قتله الترحيل.. وفاة الداوود ضحية حرب ترامب ضد المهاجرين

ترجمة وتحرير: نون بوست
كان الداود شخصا “لطيفا” ومضحكًا ويعاني من مرض عقلي، لكن لم يساعده أي من هذا على النجاة. ومن جهتهم، يحذر المحامون من أنه من المرجح أن يتعرض المزيد من المهاجرين للمصير ذاته.
تكافح ريتا بولس للتعبير عما يخالجها بينما عُثر على شقيقها الأكبر جيمي الداوود، ميتاً في بغداد في أوائل آب/أغسطس، بعد شهرين من ترحيله إلى العراق، الدولة التي لم يزرها من قبل. ولا تزال بولس وعائلتها تحت وقع الصدمة، إذ قالت وهي تختنق بالدموع خلال وقفة احتجاجيّة بالقرب من ديترويت، وسط أكثر من 100 مشيّع: “لا أحد يستحق أن يموت بهذا الشكل، فقد كان خائفًا ووحيدًا. وأنا لست جيدة في التعامل مع هذا الوضع”. وكانت المحارم الورقيّة توزّع على الحاضرين نظرا لأن دموع بولس معدية.
استحوذت وفاة الداوود على اهتمام الأمة، حيث تصدّرت عناوين الصحف فضلا عن جميع وسائل الإعلام المهمة في الولايات المتحدة
تُوفّي الداوود بسبب عدم تمكنّه من الحصول على الأنسولين في بغداد، حيث كافح لإيجاد منزل وللتواصل مع الناس. كما عبّرت بولس عن حزنها خارج مقرّ مؤسسة المجتمع الكلداني في مدينة ستيرلينغ هايتس، حيث اجتمع المشيّعون حاملين الشموع وأيديهم تحمي النيران من نسيم إحدى أمسيات آب/أغسطس الدافئة.
في الواقع، يوجد برجان يحيطان بالمدخل الرئيسي لمبنى المؤسسة بشكل مماثل لبوابة عشتار في بابل. ومن جانبهم، يفتخر الكاثوليكين الكلدانيين بتراثهم في بلاد الرافدين بقدر ما يفتخرون بإيمانهم المسيحي. علاوة على ذلك، دعا عضو الكونغرس آندي ليفين للوقوف دقيقة صمت على روح الداوود، كما اقترح أحد المتواجدين قراءة الصلاة الربانيّة “أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأتي ملكوتك…”، ومن ثمّ خيّم الصمت وسط ضجيج الكاميرات.
استحوذت وفاة الداوود على اهتمام الأمة، حيث تصدّرت عناوين الصحف فضلا عن جميع وسائل الإعلام المهمة في الولايات المتحدة، إذ كشفت مأساته عن مدى قسوة سياسات الهجرة التي يتّبعها الرئيس دونالد ترامب. لقد انتقل هذا الشخص البالغ من العمر 41 سنة إلى الولايات المتحدة عندما كان يبلغ من العمر الستة أشهر وقضى حياته في المعاناة من التشرّد والمرض العقلي، ومن ثمّ أرسل إلى دولة مزقتها الحرب، ولا يجيد لغتها قبل أن يلقى حتفه بعد مرور شهرين. وفي هذا الصدد، صرّح الناشطون أن هذه المأساة كانت “متوقعة”. وتجدر الإشارة إلى أن الداوود، الذي ولد في مخيم يوناني للاجئين من أبوين عراقيين، نُقل جوا إلى مدينة النجف التي تضم أغلبية شيعية بعد أن خسر معركته للبقاء في الولايات المتحدة.
“لا أستطيع النجاة في ذلك المكان”
حذّر محامو الهجرة من أن العراقيين المقيمين في الولايات المتحدة لفترة طويلة لن يستطيعوا النجاة إذا تم ترحيلهم إلى دولة في الشرق الأوسط، وهو ما أثبتته قضية الداوود. وفي هذا الإطار، يعلم أوراها دانيال أنه من المرجح أن يواجه المصير ذاته، إذ ذكر، بينما كان يبحث عن بعض الماء ويكافح من أجل كبت دموعه، أنه “يفكر في مثل هذه الإمكانيّة”.
قال الشاب البالغ من العمر 51 سنة والدموع تنهمر على خديه: “لا أزال أشعر بالأسف عليه، فأنا عاطفي بعض الشيء لأنني شاهدت مؤخّرا شريط فيديو صوّره الداوود قبل وفاته”
أوضح دانيال أنه بسبب إصابته الدماغية ومحدوديّة موارده المالية وعدم وجود عائلة أو جذور له في العراق، وهي دولة غادرها عندما كان يبلغ من العمر خمس سنوات، أضحت معركته ضد الترحيل بمثابة معركة من أجل الحفاظ على حياته. وكان دانيال على معرفة شخصيّة بالداوود، إذ اُحتجزا معا في مركز احتجاز في أوهايو سنة 2018.
في هذا السياق، قال الشاب البالغ من العمر 51 سنة والدموع تنهمر على خديه: “لا أزال أشعر بالأسف عليه، فأنا عاطفي بعض الشيء لأنني شاهدت مؤخّرا شريط فيديو صوّره الداوود قبل وفاته”. وفي رسالة غير مؤرخة تشاركها الناس على نطاق واسع على الإنترنت بعد وفاته، تحدث الداوود عن الظروف القاسية التي يواجهها في العراق. وأضاف الداوود في هذا الفيديو: “لا أفهم اللغة هنا، كما أنني أنام في الشارع ومصاب بمرض السكري وأتلقى حقنات الأنسولين. لقد تقيّأت عدة مرات… وكنت أحاول العثور على شيء لأكله، فليس لدي شيء هنا”.
قال دانيال إن الداوود كان “شخصًا لطيفًا”، ومحترما لكنّه واجه تحديات صعبة في الولايات المتحدة. وصرّح دانيال لميدل إيست آي، بينما كان جالسا في مكتب محاميه في ضاحية ديربورن في ديترويت، أن الترحيل هو الذي قتله. وهناك خصلات من الشعر الرمادي على جانبي قبعته وندبة على خده الأيسر، وتتقوس حواجبه وهو يتنهد ويهز رأسه خلال حديثه عن الداوود. وأورد دانيال قائلا: “كيف تقوم بترحيل شخص ما إلى بلد لم يولد فيه ولا يتحدّث لغته؟ هذا ليس أمرا صائبا”.
“لا أحد يستحق أن يموت بهذا الشكل، فقد كان خائفًا ووحيدًا”. هذا ما قالته ريتا بولس خلال وقفة احتجاجيّة في مدينة ستيرلينغ هايتس في 15 آب/أغسطس.
في هذا الشأن، صرّح دانيال أن قضيته لا تختلف عن قضية الداوود، إذ غادرت عائلته العراق متجهة إلى الكويت عندما كان في الخامسة من عمره وانتقلت إلى الولايات المتحدة بعد أربع سنوات. ولا يعرف دانيال سوى عدد محدود من المفردات العربية، كما أن إصابته جعلته ينسى الكلمات في بعض الأحيان حتى باللغة الإنجليزية.
نُقل دانيال إلى الحجز الخاص بسلطات الهجرة الأمريكية مباشرة بعد قضاء فترة سجن بسبب ارتكابه جريمة جنائية بسيطة في آذار/مارس سنة 2018. وقال الداوود بشأن احتمالية العيش في العراق: “لا أستطيع النجاة في ذلك المكان ولن أكون قادرًا على العيش دون أدويتي، لأنني لا أستطيع النوم بسبب إصابتي الشديدة في الدماغ. وفي حال لم أتناول الدواء الخاص بي، فسأظل مستيقظًا لعدة أيام. وعلى سبيل المثال، عانيت سابقا من خلل عصبي، فبقيت مستيقظا لمدة أسبوع”.
كيف بدأ كل هذا؟
عندما أعلن ترامب عن ترشحه للرئاسة سنة 2015، تعهّد بترحيل ملايين الأشخاص المتواجدين في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني. ولم يَسلم أي من المهاجرين الضعفاء الذين ليس لديهم مكان آخر يلجؤون إليه، على غرار الداوود ودانيال. وفي الواقع، كثفت إدارة ترامب جهودها لترحيل العراقيين منذ أن وافقت بغداد سنة 2017 على استقبال المرحّلين من الولايات المتحدة، مما عكس السياسة المعتمدة التي استمرت لعقود.
يجتمع المشيّعون خارج مقرّ مؤسسة المجتمع الكلداني في 15 آب/أغسطس.
في المقابل، ظلّت السلطات العراقيّة مترددة إزاء قبول العديد من المرحّلين، رافضة منحهم بطاقات هوية أو جوازات سفر عراقية. فعلى سبيل المثال، أُرسل الداوود إلى العراق بموجب “جواز مرور” لا يسمح له سوى بدخول البلاد، لكن حصوله على الجنسية العراقية لم يكن بالأمر المؤكّد. ومن جهة أخرى، لم تقبل السفارة العراقية في واشنطن تقديم أي تعليق لميدل إيست آي.
كان قرار الحكومة العراقية جزء من صفقة لإعفاء البلاد من “حظر ترامب للمسلمين”. وفي ظل إعفاء العراق من قائمة الدول التي مُنع مواطنوها من دخول الولايات المتحدة، شرعت سلطات الهجرة الأمريكية في حملة لترحيل 1400 عراقي، مع العلم أن العديد منهم يعيش في الولايات المتحدة منذ عقود.
في هذا الإطار، صرّح محامي الهجرة المقرب من عائلة الداوود، إدوارد باجوكا، لقناة “إم إس إن بي سي” في وقت سابق من هذا الشهر قائلا: “وفاة جيمي هي أحد الآثار الجانبية لحظر السفر”. في الواقع، قَدِم معظم المهاجرين المستهدفين من الحملة إلى الولايات المتحدة بشكل قانوني، لكنهم فقدوا وثيقة إقامتهم الدائمة إما بسبب الإدانات الجنائية أو القضايا الإدارية. وتحملت الطائفة المسيحية العراقية في ميشيغان وطأة تلك الحملة، مما أثار مخاوف من امكانيّة تعرّض المرحّلين في العراق للاستهداف بسبب دينهم.
“هذا مؤلم”
تعرّض دانيال، وهو أب لطفلين ولديه وشم لصليب كبير على ساعده، للاحتجاز لمدة ثمانية أشهر سنة 2018 من قبل إدارة الهجرة والجمارك، وهي الوكالة الأمريكية المهتمّة بتنفيذ أوامر الترحيل. وبالإضافة إلى ذلك، قُتل شقيق دانيال في ديترويت بينما كان دانيال محتجزًا لدى إدارة الهجرة والجمارك.
على مدار العقدين الماضيين، تعرض دانيال لعدة إصابات على غرار كسر في الفك، وتصدع في الجمجمة وكسر في الساق، كما أصيب بعيار ناري في الذراع وإصابة بالغة في العين
في هذا السياق، أفاد دانيال قائلا: “لقد شعرت بالحزن الشديد، لكن، ماذا يمكن أن أفعل؟ لقد ذرفت الدموع نظرا لأن الأمر كان صعبًا للغاية. لقد كنت أصلي وأبكي كل يوم”. وأضاف دانيال قائلا: “شعرت بالإرهاق الشديد، فقد كان موت أخي من أصعب المواقف التي مررت بها في حياتي، حيث ينبغي عليك مشاركة حزنك. ففي الوقت الذي دُفن فيه أخي، كان كل ما أرغب في فعله هو معرفة ما حدث”.
يقول دانيال إنه لن يتمكن من العودة إلى العراق
صرح دانيال أنه كافح من أجل الحصول على دوائه الخاص لتسكين الألم أثناء فترة احتجازه. وعلى مدار العقدين الماضيين، تعرض دانيال لعدة إصابات على غرار كسر في الفك، وتصدع في الجمجمة وكسر في الساق، كما أصيب بعيار ناري في الذراع وإصابة بالغة في العين. وعموما، تبيّن أن السبب الذي يقف وراء شعوره بآلام حادة في كامل جسده يتمثل في الإصابة بتلف الأعصاب.
في هذا الإطار، قال دانيال: “أصبت بكسور متعددة، وأشعر بالألم كلما أرمش أو أتحدث أو أتحرك”. وفي الحقيقة، تسببت الإصابات التي تعرض لها دانيال في الدماغ في إصابته بعدة مشاكل نفسية، مثل الانفعال والاكتئاب والأرق. وأضاف دانيال أنه بدأ يتواجه مع الشرطة منذ سن مبكرة تحديدا حينما كان يقطن في حي فقير شرقيّ مدينة ديترويت. والجدير بالذكر أن دانيال قدم إلى الولايات المتحدة بشكل قانوني صحبة أسرته، حيث تقدّم قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بطلب للحصول على الجنسية واجتاز اختبار التربية المدنية.
مع موافقة العراق على قبول للأشخاص المرحلين وعزم إدارة ترامب على نقل المهاجرين المرحلين من البلاد، أصبح دانيال مستهدفا
لكن بعد حدوث هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، بدأت سلطات الهجرة في طلب وثائق إضافية لم يكن باستطاعته الحصول عليها. وفي نهاية المطاف، طُلب منه إعادة تقديم الطلب والقيام بنفس الإجراءات المطلوبة من جديد، وهي إجراءات لم يسبق وأن قام بها عندما تقدم بطلب الحصول على الجنسية. وفي سنة 2002، تعرض دانيال للاعتداء بالعنف المادي باستخدام مضرب بيسبول خلال مشاجرة مع أحد الأشخاص، الأمر الذي تسبب في دخوله في غيبوبة لعدة أشهر. وعندما استيقظ وجد دانيال أن حياته تغيرت بشكل لا رجعة فيه.
بعد هذه الحادثة، أدين دانيال بتهمتين جنائيتين؛ وهما الفرار من الشرطة ومحاولة الهروب منها. وأفاد دانيال أنه أصيب بجنون الارتياب بعد الحادثة، حيث كان دائما ما يعتقد أن مأموري الضبط القضائي سيأتون لقتله. ومن المحتمل أن يواجه دانيال خلال العقد الموالي، أحكام قضائية جراء سلسلة من الحوادث التي يقول إنها كانت ناتجة عن الإصابة في الدماغ التي تعرض لها خلال عملية الاعتداء. ومثله مثل مئات المهاجرين الآخرين، فقد دانيال حقه في الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة بسبب الجرائم المتهم بارتكابها.
مع موافقة العراق على قبول للأشخاص المرحلين وعزم إدارة ترامب على نقل المهاجرين المرحلين من البلاد، أصبح دانيال مستهدفا. ومن المقرر أن يتم النظر في قضية الهجرة في المحكمة خلال السنة المقبلة. وفي شأن ذي صلة، أخبرت محامية دانيال، شهد عطية، موقع “ميدل إيست آي” أنها تخطط للدعوة إلى وقف الأمر بالترحيل وذلك بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي وقعت عليها الولايات المتحدة. ويرى محامو دائرة خدمات الهجرة والجنسية الأمريكية أن إرسال أشخاص إلى أماكن يمكن أن يتعرضوا فيها للاضطهاد أو التعذيب يعد انتهاكا لتلك المعاهدة.
صرحت المحامية، مارغو سكلانجر، العضو في الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، أنه على الرغم من أن محاكم الهجرة كانت غير منصفة أحيانا، إلا أنها تراجعت عن ترحيل 40 مهاجرا عراقيا، كما ساعدت 300 شخص على إعادة فتح قضاياهم
وتابعت عطية حديثها قائلة إن محاكم الهجرة لا تقدم الحماية الدستورية نفسها التي توفرها المحاكم الجنائية، لكنها تقوم في المقابل، باتباع إجراءات إدارية صارمة لتضييق الخناق على المهاجرين. علاوة على ذلك، أوضحت عطية أنه لا يحق للأشخاص المعرضين لخطر الترحيل في محكمة الهجرة، تعيين محام على نفقة الدولة، كما لا يحق لهم تعيين هيئة محلفين من أقرانهم. عوضا عن ذلك، تُعيّن الحكومة قاضٍ يتكفل بمهمة تقرير مصيرهم. من جهة أخرى، يطلق على المهاجرين المحتجزين لدى الحكومة تسمية “معتقلون” بدلا من “موقوفون”، لأنهم لا يتمتّعون بالحقوق التي يحظى بها الشخص الموقوف.
في هذا السياق، أضافت عطية أنه في الوقت الذي استمر فيه تطبيق هذا القانون غير المنصف على مدار سنوات، وجد ترامب وسيلة أكثر إجحافا لتفسير هذا القانون والتكثيف من عمليات الترحيل. كما فسّرت عطية الأمر قائلة إن “الإجراءات التي تطبق عند ترحيل الأشخاص هي الإجراءات الإدارية نفسها التي تطبق عند إعطاء مخالفة مرورية.
المعركة القانونية
صرحت المحامية، مارغو سكلانجر، العضو في الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، أنه على الرغم من أن محاكم الهجرة كانت غير منصفة أحيانا، إلا أنها تراجعت عن ترحيل 40 مهاجرا عراقيا، كما ساعدت 300 شخص على إعادة فتح قضاياهم. وعندما بدأت حملة الاعتقالات غير المسبوقة لمئات الأشخاص سنة 2017، اجتمع اتحاد الحريات المدنية الأمريكي ومنظمات أخرى للضغط على الحكومة وحماية المحتجزين. ومن جانبه، حقق الاتحاد انتصارا في بداية المعركة القانونية، وبالتحديد عندما قرر قاضي المحكمة الجزئية الأمريكية مارك غولد سميث في تموز/ يوليو أنه لا يمكن للحكومة ترحيل هؤلاء الأشخاص دون السماح لهم بالطعن في الأوامر التي تدعو إلى ترحيلهم.
مع ترحيل ما لا يقل عن 69 عراقيا منذ بداية سنة 2018، بينت محامية اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، مريم أوكرمان، أنها غير متأكدة من أن الداوود كان أول شخص يلقى حتفه في العراق.
في وقت لاحق من السنة نفسها، تمكن القاضي من فتح المجال أمام إطلاق سراح المعتقلين الذين تعرض أغلبهم للضغوطات للموافقة على ترحيلهم من البلاد مقابل عدم بقائهم في السجن لفترات طويلة. وتجدر الإشارة إلى أن القاضي نجح في مساعدة المعتقلين من خلال إصدار أمر للحكومة بالموافقة على عقد جلسات استماع للمهاجرين المحتجزين. وفي كانون الثاني/ يناير سنة 2018، أمر القاضي غولد سميث بالإفراج عن جميع المعتقلين، وهي خطوة سمحت لهم بالعودة إلى عائلاتهم، حيث واصلوا النضال ضد عملية ترحيلهم، على الرغم من الإجراءات القانونية المطولة يمكن أن تستمر لسنوات.
في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أوضحت محكمة الاستئناف الأمريكية أن القاضي غولد شميث لا يتمتع بأية سلطة في هذا الشأن. وفي شهر نيسان/ أبريل سنة 2019، استأنفت الحكومة عملية ترحيل العراقيين دون عقد جلسات استماع. ومع ترحيل ما لا يقل عن 69 عراقيا منذ بداية سنة 2018، بينت محامية اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، مريم أوكرمان، أنها غير متأكدة من أن الداوود كان أول شخص يلقى حتفه في العراق.
أخبرت مريم أوكرمان موقع “ميدل إيست آي” أنه في حال استمرت عمليات الترحيل، فإنها لن تتوقف. كما أضافت أوكرمان أنه في حال كنا نهتم حقا بالحياة والحريات اللتان تُعدّان قيمتان أساسيتان في المجتمع الأمريكي، فلن يُصبح بإمكاننا ترحيل الأشخاص إلى أماكن يمكن أن يتعرضوا فيها للاضطهاد والتعذيب وحتى القتل، وهذا في الحقيقة، ما تفعله وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة.
أكدت قضية الداوود مخاوف العديد من المحامين خاصة أولئك الذين يعملون في قضية الترحيل، المتمثلة في إعادة المهاجرين إلى العراق التي ستكون بمثابة عقوبة إعدام
بعد صدور قرار محكمة الاستئناف، قدم عضو الكونغرس أندي ليفين، وهو نائب من الحزب الديمقراطي عن ولاية ميشيغان، مشروع قانون لوقف ترحيل المهاجرين العراقيين دون السماح بالدفاع عن أنفسهم في المحكمة. وتجدر الإشارة إلى أن وفاة الداوود، جددت دعوات المشرعين الأمريكيين في الكونغرس لتمرير مشروع القانون. ومع ذلك، أخبر ليفين موقع “ميدل إيست آي” أنه يرغب بشدة في إرسال مشروع القانون إلى مكتب الرئيس بدعم قوي من الحزبين كي يتم إصدار بيان سياسي بشأن هذه المسألة. كما بيّن ليفين أن اقتراح مشروع القانون يهدف إلى وقف عمليات الترحيل.
في هذا السياق، أفاد ليفين، الذي دعا زملاءه الجمهوريين إلى تبني الإجراء بعد وفاة الداوود أن هذا الأمر يتعلق بإنقاذ حياة العديد من الأشخاص بصفة يومية. لذلك، ينبغي على مجلس النواب والشيوخ تمرير هذا القانون. وأشار ليفين إلى أنه من الجيد أن نرغب في تطبيق قوانين الهجرة، لكنها لا ينبغي أن تكون بمثابة حكم بالإعدام”.
مجتمع يسوده الخوف
أكدت قضية الداوود مخاوف العديد من المحامين خاصة أولئك الذين يعملون في قضية الترحيل، المتمثلة في إعادة المهاجرين إلى العراق التي ستكون بمثابة عقوبة إعدام. وفي هذا الإطار، صرح محامي الداوود، كريس شاديج، أن رغبة إدارة ترامب في تنفيذ أوامر الترحيل لا مبرر لها، فلم يكن هناك داع للقيام بذلك في المقام الأول. كما أفاد شاديج بأن الخوف الذي زُرع في المجتمع الكلداني في مدينة ديترويت، لا يُمكن احتواؤه”. وتجدر الإشارة إلى أن مشاعر الخوف تنامت عندما عُثر على الداوود ميتا في بغداد.
في الواقع، كان من الشائع أن يقطع بعض المهاجرين سوار التتبع الإلكتروني الذين كانوا يضعونه بعد إطلاق سراحهم من الحجز التابع لوكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، مُفضّلين مُواجهة تهم جنائية بسبب إزالة أجهزة التتبع هذه، وبالتالي تأجيل عملية ترحيلهم.
يقول محامي جيمي الداوود إن: “رغبة إدارة ترامب في تنفيذ أوامر الترحيل كانت غير مبررة”.
تُمثل المحامية شانتا درايفر مُهاجرين اثنين في مدينة ميشيغان قطعوا سوار التتبع الخاص بهم. في 21 آب/أغسطس، جرى الإقرار بأنهما غير مذنبين في تهم جنائية بشأن إزالة أجهزة تتبع نظام تحديد المواقع.
خلال الشهر الماضي، حثت درايفر أحد موكليها الآخرين الذي يدعى، أوليفر أوشوانا، على الصراخ عندما كان على متن طائرة من المفترض أن تنقله من شيكاغو إلى العاصمة التركية أنقرة ومن ثم إلى العراق. وفي هذا الشأن، قالت درايفر: “أخبرناه بأنه لا يمكنه الموافقة على حدوث أمر مثل ذلك، حيث ينبغي عليه أن يوضح للأشخاص المتواجدين على متن الطائرة، لاسيما الطيار ومضيفات الرحلة، أنه سيلقى حتفه”.
لقد نجح هذا التكتيك، حيث أنزل الطيار أوشوانا من الطائرة، وفُتحت قضية هجرته مرة أخرى. وفي هذا الصدد، قالت درايفر إن إرسال أوشوانا، اللاجئ المسيحي الذي نجا من هجوم بسكين في بغداد قبل الانتقال إلى الولايات المتحدة سنة 2006، ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. وأضافت درايفر أنه “إذا لم نتمكن في هذه المرحلة من توفير الحماية لأوليفر أوشوانا بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، ستفقد هذه الاتفاقية أهميتها في الولايات المتحدة”.
“هزمه النظام”
في الحقيقة، نجا أوشوانا من مصير الداوود إلى حد الآن. لكنه فقد وضعه القانوني في الولايات المتحدة بعد إدانته بجريمة سرقة متجر التي كانت، بحسب درايفر، تحت تأثير المخدرات. وعموما، ظهرت مشاكله مع المخدرات نتيجة معاناته من اضطرابات ما بعد الصدمة بعد ما عايشه أثناء الحرب في بغداد. ووفقا لعدد من الأشخاص المقربين منه، كان الداوود يُعاني من مشكلة التعاطي ولم تكن حياته في الولايات المتحدة سهلة.
قضى الداوود فترة طويلة من حياته مشردا. وعلى الرغم من مرضه النفسي الظاهر، إلا أنه لم يتلق المساعدة التي يحتاجها
عندما كان مراهقا، تشاجر الداوود مع والده وانتقل من منزل عائلته. وقد اعتُقِل للمرة الأولى بسبب خلاف داخلي مع والده. كما أدت تهم الاعتداء الموجهة إليه بسبب هذا الخلاف إلى إدانته وجعلته مُهدّدا بالترحيل من البلاد. ولم يكن الداوود من مواليد العراق، علما وأنه انتقل مع عائلته من مخيم للاجئين في اليونان إلى الولايات المتحدة عندما كان يبلغ من العمر ستة أشهر.
قضى الداوود فترة طويلة من حياته مشردا. وعلى الرغم من مرضه النفسي الظاهر، إلا أنه لم يتلق المساعدة التي يحتاجها. وكان يُقضّي أوقاته في منازل مهجورة في منطقة ديترويت، بالقرب من طريق إيت مايل، الذي يفصل المدينة عن مسقط رأسه هازل بارك، وهي ضاحية يبلغ عدد سكانها حوالي 16 ألف نسمة. وفي ذلك المكان، توجد العديد من المنازل المهجورة وتنتشر البنايات المتهالكة التي تتضمن حدائق ممتلئة بالأعشاب لها نوافذ خشبية.
أخبر بعض الأشخاص الذين كانوا على معرفة به داخل المنطقة، طاقم “ميدل إيست آي” خلال زيارة أداها في وقت سابق من هذا الشهر، أن الداوود كان يتسكع غالبا في هذا المكان، مُحاولا جمع بضعة دولارات للبقاء على قيد الحياة. وفي الواقع، أشاد متساكنو الحي بلطفه وروح الدعابة التي كان يمتلكها.
في هذا الصدد، قالت إيرني ستيمكي، وهي متقاعدة تعيش في الحي: “لم يسبب لنا الداوود أي ضرر، وهو شخص جيد. كما لم يتسبب في إزعاج أحد مُطلقا، حتى أنني طلبت منه أن يقطع عشب حديقتي ويجمع بضعة دولارات نظرا لأنني أثق في عمله”. وفي هذا السياق، قال المارة الآخرون الذين التقى بهم طاقم “ميدل إيست آي” في محطة بنزين في منطقة إيت مايل إن الداود كان شخصا إيجابيا في المنطقة. وقال رجل لم يرغب في ذكر اسمه: “كان جيمي صديقي وشابا رائعا ولم يكن لديه أعداء”.
منزل مهجور في مدينة ديترويت بالقرب من طريق إيت مايل، حيث كان يعيش الداوود.
من جهة أُخرى، قال جوني غريفين، رجل متشرد يمتطي دراجة خضراء دون إطارات مطاطية أو فرامل واضحة على قضبان المقود، إنه اعتاد على تناول الطعام وتعاطي المخدرات مع الداوود، واصفا إياه بأنه رجل طريف وسلمي. وأكد أنه واجه الكثير من الصعاب في حياته. وأفاد غريفين أنه “بمجرد أن تجد نفسك في هذا المأزق في حياتك، تكون الشوارع ملجأك. حينها، ينبغي عليك التفكير في طعامك وكيفية استحمامك. وفي الحقيقة، يعتبر الحصول على وظيفة أمرا سهلا، لكن محاولة الحفاظ عليها يعد مشكلة، وتعد النظافة وعدم قدرتك على النجاح في الوصول إلى عملك في الوقت المحدد السبب في فشلك”.
عند حديثه عن التحديات التي عاشها الداوود، ظل غريفين متماسكا ومستخدما نبرة ثابتة. في المقابل، أصبح متحمسا عندما تطرق إلى موضوع ترحيل الداوود. وفي هذا الصدد، قال غريفين: “أعتقد أن ما يحدث لا يعدو إلا أن يكون مجرد هراء، أنا أحب بلدي، التي وُلدت وترعرعت فيها. لكنني أكره حكومتي اللعينة، خاصة وأنهم يتخذون إجراءات لا معنى لها”.
حث المحامي الأشخاص على عدم الحكم على الداوود بناء على سجله الإجرامي، نظرا لكونه اعتُقل عدة مرات بسبب قضايا سرقة بسيطة وغيرها من الجرائم عندما كان في سن البلوغ
في سياق مُتّصل، رفض المحامي شايدج التعليق حول ما إذا كان الداوود يعاني من مشكلة تعاطي المخدرات. في المقابل، صرح شايدج موكله الراحل لم يكن يتلقى أية مساعدة إطلاقا في حال كان يواجه هذه المحنة، مضيفا أن الشاب البالغ من العمر 41 سنة كان يعاني من مشاكل نفسية. وأكد شايدج أن حالة الداوود المزاجية تتغير من شعوره بالسعادة والامتنان إلى اليأس العميق، وهي حالة نفسية تجعل من الصعب التواصل معه.
كما حث المحامي الأشخاص على عدم الحكم على الداوود بناء على سجله الإجرامي، نظرا لكونه اعتُقل عدة مرات بسبب قضايا سرقة بسيطة وغيرها من الجرائم عندما كان في سن البلوغ. وفي هذا الإطار، قال شايدج: “سأكون مرتاحا للقول إن هذه الجرائم التي ارتكبها نابعة من مرضه العقلي أو من التشرد”.
كما أضاف المحامي أن الداوود كان يتجول في الحي بحثا عن الفكة المتروكة في حاملات الأكواب في السيارات غير المقفلة. وقد اتُّهم بارتكاب إحدى جرائم السرقة بعد أن أخذ دولارين وقداحة من سيارة. وفي هذا الصدد، قال شايدج: “لم يكن الداوود على عين المكان لارتكاب الجرائم ولم يكن خبيثا بقدر ما كان بحاجة إلى عناية”.
قال شايدج إن قوانين الهجرة الأمريكية لا تحمي الأفراد العاجزين نظرا لأن محاكم الهجرة تتبع الإجراءات الإدارية بدقة دون مراعاة الظروف الخاصة
علاوة على ذلك، قال شايدج لموقع ميدل إيست آي إنه: “على الرغم من المشاكل العقلية التي واجهها الداوود، إلا أنه كان رجلا لطيفا ولا يمثل مصدر تهديد. وعلى الرغم من أنه انقطع عن الدراسة منذ المرحلة الثانوية، إلا أن أول انطباع أخذته عنه هو أنه لم يكن رجلا غبيا على الإطلاق، بل كان شخصا ذكيا ومرحا”.
ردا على السؤال المطروح حول تقصير النظام مع الداوود، قال شايدج إن قوانين الهجرة الأمريكية لا تحمي الأفراد العاجزين نظرا لأن محاكم الهجرة تتبع الإجراءات الإدارية بدقة دون مراعاة الظروف الخاصة، بما في ذلك الحالات المصابة بمرض عقلي. كما ألقى المحامي باللوم على ترامب بشأن مصير الداوود، قائلا إنه لم يكن هناك داع للحملة التي تشنها إدارته ضد المهاجرين العراقيين. لكن بعد مرور ساعات، غيّر شايدج إجابته قائلا أمام الأشخاص الذين ينعونه إن: “النظام لم يخذل جيمي”.
“ظل النظام يلاحقه إلى أن أرهقه… لم يخذله النظام، بل فعل بالضبط ما كان ينبغي عليه القيام به، وهو أن يختار شخصا ضعيفا ويحكم عليه بالإعدام. وسيفعل النظام هذا الأمر مجددا، في حال لم نستمر في النضال”.
المصدر: ميدل إيست آي