تعد مشكلة وراثة الحكم من أبرز المشكلات التي واجهت الدولة العثمانية على مدار قرون، وربما يرجع ذلك إلى غياب قواعد صارمة بخصوص انتقال الحكم من السلطان لأحد أبنائه أو أخوته، وقد ذكر عدد كبير من الباحثين أن هناك عدة أنظمة اتبعها سلاطين بني عثمان في هذا الأمر على مدار قرون.
يرى المؤرخ إسماعيل حقي تشارشيلي في كتابه “تشكيلات السراي” أن الأمراء كانوا يشاركون في إدارة الدولة العثمانية في المرحلة الأولى من عمر الدولة، حيث كان يتم إرسالهم لإدارة السناجق كتدريب على إدارة الدولة فيما بعد، حيث يكتسب الخبرة الكافية للحكم.
شهد تاريخ الدولة العثمانية خلافات دامية بين الأمراء بشأن العرش
ووفق الباحث خلدون آر أوغلو في بحث له بعنوان “مؤسسة الأمراء في الدولة العثمانية”، فإنه رغم عدم وجود قاعدة لسمات الأمير الذي سيصعد إلى العرش، عادة ما كان يعتلي الأمير الأكبر العرش، ولكن أحيانًا كانت تحدث بعض الاستثناءات، مثلما أوصى السلطان بيازيد الثاني بأن يأتي ابنه أحمد من بعده، ولم يكن أكبر أولاده.
لقد شهد تاريخ الدولة العثمانية خلافات دامية بين الأمراء بشأن العرش، حيث يورد الباحث شرف الدين توران في كتابه “صراعات العرش في عهد القانوني”، مثالاً على هذه الصراعات، وهي واقعة عصيان الأمير بيازيد على والده السلطان القانوني وصراعه الكبير مع أخيه سليم على العرش، الذي انتهى لصالح الأخير.
ومنذ عهد السلطان مراد الثالث، أصبح السلطان يرسل أميرًا واحدًا من أبنائه لإدارة السنجق، وفي هذا إشارة إلى أن ذاك الأمير هو الذي سيصبح سلطانًا بعد ذلك. كما يذكر المؤرخ جورهان بوريكتشي في بحث بعنوان “السلالة الحاكمة”، ويؤكد أن هذا التغيير كان من أجل منع صراعات العرش بين الأمراء أو قتل الأخوة، فمن المعروف أنه بعد وفاة السلطان، كان الأمير الذي سيحل محله يعدم جميع أخوته، واستمر تقليد “إدارة السناجق” حتى عهد السلطان أحمد الأول، ثم تم إلغاؤه وبدأ تقليد جديد يعرف بـ”شمشيرلك” أو “نظام القفص”، وهو اسم له دلالته.
يصف الباحث روهات ألب في بحث بعنوان “مؤسسة ولي العهد”، “نظام القفص” بأنه حبس للأمراء داخل جناح في الحرم ووضع رقابة عليهم
وفي كتابه “تاريخ بتشاوي” يُرجع المؤرخ إبراهيم بتشاوي أسباب اللجوء إلى “نظام القفص” إلى وقف إعدام أحد الأمراء لأخوته (من المعروف أن دستور السلطان الفاتح سمح بإعدام الأفراد الذكور من العائلة الحاكمة)، خصوصًا بعد الاعتراضات الواضحة من الشعب على هذا الأمر، حتى إن كثيرًا من الشعراء انتقدوا مسألة قتل الأمراء في أشعارهم. ويذكر المؤرخ كاتب شلبي في كتابه “فذلكة التواريخ” أن هذا النظام استمر دون قتال، وهو ما جعله يستمر حتى القرن الـ19.
يصف الباحث روهات ألب في بحث بعنوان “مؤسسة ولي العهد”، “نظام القفص” بأنه حبس للأمراء داخل جناح في الحرم، ووضع رقابة عليهم، ويؤكد أنه لا توجد معلومات تاريخية محددة في الفترة الأولى من تطبيق هذا التقليد حتى عهد القرن الـ17، كما يرى الباحث نفسه أنه بعد ذلك التاريخ، أصبح معروفًا أن الأمراء المتنافسين على العرش، كان يُوضع كل واحد منهم في جناح خاص به، ويُمنع اللقاء بينهم.
وفي كتابه سالف الذكر، يذكر المؤرخ إسماعيل حقي تشارشلي أن الأمراء كان بإمكانهم أن يلتقوا بالجواري فقط، وكانت السلطانة أم الأمير لا تأتي إلى زيارته دون إذن السلطان، وكان السلطان نفسه يزورهم في الأعياد، ويأخذهم معه أحيانًا إلى صلاة الجمعة، كما أصبح مسموحًا لهؤلاء الأمراء، في فترة لاحقة، ممارسة بعض هواياتهم خلال فترة بقائهم في “القفص” كركوب الخيل داخل السراي أو العمل في أحد المجالات المحببة إليه كالنجارة أو الرسم.
يؤكد المؤرخ أحمد جودت باشا في كتابه “تذاكر” أن كثيرًا من الانتقادت وجهت لهذا النظام، حتى إن السلطان سليم الثالث كتب شعرًا ينتقد فيه القفص
ووفقًا لتشارشلي، فإنه منذ عهد السلطان أحمد الثالث شهد هذا التقليد بعض التغييرات التي بموجبها أصبح من حق الأمراء الخروج في بعض الرحلات مع السلطان، وأصبحت قواعد القفص أقل صرامة مما كانت عليه. ويؤكد تشارشلي أن القواعد الصارمة للقفص بدأت تنتهي تمامًا في عهد السلطان مصطفى الثالث، ويذكر مثالاً على ذلك، بأن الأمير عبد الحميد الأول أنجب في القفص ولم تُقتل ابنته.
ويؤكد المؤرخ أحمد جودت باشا في كتابه “تذاكر” أن كثيرًا من الانتقادت وجهت لهذا النظام، حتى إن السلطان سليم الثالث كتب شعرًا ينتقد فيه القفص، ووصف الحالة التي يكون عليها الأمير خلال عزلته في جناحه الخاص دون زيارة أحد. كما يُرجع الباحث روهات ألب أسباب بداية تراجع الدولة العثمانية عما كانت عليه إلى هذا النظام، لأنه حتى إن كان نظام القفص قد حمى الأمراء من القتل أو منعهم من الخروج على السلطان، إلا أنه عزلهم عن المجتمع، فصار الواحد منهم يصعد إلى العرش دون خبرة بالحكم.
ويعلق المؤرخ أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه “الدولة العثمانية تاريخ وحضارة” على هذا النظام، قائلاً: “لقد ظل الأمير حبيسًا داخل الحرم السلطاني، فكان التخلي عن إرسال الأمراء إلى السناجق كارثة عظيمة حلّت بنظام السلطنة العثمانية. فقد كان الأمراء يقضون حياتهم داخل جناح خاص في الحرم، ولم تتح الفرصة لهم لتنمية مواهبهم وهبطت مستوياتهم من الناحية العلمية والثقافية”.
وأخيرًا، تم إلغاء نظام القفص في عهد السلطان محمود الثاني، كما يذكر المؤرخ أحمد جودت باشا، وأصبحت أولوية الصعود إلى العرش لأكبر الأمراء سنًا أو للأمير الذي يختاره السلطان وليًا للعهد، وصار له بناء خاص داخل السراي.