لم يعد دخول الجامعة في المغرب امتيازًا، بل مجرد مرحلة في التعليم، خاصة أن معدل البطالة يتجاوز اليوم مليون عاطل عن العمل، معظمهم من حاملي الشهادات العليا الذين اصطدموا بعد التخرج بواقع سوق الشغل الذي لا يوافق طبيعة التكوين الذي حصلوا عليه طيلة السنوات التي قضوها في الجامعة، ومنه تأتي الضرورة الملحة لدعم قطاع التكوين المهني من أجل توفير مزيد من فرص الشغل.
هذا ما خلص إليه العاهل المغربي في خطاب “ثورة الملك والشعب” الشهير الذي تحتفي به المملكة في الـ 20 من أغسطس/آب من كل عام، حيث رأى أن “النهوض بالتكوين المهني أصبح ضرورة ملحة، ليس فقط من أجل توفير فرص العمل، وإنما أيضًا لتأهيل المغرب، لرفع تحديات التنافسية الاقتصادية ومواكبة التطورات العالمية، في مختلف المجالات”، واعتبر العاهل محمد السادس أن “الحصول على الباكالوريا وولوج الجامعات، ليس امتيازًا، ولا يشكل سوى مرحلة في التعليم. وإنما الأهم الحصول على تكوين يفتح آفاق الاندماج المهني والاستقرار الاجتماعي”.
أداة فعالة لولوج وظيفة لائقة
يتعلق الأمر بأداة فعالة لتمكين الشباب من الولوج السريع لشغل لائق، وممارسة أنشطة مدرة للدخل، أو خلق مقاولاتهم الخاصة، وفقًا لما أكده وزير التربية الوطنية سعيد أمزازي، معتبرًا أن التحدي الذي يواجه البلاد يكمن في إدماج فئة من الشباب يزداد عددهم أكثر فأكثر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتتأثر بشكل كبير بالبطالة. حيث يصل عدد الذين ليسوا طلابًا أو عاملين أو متدربين إلى مليوني شاب، حسب تقديرات المندوبية السامية للتخطيط.
هناك تباين صارخ في المغرب بين الإنفاق على التعليم والنتائج التعليمية السيئة ومعدل البطالة
وعلى طرف النقيض، أثار خطاب الملك ردود فعل متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة موقع فيسبوك الذي يعد الأكثر شعبية لدى المغاربة، إذ أبدى البعض تخوفهم من دعم قطاع التكوين المهني على حساب الجامعة، على اعتبار أن هذه الأخيرة تفرز أطرًا ونخبًا مثقفة، في حين أن معاهد التكوين المهني تولي الأهمية للأيدي العاملة التي ستعمل بعد تخرجها في القطاع الخاص مقابل أجور زهيدة.
فيما يعتقد آخرون أن الجامعة لم تفرز إلا نخب عاطلة عن العمل بينما يستطيع طلاب المعاهد المهنية الحصول على وظائف مباشرة بعد تخرجهم، حتى لو كانت الأجور ضعيفة في البداية، لأنها مرتبطة بسنوات الخبرة المتراكمة.
أداء مخيب للآمال
هناك تباين صارخ في المغرب بين الإنفاق على التعليم والنتائج التعليمية السيئة ومعدل البطالة، حيث أشارت مؤسسة صندوق النقد الدولي إلى وجود عدد كبير من الأيدي العاملة غير المدربة أو التي تتوافر على مستوى تعليمي ضعيف، في حين لا يمثل ذوو التعليم العالي إلا أقلية، وكشفت المؤسسة المالية العالمية أن نحو 63% من الشغيلة في المغرب لا يحملون أي شهادات، في مقابل خريجي التعليم العالي الذين لا يمثلون إلا 11.4% فقط. وعلاوة على ذلك، كشف استطلاع للرأي، أن الفساد يؤدي إلى إضعاف فرص الاستثمار ويحدث حالة من عدم الثقة واليقين في السوق، وتشتكي خُمس الشركات المستثمرة في المغرب من الفساد، باعتباره أكبر عائق أمام ممارسة الأعمال.
أنجز المغرب استثمارات ضخمة في القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية بما فيها قطاع الطيران والإلكترونيك والسيارات والطاقات المتجددة
ما زال ضعف التعليم والهدر المدرسي المبكر يشكلان تحديات خطيرة تعيق نمو الاقتصاد المغربي، وفقًا لصندوق النقد الذي شدد على أن العقبة الأساسية للمنظومة التعليمية تتجلى في عدم مواءمة برامج التعليم العالي مع المهارات اللازمة في سوق العامل، إذ غالبًا ما يكون أرباب العمل مضطرين إلى توفير تدريب للموظفين الجدد. وفي المقابل أشادت المؤسسة المالية العالمية بالجهود التي يبذلها المغرب من أجل تشجيع التكوين المهني بعد أن أصبحت نسبة المستفيدين منه الأعلى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ورغم ذلك تظل فرص العمل لخريجي التكوين المهني ضعيفة.
أنجز المغرب استثمارات ضخمة في القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية بما فيها قطاع الطيران والإلكترونيك والسيارات والطاقات المتجددة، من أجل رفع نسبة النمو وزيادة الإنتاجية، وكلفت هذه الاستثمارات موارد كبيرة وترسانة من الحوافز لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، لكن الحصيلة كانت مخيبة للآمال، حسب تقرير لمجموعة البنك الدولي الذي أكد أن الاقتصاد المغربي سجل أداءً مخيبًا للآمال من حيث خلق فرص الشغل، علمًا أن نسبة المغاربة الذين بلغوا سن العمل تسجل ارتفاعًا بـ270 ألف شاب على أساس سنوي، وفي المقابل لا تتجاوز فرص الشغل المحدثة 26 ألف منصب سنويًا.
يظهر أن الجامعات المغربية تعيش مؤخرًا تراجعًا غير مسبوق، على عكس العقود الماضية، كانت الجامعات في المغرب منارة للبحث العلمي وفضاء للحوار الفكري
بفضل الاستقرار السياسي للمغرب وبنيته التحتية القوية وموقعه الإستراتيجي المهم، ظهر كقاعدة صناعية وتجارية بالنسبة للشركات الأجنبية، وفقًا لتقرير صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية بخصوص “مناخ الاستثمار العالمي لـ2019”. وبالنظر إلى وضعية سوق العمل، يوحي ذلك بالفجوة العميقة بين عدد كبير من خريجي الجامعات الذين لا يتمكنون من الحصول على وظائف مناسبة لمستوى تعليمهم وتكوينهم، في حين يشتكي أرباب العمل من نقص العمالة الماهرة. ويرجع هذا العوز في اليد العاملة الماهرة، حسب تقرير الخارجية الأمريكية، إلى نظام التعليم المغربي الذي لا يولي الأولوية لتنمية المهارات التي تتناسب مع متطلبات سوق الشغل، لهذا نجد الكثير خريجي الجامعات المغربية غير مستعدين بتاتًا لتلبية شروط سوق الوظائف.
الجامعة.. جسد بلا روح
يظهر أن الجامعات المغربية تعيش مؤخرًا تراجعًا غير مسبوق، على عكس العقود الماضية، كانت الجامعات في المغرب منارة للبحث العلمي وفضاء للحوار الفكري، وكان المفكر والسوسيولوجي المغربي محمد جسوس قد أعلن تخوفه سنة 1985 من أن تتحول الجامعة إلى جسد بلا روح أو مؤسسة دون وظائف، وهو ما أصبح واقعًا ملموسًا الآن، رغم أن العديد من الطلاب يحرزون نتائج عالية في السنة الختامية للمرحلة الثانوية، ويلجون مدارس ومعاهد عليا أملاً في الحصول على وظائف تناسب مستواهم التعليمي، وكثير منهم يحصلون على مرادهم. إلا أننا نجد عددًا كبيرًا من الطلاب مستواهم متعثر، يحصلون على البكالوريا بمشقة الأنفس، ويلتجأون إلى الجامعة دون أن يعلموا شيئًا عن الآفاق التي تتيحها التخصصات المختارة، ليحصلوا على الشهادة بعد سنوات، ويطالبون الدولة فيما بعد بإدماجهم وتوظيفهم في القطاع العمومي.
درجت العادة أنه بمجرد ما يحصل الطالب على شهادته العليا، يلتحق بإحدى المجموعات التي كانت تنظم تظاهرات احتجاجية أمام البرلمان تزامنًا مع انعقاد مجلسي النواب والمستشارين كل أسبوع
وتعرف بعض التخصصات في الجامعة اكتظاظًا مهولاً في صفوفها مثل القانون العام والدراسات الإسلامية وبعض الشعب الأخرى في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، حيث لا يكاد المدرج يتسع لجميع الطلاب، خاصة في الأيام التي تجري فيها الامتحانات، وغالبًا يلجأ الكثير منهم إلى التخصصات الأدبية معتقدين أنها سهلة ولا تستلزم الحضور الدائم للدروس والمحاضرات على عكس الشعب العلمية والتقنية، وهو اعتقاد خاطئ، لأن من يسلك مسارًا يجب أن يبرز تميزه فيه حتى يظفر بعد التخرج بوظيفة تلائم مستواه الأكاديمي أو يؤسس لمساره الوظيفي الخاص بمعزل عن مسار أغلبية الطلاب.
ودرجت العادة أنه بمجرد ما يحصل الطالب على شهادته العليا، يلتحق بإحدى المجموعات التي كانت تنظم تظاهرات احتجاجية أمام البرلمان تزامنًا مع انعقاد مجلسي النواب والمستشارين كل أسبوع، من أجل المطالبة بالإدماج المباشر في الوظيفة العمومية، وهو أمر بات مستحيلاً مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة بعد تبوئه المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لعام 2011، إذ كانت أولى قرارات رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، إلغاء الإدماج المباشر وجعل الامتحان المهني شرط أساسي لولوج الوظيفة العمومية.