما تثبته الوقائع الأمنية اليوم في العراق.
جيش نظامي موازٍ لمؤسسة الجيش الرسمية
إن التطورات السياسية التي مرّ بها العراق، والتي جاءت متوافقة مع تطورات أمنية كان للحشد الشعبي نصيب كبير منها، إذ سهل اندماج العشرات من المليشيات المسلحة إلى هيئة الحشد الشعبي، تمتع عناصر هذه المليشيات بما يتمتع به الجندي العراقي من حقوق وامتيازات مالية وقانونية وعسكرية، فضلاً عن تمتع الحشد الشعبي بمعسكرات خاصة به، إلى جانب تخصيص أبواب من الميزانية العامة للدولة، من أجل شراء الآليات والمعدات العسكرية بمختلف أنواعها، كما أن للحشد الشعبي اليوم مصانع للتصنيع العسكري، والتي يعود أغلبها للجيش العراقي السابق في الزعفرانية وجرف الصخر وغيرها من المناطق، لتصنيع وتطوير الصورايخ بمختلف الأنواع والمديات، هذا بالإضافة إلى الدعم العسكري الإيراني، والذي أغرق المعسكرات التابعة للحشد الشعبي بمنصات الصواريخ والصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى.
الحشد الشعبي أصبح قوة عسكرية عابرة للحدود، بل أنه أصبح ركيزة أساسية من ركائز القوة الصلبة الإيرانية في العراق والمنطقة.
والأمر الذي لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن إيران عملت على توظيف القوة العسكرية التي أخذ يشكلها الحشد الشعبي في ساحات أبعد من الحدود العراقية نفسها، فقد أخذ دور الحشد الشعبي يبرز بصورة كبيرة في مجمل الفعاليات العسكرية في الساحة السورية، إلى جانب بروز دوره في افتتاح العديد من مراكز التدريب للمقاتلين القادمين من مختلف دول الجوار الإقليمي للعراق، فضلاً عن تقديمه الدعم والمشورة العسكرية للحوثيين في اليمن، والذي يظهر من كل ما تقدم هو أن الحشد الشعبي أصبح قوة عسكرية عابرة للحدود، بل أنه أصبح ركيزة أساسية من ركائز القوة الصلبة الإيرانية في العراق والمنطقة.
الحشد الشعبي في دوامة صراع إقليمي صفري
ظهرت أولى معالم تحول الحشد الشعبي إلى إحدى أدوات الصراع الإقليمي الإيراني مع “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، بعد تعرض العديد من المقرات التابعة للحشد الشعبي في العديد من المدن السورية للقصف الجوي الإسرائيلي خلال العامين الماضيين، هذا فضلاً عن العديد من التحذيرات الإسرائيلية التي نقلها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لرئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي في مايو 2019، من أن إسرائيل” تمتلك تقارير استخبارية تفيد بتواجد العديد من منصات الصواريخ التابعة لحزب الله العراقي وعصائب أهل الحق، والمنتشرة على طول الحدود العراقية السورية، ومن أن “إسرائيل” لن تقف مكتوفة الإيدي حيال هذا التهديد، خصوصاً وأن مدى بعض هذه الصواريخ قادر على الوصول إلى العمق الإسرائيلي.
على الرغم من الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في يوليو 2019، الذي أمر بموجبه بإعادة هيكلة الحشد الشعبي وربطه بالقيادة العامة للقوات المسلحة، إلا أن هذا الأمر مثل حالة عدم اليقين بالمستقبل الذي ينتظر عمل هذا الكيان المسلح
وإلى جانب ما تقدم، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى متضايقة من طبيعة التوظيف الإيراني للمعسكرات التابعة للحشد الشعبي، وهو ما أعلنت عنه مراراً من ضرورة قيام الحكومة العراقية من بسط سيطرتها على هذه المعسكرات، وإبعادها عن الأدوار الإيرانية التي تستخدمها في تخزين الأسلحة والصواريخ والمعدات الثقيلة، وهو ما أكدته الهجمات الجوية الإسرائيلية على معسكر الشهداء في أمرلي الشهر الماضي، والتي راح على إثرها العديد من القتلى الإيرانيين وعناصر تابعين لحزب الله اللبناني، فالخشية الأمريكية متأتية من إمكانية إستخدام إيران لهذه المعسكرات، لشن هجمات على المصالح الأمريكية في العراق، كما حصل في الأشهر الماضية من شن هجوم صاروخي على محيط السفارة الأمريكية في بغداد، إلى جانب هجوم صاروخي آخر على شركة نفطية أمريكية تعمل في البصرة.
وعلى الرغم من الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في يوليو 2019، الذي أمر بموجبه بإعادة هيكلة الحشد الشعبي وربطه بالقيادة العامة للقوات المسلحة، عن طريق وضع أطر قانونية تنظم عمله من حيث التراتبية العسكرية والتنسيق، والعمل المشترك مع باقي صنوف القوات المسلحة، إلا أن هذا الأمر مثل حالة عدم اليقين بالمستقبل الذي ينتظر عمل هذا الكيان المسلح، الذي يكتسب شرعيته من ظروف داخلية وخارجية، جعلت منه رقماً صعباً في المعادلة الأمنية العراقية، بحيث لم يعد بالإمكان الحد من نفوذه ودوره، خصوصاً أنه بدأ يبرر وجوده بأنه الحامي الوحيد والشرعي للمكتسبات السياسية بعد العام 2003، وهو ما قد يجعل من الصعب جداً الربط بينه وبين أي حسابات سياسية خلال المرحلة القادمة.
على إثر تعرض أربعة قواعد عسكرية تابعة للحشد الشعبي في “طوز خورماتو وأمرلي وبلد والدور” خلال الأسابيع القليلة الماضية لهجمات جوية مجهولة، برزت حالة من التضارب في التصريحات الصادرة عن قيادات الحشد الشعبي
وفضلاً عن موضوع إعادة الهيكلة، تحدث الأمر الديواني عن وجوب إغلاق مقرات الحشد الشعبي في عموم العراق في موعد أقصاه 31 من أغسطس 2019، وهو ما لم يحصل حتى هذه اللحظة، ومن أجل تدارك هذا الوضع، جاء إعلان رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، عن مهلة شهرين لإغلاق جميع مقرات الحشد الشعبي وسحب قواته العسكرية إلى خارج المدن وتسليم ملف إدارة الأمن في المناطق التي سينسحب منها الحشد الشعبي إلى الجيش العراقي، في توجه على مايبدو مدرك لطبيعة الضغوط الأمريكية السياسية، والعسكرية الإسرائيلية لوضع حد للأدوار الإيرانية في العراق.
تصريحات حشدية متناقضة
على إثر تعرض أربعة قواعد عسكرية تابعة للحشد الشعبي في “طوز خورماتو وأمرلي وبلد والدور” خلال الأسابيع القليلة الماضية لهجمات جوية مجهولة، برزت حالة من التضارب في التصريحات الصادرة عن قيادات الحشد الشعبي، في توضيح السبب الرئيسي أو الفاعل الحقيقي الذي يقف خلف هذه الهجمات، ورغم وضوح أن الفاعل الرئيسي الذي يقف خلف هذه الهجمات هي “إسرائيل”، وهو ما أكدته تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو الأسبوع الماضي، من أن “إسرائيل” سترد على أية تهديدات وشيكة قد تتعرض لها.
ه يبدو أن قادة الحشد يتحاشون الحرج الإقليمي من إلصاق التهمة بـ”إسرائيل”، لأسباب كثيرة منها: موقفهم السياسي من جمهورهم الداخلي، الخوف على رمزية المقاومة الإسلامية في العراق، وإنعدام أي إمكانية عسكرية للرد على هذه الهجمات.
هذا بالإضافة إلى تقارير إستخبارية إسرائيلية أكدت قيام الطيران الإسرائيلي بطلعات جوية فوق العراق خلال الأشهر الماضية، لإستطلاع وتحديد المواقع العسكرية التابعة للحشد الشعبي في العراق، والتي تستخدمها إيران في تخزين الإسلحة، أو إستخدامها لنقل الأسلحة إلى لبنان عبر سوريا، وعلى الرغم من تأكد قادة الحشد الشعبي من أن “إسرائيل” هي الفاعل الرئيسي، وهو ما أكدته تصريحات نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، من أن الولايات المتحدة الأمريكية إستقدمت أربعة طائرات مسيرة إسرائيلية من أذربيجان، وهي معلومات حصل عليها من عناصر جهاز إستخبارت الحرس الثوري العاملين في باكو، إلا أنه يبدو أن قادة الحشد يتحاشون الحرج الإقليمي من إلصاق التهمة بـ”إسرائيل”، لأسباب كثيرة منها: موقفهم السياسي من جمهورهم الداخلي، الخوف على رمزية المقاومة الإسلامية في العراق، وإنعدام أي إمكانية عسكرية للرد على هذه الهجمات.
ومن جهة أخرى يمكن القول بأن حالة التضارب التي شهدتها التصريحات الحشدية بين رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، ونائبه أبو مهدي المهندس، تعكس حالة من التخبط السياسي الذي تعيشه منظومة الحشد الشعبي اليوم، خصوصاً وأن الحشد الشعبي غير قادر على التعامل مع هذا النوع من النسق المتصاعد للتهديدات والضغوط السياسية والأمنية.
رئاسة هيئة الحشد الشعبي وبتوقيع الاستاذ فالح الفياض، تصدر بيانا تخفف من اللهجة الخطابية الغاضبة التي تضمنها بيان نائب رئيس الهيئة ابو مهدي المهندس. pic.twitter.com/oL34LBLahq
— Husham Alhashimi هشام الهاشمي (@hushamalhashimi) August 21, 2019
ومن ثم فإن هذا التضارب قد ينعكس على هيكلية الحشد الشعبي، فإعلان رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض من أن تصريحات نائبه لاتمثل الموقف الرسمي للحشد، والتي حمل من خلالها مسؤولية تعرض معسكرات الحشد الشعبي للهجمات الجوية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن السؤال الذي يطرح هنا “كيف يمكن لنائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أن يصدر بيان دون علم الرئيس؟”، وهو مشهد على مايبدو يختصر الحالة الأمنية التي يمر بها العراق.
العراق على حافة الحرب بالوكالة
بعد نجاح إيران في تحويل الساحة السورية إلى إحدى ميادين الصراع بالوكالة مع “إسرائيل”، يبدو أنها ماضية اليوم بتكرار السيناريو السوري في العراق، فصانع القرار في إيران يدرك جيداً قيمة أن تكون هناك مصدات اأمنية تسعى إيران عن طريقها إلى حفظ أمنها القومي، بعيداً عن أية تهديدات أمنية يمكن أن تصدر إلى الداخل الإيراني المهترئ إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً، هذا إلى جانب فقدان النظام السياسي في إيران لمناعة إستيعاب الإرتدادات الأمنية الإقليمية على الداخل الإيراني.
إن عدم تقدم الحكومة العراقية إلى صدارة المشهد السياسي العراقي، وممارسة دور أكثر فعالية في فرض سلطة الدولة على هذه المعسكرات التي تستخدمها إيران لأغراضها الإقليمية، سيساعد على فتح الشهية الإسرائيلية أكثر في الأيام القادمة
فالالتزام الإستراتيجي الذي أظهره قادة الحشد الشعبي بأنهم سيكونون جزءً من أي حرب تقع على إيران، ومن ثم فإنهم حسموا خياراتهم مع الجانب الإيراني، وهو ماتطمح إليه إيران اليوم بنقل الصراع من مضيق هرمز إلى الداخل العراقي واليمني، وهو توجه متعمد من إيران لإنعدام فرص المواجهة في مضيق هرمز، فالتضارب في التصريحات داخل هيكلية الحشد الشعبي، قد تطيح برئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، الذي فضل عدم إتهام الولايات المتحدة الأمريكية بمسؤولية الهجمات التي وقعت على معسكرات الحشد، وهو موقف لايتماشى مع الرغبات الإيرانية في العراق، وهو ماقد يفرز حالة غضب إيرانية قد تكون إحدى نتائجها الإطاحة به، وفتح الطريق واسعاً أمام نائبه الذي إتخذ مواقف متماهية مع الرغبة السياسية الإيرانية في تأليب الرأي العام العراقي على الولايات المتحدة الأمريكية.
إن عدم تقدم الحكومة العراقية إلى صدارة المشهد السياسي العراقي، وممارسة دور أكثر فعالية في فرض سلطة الدولة على هذه المعسكرات التي تستخدمها إيران لأغراضها الإقليمية، سيساعد على فتح الشهية الإسرائيلية أكثر في الأيام القادمة، خصوصاً في ظل عدم توفر أي فرصة للرد، وهو ماتطمح إليه “إسرائيل”، فهي عادةً ماتفضل المواجهات العسكرية المنخفضة الكلفة، والتي تنعدم فيها قدرات العدو على التهديد، وهو ما أكدته الهجمات الإسرائيلية على مقرات الحرس الثوري الإيراني في محيط هضبة الجولان ومطار دمشق الدولي وحلب وغيرها من المدن السورية خلال الفترة الماضية.
فإذا لم تتمكن إيران من الرد على الهجمات الإسرائيلية على مقراتها، فكيف يمكن للحشد الشعبي بقدراته العسكرية المتوسطة الرد على هذه الهجمات، وهو ماينبغي للحكومة العراقية التنبه إليه، ووضع حد لإمكانية إنزلاق الساحة العراقية لمواجهات بالوكالة مع “إسرائيل”، وأولى الإجراءات التي ينبغي إتخاذها هو إجبار المليشيات المسلحة في العراق العمل ضمن عنوان واحد، إما الحشد الشعبي أو المقاومة الإسلامية، فمن غير الممكن أن تكون هذه المليشيات جزءً من المنظومة الأمنية العراقية ضمن هيئة الحشد الشعبي، وفي نفس الوقت تعمل ضمن مسمى المقاومة الإسلامية في العراق، والتي هي جزءً من محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة.