تختلف متطلبات المسافرين حول العالم من شخص لآخر، إذ يبحث البعض عن الرفاهية والسرعة والأمن بينما يريد البعض الآخر المتعة والاستكشاف والتكلفة المنخفضة، مما جعل شركات الطيران تسعى لتوفير احتياجات كل الفئات والمتطلبات لذا بات استخدام الطائرة في وقتنا الحاضر الخيار الأول في كل رحلة. إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة، فما زال البعض يجدون رغبة بتجربة السفر على متن باخرة أو قطار قديم يطل على مناظر طبيعية.
وعلى خلاف ما يعرفه الكثيرين عن السفر عبر القطارات إلا أنها ما زالت الوسيلة الأكثر متعة من بين وسائل السفر الأخرى بالإضافة إلى قدرتها هي الأخرى على تلبية احتياجات كل الفئات باختلافاتها. ومن بين أشهر القطارات التي حافظت على روادها وتجددها لما يناسب متطلبات السفر الحديثة إلى جانب المتعة والاستكشاف ومنحه المسافر فرصة للابتعاد عن ضجيج المدن يأتي قطار الشرق السريع الذي يعدّ أسطورة من أساطير الماضي والذي ما زال يعمل حتى يومنا في بعض المقاطع، كأفضل خيار للسفر البري.
الرحلة الأولى
يعدّ قطار الشرق السريع من أقدم القطارات التي وصلت العديد من المدن الأوروبية ببعضها البعض كباريس وفيينا والبندقية واسطنبول، إذ أنشئ عام 1883 من قبل شركة السكك الحديدية الفرنسية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وكان حينها مجرد خدمة سكك حديدية دولية عادية، ولكنه ومع مرور الزمن أصبح يُرادِف الإثارة والسفر الفاخر وقد تغيّرت مساراته ومحطات توقفه عدة مرات طوال السنوات الماضية إلا أن محطتيّ باريس إسطنبول الوحيدة التي بقيت على حالها حتى عام 1977، حين توقفت عن الخدمة في إسطنبول ثم في باريس حيث تم استبدل القطار القديم بآخر جديد يربط باريس بفيينا النمساوية، وقد عَمِلَ للمرة الأخيرة في باريس يوم الجمعة 8 حزيران 2007 إلا أنه ما زال يعرف حتى الآن باسمه الأول.
أحد الملصقات لمسار القطار
عاش قطار الشرق السريع فترة مهمة في تاريخ عمله في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إذ كان القطار الوحيد الذي يوفر رحلة فخمة ومريحة لمسافات طويلة تصل مدة الرحلة إلى حوالي 3186 كيلومتر (1980 ميل) بين إسطنبول وباريس فقط! وقد كان حينها خيارًا محببًا للكثير من الملوك والأرستقراطيين والمشاهير.
شكّل مرور القطار من مدينة إسطنبول فرصة كبيرة للكثيرين في زيارة عدة مناطق إنطلاقًا من المدينة إذ كان من السهل على القادمين من أوروبا العبور إلى بلدان الدول العربية من خلال إسطنبول إذ وعلى سبيل المثال يمكن للمسافرين مواصلة رحلتهم والسفر عبر قارب في مضيق البوسفور إلى محطة حيدر باشا للسكك الحديدية للانضمام إلى برج الثور السريع الذاهب باتجاه مدينة بغداد العراقية.
القطار الذاهب من إسطنبول إلى بغداد مرورًا بحلب
أتى ذكر قطار الشرق في العديد من الكتب التاريخية والروايات الأدبية التي أصبح بعضًا منها عالميًا مثل رواية “جريمة في قطار الشرق السريع” الصادرة عام 1934للكاتبة البريطانية أجاثا ميري كريستي، والتي تحولت فيما بعد إلى فيلم بعنوان murder on the orient express، إذ كانت الروائية قد كتبت جزءًا كبيرًا من هذه الرواية في فندق Pera Palas hotel في مدينة إسطنبول والذي ذاع صيته بعدها بشكل كبير حتى أصبحت الغرفة التي سكنتها الروائية معلمًا سياحيًا معروفًا للباحثين عن سياحة الأدب.
مدخل فندق pera palas في منطقة بي أوغلو في إسطنبول
بالإضافة إلى رواية الكاتب البريطاني الشهير غراهام غرين، والذي نشر رواية “قطار إسطنبول” عام 1932 التي تدور أحداثها حول عملية تجسس رائعة تحدث على متن قطار أورينت إكسبريس أثناء عبوره من باريس إلى الفسطنطينية (إسطنبول) إذ تكشف الرواية عن قصة علاقة بين يهودي براغماتي، وفتاة جوقة ساذجة، يتعرفون على بعضهم أثناء واحدة من الحفلات الموسيقية التي كانت تقام في مطعم القطار.
صالون الركاب في قطار فيينا باريس الحالي
وقد صدر أيضًا كتاب كامل يتحدث عن عصر السفر بقطار الشرق السريع للمؤلف أنطوني بورتون يروي فيه الكثير من القصص التي جرت على متن القطار، كما يقدم صورًة كاملة عن بناءه الداخلي وأبرز ركابه من الملوك والمغنيين والشخصيات السياسية الذين كانوا يستخدمونه في تنقلهم.
أين قطار الشرق الآن؟
لسوء الحظ أصبح المسافرون في تسعينيات القرن أكثر اهتمامًا بالسرعة في الوصول إلى وجهتهم بدلًا من التفكير في الرحلة نفسها، فقد ولّت أيام السفر الطويلة والممتعة والتي تحمل بين ثناياها علاقات وقصص مثيرة إلا أن القائمين على إدارة أمور السكة وجدوا طريقتهم في الحفاظ على تاريخ وتميز القطار ففي ديسمبر/كانون الأول 2009 قام قطار الشرق السريع بآخر رحلة له على الإطلاق بدأت من مدينة ستراسبورج إلى فيينا، وتم إطلاق سكة حديدية جديدة وبمسارات وجدول زمني جديد ليصبح مساره بين بعض المدن الأوروبية فقط وهي باريس لندن البندقية وفيينا إذ تستغرق الرحلة الواحدة الآن ما يقارب الـ27 ساعة يقضي المسافر خلالها رحلة من رحلات العمر الفاخرة بين خدمة فندقية رفيعة المستوى وإطلالة على مناظرة ساحرة من الريف الأوروبي.
أما في تركيا فقد تغيّرت محطات القطار بشكل كامل إذ قامت وزارة المواصلات بتحويل مساره إلى داخل القطر فقد دخل حيّز العمل في 15 مايو/أيار 1949، وهو تابع للمديرية العامة للسكك الحديدية التركية، إذ يجري رحلاته بين عدة مدن تركية، فيما يقطع مسافة ألف و300 كم، في 25 ساعة تقريبًا، يتوقف خلالها في 53 محطة في سكة تعتبر رابع أجمل مسار حول العالم، الأمر الذي لعب دورًا كبيرًا في زيادة إقبال السياح من كافة الأعمار على السفر على متنه، وخاصة الشباب.
كابينة في قطار Doğu Ekspresi التركي
كما يوجد في تركيا الآن قطار سياحي يحمل اسم قطار الشرق ويبدأ رحلته من العاصمة التركية أنقرة حصرًا مرورًا بكركالي، قيصري، سيسواس، أرذنجان ومن ثم أرض الروم نهاية بمدينة قارص إذ تعتبر جميع هذه المدن من الأماكن الشتوية شديدة البرودة ويحتوي القطار على كابينات بأحجام وأنواع مختلفة كما أنه يتميز بأسعار بطاقاته الرخيصة ووجود العديد من الخصومات للطلاب والشباب. كما يضم أيضًا صالة للطعام ومطبخًا يقدم بعض الأطعمة المحلية. يعتبر السفر عبر قطار الشرق الجديد تجربة رائعة لمحبي الطبيعة، وهواة التصوير، ضمن أجور مناسبة ومقابل خدمات ذات جودة عالية.