بعد 6 أشهر من انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر، يبقى المشهد السياسي في البلاد غامضًا، فالأفق مبهم الانفراج بالنظر إلى تباين الآراء بين السلطة الحاليّة الفاعلة ممثلة في المؤسسة العسكرية وفصيل فاعل من الحراك يرى أن الحل خارج ما يقترحه الجيش، وبين الطرفين يبقى رأي وصوت الأحزاب السياسية خافتًا ومنقسمًا بين موالاة تبحث عن تموقع جديد والتخلص من وصمة عار عباءة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي ارتدتها لسنوات، ومعارضة ازدادت تشتتًا وفشلت حتى الآن في تقديم البديل الذي يأخذ بيد البلاد إلى بر الأمان.
ووسط هذا الغموض المعقد، يتساءل الجزائريون عمن سيأتي بالحل الذي يخرج البلاد من مغبة الوقوع في أزمة قد تزداد تعقيدًا، خاصة أن الدخول الاجتماعي على الأبواب، وحال الواقع عنوانه وضع اقتصادي غير مشجع وظرف سياسي أصبح لا يسع المزيد من التأخير لرحيل الانسداد القائم.
حراك متواصل
رغم الصورة غير الواضحة التي تطبع المشهد السياسي في الجزائر، فإن ما يبعث على أمل التغيير هو استمرار الحراك في نضاله بعد مرور نصف عام على انطلاقه في 22 من فبراير/شباط الماضي.
استمرار النضال الشعبي عامل ذو قيمة لتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها الجزائريون قبل نصف عام
ورغم التضييقات الأمنية وتراجع عدد المشاركين فيه، فقد استطاع الحراك أن يضمن تواصله في موعديه الأسبوعيين، يوم الثلاثاء المخصص للطلبة الذين لا يزالون ينزلون إلى الشارع رغم تزامن هذه الفترة مع العطلة الصيفية، وذلك بدعم من مواطنين ألحوا على استمرار هذا السلوك النضالي.
أما اليوم الثاني فهو مسيرات الجمعة التي تكون في معظم ولايات الجزائر، وإن تباين عددها من منطقة لأخرى، خاصة بعد تأثير الشعارات الطائفية والفئوية سلبًا على عدد المشاركين، إلا أنها تبقى محافظة على زخمها وضغطها المتواصل على السلطة في تغيير النظام جذريًا والقطيعة مع الممارسات السابقة وتمكين الشعب من اختيار ممثليه.
واستمرار النضال الشعبي عامل ذو قيمة لتحقيق الأهداف التي خرج من أجلها الجزائريون قبل نصف عام، ويرى الدكتور نور الدين بكيس المختص في علم الاجتماع أنه “يجب المحافظة على لحظة استشعار أن التغيير ممكن لأنه ينقلنا من الشعور بالإحباط إلى المشاركة ويحول حالة الشكوى إلى حالة اعتراض واضحة”.
لكن هذا الاستمرار لا يمكن أن يمنع الوقوف لحظة لتقييم الحراك منذ انطلاقه، فقد استطاع أن يجعل الولاية الخامسة أو التمديد في خبر كان، وهو إنجاز كبير، كما استطاع أن يتسبب في التحقيق مع رجال أعمال ومسؤولين ووضعهم رهن الحبس الاحتياطي، وهم الذين كانوا إلى الأمس القريب يعبثون في البلاد دون حسيب أو قريب.
تعطلت مطالب الحراك عن التحقيق، خاصة بعد الاختراق الذي مس بعض صفوفه، وقابله في الوقت ذاته تشبث في الموقف من طرف السلطة الحاليّة التي لا ترى بديلاً للخروج من الأزمة إلا الذهاب لانتخاب رئيس جديد
غير أنه في الجهة المقابلة، لا يمكن إنكار أن الحراك لم يحقق أهدافًا جديدة منذ إسقاط بوتفليقة، وساهم فشله في إفراز ممثلين وقادة يتحدثون باسمه وكذلك اختراقه من أصحاب الأفكار الطائفية والفئوية والإيديولوجية، وهو الذي أطلقه جميع الجزائريين بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم.
تعطلت مطالب الحراك عن التحقيق، خاصة بعد الاختراق الذي مس بعض صفوفه، وقابله في الوقت ذاته تشبث في الموقف من طرف السلطة الحاليّة التي لا ترى بديلاً للخروج من الأزمة إلا الذهاب لانتخاب رئيس جديد، في حين يشترط الحراك على الأقل ذهاب الوزير الأول نور الدين بدوي وحكومته قبل التفكير في الاستحقاق الانتخابي وشروط تنظيمه.
يقول مدير مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي والبحر الأبيض المتوسط في جنيف حسني عبيدي عن الحراك الذي يحدث في بلاده لصحيفة “لاكروا” الفرنسية: “إنه بعيد تمامًا عن التجانس، المتظاهرون القادمون من مختلف التيارات في المجتمع الجزائري، يخفون أو يتسترون على مطالبهم المختلفة لصالح دعوة عامة واحدة وهي رحيل النظام”، ولعل هذا الاختلاف ما جعلهم يفشلون في إثمار قيادة تتحدث باسمهم.
سلطة القرار
رحيل الرئيس بوتفليقة ومحيطه فتح المجال لتغيير قوى صنع القرار في البلاد، فالسلطة هي الأخرى من طبيعتها أنها تأبى الفراغ، وبالنظر إلى دعمها للحراك الشعبي الذي أسقط نظام الرئيس الذي حكم البلاد لعشرين عامًا، كان للمؤسسة العسكرية الجزائرية ممثلة في رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح دورًا فعالاً في رسم السياسة التي تعيشها جزائر ما بعد بوتفليقة.
يبدو جليًا أن قايد صالح رغم ظهوره في صورة البطل المنقذ في الأسابيع الأولى من الحراك بعد تخليه عن بوتفليقة ووقوفه إلى جانب الشعب، أصبح اليوم محل غضب جانب من الحراك خاصة من يصنفهم خصومهم على أنهم يمثلون التيار العلماني
حتى إن حرص قايد صالح في كل خطاباته على تأكيد التزام الجيش بمهامه الدستورية، إلا أن الوضع الذي تعيشه الجزائر وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة الأخرى وضع الجيش في صورة المسؤول الأول عن إخراج البلاد من الأزمة الحاليّة، فأصبح هو القوة الرسمية الفعلية اليوم دون منازع والمطالب بمواجهة بقايا نظام بوتفليقة أو من يسميهم “أفراد العصابة”، وكذا الاستجابة والتفاعل مع مطالب الشارع.
غير أن تحقيق هذين المطلبين ليس بالسهولة المتوقعة، فالتطورات أظهرت أن المؤسسة العسكرية لا ترغب في تحمل عبء مرحلة ما بعد بوتفليقة طويلاً، لذلك لم يتردد الفريق أحمد قايد صالح في إعلان رفضه لمقترحات المجلس التأسيسي والمرحلة الانتقالية تجنبًا لأي فراغ دستوري.
يبدو جليًا أن قايد صالح رغم ظهوره في صورة البطل المنقذ في الأسابيع الأولى من الحراك بعد تخليه عن بوتفليقة ووقوفه إلى جانب الشعب، أصبح اليوم محل غضب جانب من الحراك خاصة من يصنفهم خصومهم على أنهم يمثلون التيار العلماني، الذين صاروا يرفعون شعارات ضد قائد الأركان.
لكن برأي كثيرين، فالوقت الحاليّ ليس مناسبًا لهذه الشعارات، لأن الجميع متفق على أهمية دور الجيش في الوصول إلى عودة عمل مؤسسات الدولة بسلطة شرعية منتخبة، بالنظر إلى وهن باقي المؤسسات الأخرى المطعون في مصداقيتها من برلمان ورئاسة وحكومة ومجالس محلية، وعليه ليس من المحبذ الهجوم على الجهة الوحيدة التي بإمكانها ضمان استمرارية الدولة حتى إن لم تتقاطع بعض آرائها مع ما يعتقده جزء من الشارع.
تثير المساندة المطلقة لأحزاب الموالاة لقرارات قائد الجيش أو للرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح حفيظة الجزائريين، وتشعرهم بأن النظام بقي نفسه
وتتمثل مواقف المؤسسة العسكرية في سيناريو واضح هو الذهاب إلى تنظيم انتخابات رئاسية في أقرب وقت، يتولى بموجبها الرئيس الجديد الذي ستفرزه صناديق الاقتراع مهمة الإصلاحات العريضة التي ينادي بها الحراك، كونه الوحيد الذي يملك الشرعية الشعبية والدستورية للقيام بذلك.
ولا يجد هذا السيناريو معارضة ربما إلا من أقلية غير مؤثرة، غير أن طريق الوصول إليه يبقى محفوفًا بالمخاطر، كون تحقيقه يمر عبر إنشاء لجنة مستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات يثق الحراك في نزاهتها، لكن تشكيل هذه اللجنة يبقى صعبًا بالنظر إلى أن الحوار الذي يقوده كريم يونس وهيئته يلقى رفضًا وتشكيكًا من عدة أطراف، خاصة بعد رفض عدة شخصيات وازنة نادى بها الحراك الانضمام إلى هيئة الحوار والوساطة.
ولعل الخلاصة التي تستنتج بعد 6 أشهر من الحراك أن الحل للأزمة الجزائرية يتمثل في الاتفاق على أرضية بين فاعلين رئيسيين هما الحراك رغم العيوب التي يحملها من عدم التجانس وافتقاده للقيادة والتمثيل والمؤسسة العسكرية التي تملك سلطة القرار حتى إن لم يصدر من طرفها مباشرة.
دور جديد
ربما غياب الثقة من بعض ناشطي الحراك في القرارات الأخيرة للمؤسسة العسكرية مرده الدور الجديد الذي تعمل أحزاب الموالاة على لعبه، خاصة جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي.
استغل بوتفليقة الحزب التاريخي الذي كان وراء استقلال البلاد للوصول إلى السلطة والحكم به تحت شعار الشرعية الثورية
تثير المساندة المطلقة لأحزاب الموالاة لقرارات قائد الجيش أو للرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح حفيظة الجزائريين، وتشعرهم بأن النظام بقي نفسه، فهذه الأحزاب التي كانت في عهد بوتفليقة تسانده في قراراته وديكتاتوريته صباحًا ومساءً غيرت اليوم جلدها وتحاول ركوب موجة التغيير، وكأنها ليست جزءًا من المشكلة أو ربما هي المشكلة نفسها.
بعد الحراك، وجد حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان يرأسه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة نفسه في أزمة حقيقية، فالجزائريون ثاروا ضد رئيس الحزب الذي بقي إلى اليوم ولم تنزع منه هذه الصفة سواء ببيان رسمي أم بانعقاد مؤتمر كما تنص قوانين الحزب، غير أن المناضلين يقولون إن بوتفليقة سقط من رئاسة الحزب آليًا.
واستغل بوتفليقة الحزب التاريخي الذي كان وراء استقلال البلاد للوصول إلى السلطة، وللحكم به تحت شعار الشرعية الثورية، فأدخل رجال الأعمال الفاسدين وهمش المناضلين النزهاء مثل الراحل عبد الحميد مهري، وصار يتحكم في انتخابات اللجنة المركزية والمؤتمر الوطني، فيغير الأمناء العامين وقتما يشاء ووفق ما يراه وشقيقه السعيد القابع اليوم في السجن العسكري بالبليدة.
لا تتمثل ورطة الحزب الحاكم في بوتفليقة فقط، بل إن الأمين العام الأسبق جمال ولد عباس التحق هو الآخر بالمسؤولين الموضوعين رهن الحبس الاحتياطي بسجن الحراش بتهم فساد، إضافة إلى وزراء كانوا قياديين في الحزب مثل الوزير الأول الأسبق عبد المالك سلال، والوزيرين السعيد بركات والطيب لوح.
لكن الأمين العام الحاليّ محمد جميعي الذي كان إلى وقت قريب من المطبلين لبوتفليقة يحاول اليوم قلب القميص ولبس عباءة المطالبين بتغيير النظام، بالادعاء أن الحزب كان ضحية بوتفليقة وزمرته.
لا يختلف حال الحليف والغريم التجمع الوطني الديمقراطي (الأرندي) عن حزب بوتفليقة، فهو الآخر يقبع أمينه العام السابق أحمد أويحيى بسجن الحراش
ويلعب جميعي على وترين: الأول المساندة المطلقة لقرارات المؤسسة العسكرية، وهو دور يجيده حزبه بامتياز، والثاني العمل على مهاجمة المطالبين بوضع الحزب في المتحف لحفظ ما تبقى من رمزية نضاله التاريخي ضد الاحتلال الفرنسي.
ولا يختلف حال الحليف والغريم التجمع الوطني الديمقراطي (الأرندي) عن حزب بوتفليقة، فهو الآخر يقبع أمينه العام السابق أحمد أويحيى بسجن الحراش، وهو المتهم في معظم قضايا الفساد التي فتحتها العدالة ضد رموز نظام بوتفليقة.
واختار الأرندي عز الدين ميهوبي وزير الثقافة في عهد بوتفليقة أمينًا عامًا جديدًا لتحسين صورة الحزب، والظهور هو الآخر في صورة المساند للحراك لمحو صفة حزب الإدارة التي لازمته منذ تأسيسه في 1997.
غير أن هذا الدور الذي تريد أحزاب السلطة لعبه يبدو أنه أكبر منها، فماضيها الملوّث قد يحتاج لسنوات لتنظيفه حتى إن حاولت كسب رضا السلطة الحاليّة بالتملق لقيادة الجيش التي أعلنت الحرب على كل ما له علاقة بنظام بوتفليقة.
تشتت المعارضة
حال أحزاب المعارضة قد يكون ربما أكثر بؤسًا اليوم في الجزائر من حال الموالاة، فهي حتى اليوم لم تستطع أن تكون في مستوى اللحظة التاريخية التي جاء بها حراك 22 فبراير.
تتمثل ورطة المعارضة في فشلها في تقديم البديل للخروج من الأزمة، إضافة إلى انشقاقها وتباعد أطيافها بشكل كبير لم يسجل حتى زمن بوتفليقة
ووجدت المعارضة نفسها بين استهجان شارع كفر بكل ممارسي السياسة من أحزاب وجمعيات مدنية، وألصق بها تهمة النفاق ومحاولة ركوب موجة التغيير، فتم طرد بعضهم من المظاهرات، وشارك البعض الآخر تحت حماية مناضليه، والسعي لتقديم البديل والتموقع في المشهد السياسي الجديد.
وتتمثل ورطة المعارضة في فشلها في تقديم البديل للخروج من الأزمة، إضافة إلى انشقاقها وتباعد أطيافها بشكل كبير لم يسجل حتى زمن بوتفليقة، قي وقت كان حري بها أن تزداد تكاتفًا واتحادًا لتكون عوضًا للحراك الذي لم يفلح في تقديم ممثلين عنه، فبدت تكتلات البديل الديمقراطي وقوى التغيير اتحادات دون روح بسبب تراوح خطابها إما بالتهديد أو الترحيب فقط.
وانقسمت المعارضة بين طيف يعارض على الإجمال خطوات السلطة مثل أحزاب جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وحزب العمال الذي تقبع أمينته العامة لويزة حنون بسجن البليدة العسكري على ذمة التحقيق في قضية السعيد بوتفليقة ورئيسي المخابرات السابقين الجنرال توفيق وبشير طرطاق، وأحزاب أخرى فضلت الترقب مثل الأحزاب الإسلامية، إضافة إلى طرف ثالث عينه على كرسي الرئاسة ممثل في علي بن فليس رئيس حزب طلائع الحريات ليكون المرشح الذي تقبل به السلطة الحاليّة وتسانده بعض أطياف المعارضة.
وأمام هذا الواقع، يرى الكاتب الصحفي عثمان لحياني أنه “يجب أن يسبح الجيش بالحمد وتشكر السلطة الله كثيرًا على ما أتاهما من نعم، حراك سلمي وشعب صبور وشباب متعقل ومعارضة لا تستقوي بالخارج”.
الأكيد أن فترة 6 أشهر في مسيرة الحراك الشعبي تبقى قصيرة خاصة عندما يتعلق الأمر بنظام بقي جاثمًا على صدور الجزائريين لعشرين سنة، إلا أنها تعد في الوقت ذاته مدة جديرة بأخذ العبرة مما حدث فيها لتدارك الأخطاء وتثمين الإيجابيات، خاصة أن القادم يحمل كثيرًا من التحديات الداخلية والخارجية التي يجب ربحها لتحقيق تطلعات من خرجوا في 22 فبراير الماضي.