أغلق السوريون فصولًا من الألم مع سقوط نظام الأسد في 8 من ديسمبر/ كانون الأول، حيث انتهى عهدٌ من الخوف والاعتقال والتعذيب، وطويت صفحة القصف والتدمير والتهجير، لكن ذلك لم يكن خاتمة الألم لآلاف العائلات، بل فُتحت صفحة أخرى تحمل مأساة مريرة، إذ لا يزال مصير عشرات الآلاف من المختفين قسرًا مجهولًا، بينهم أطفال اعتقلوا مع ذويهم، لم يُستدل عليهم حتى هذه اللحظة.
من بين هؤلاء، أطفال رانيا العباسي الستة، الذين اعتقلهم النظام مع والدتهم في مارس/ آذار 2013، حيث داهمت المخابرات العسكرية التابعة لنظام الأسد منزل طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج في حي “دمّر” بدمشق، واعتقلتها مع أطفالها: ديمة (مواليد 2000)، وانتصار (مواليد 2001)، ونجاح (مواليد 2003)، وآلاء (مواليد 2005)، وأحمد (مواليد 2007)، وأصغرهم ليان (مواليد 2011).
جرى اقتيادهم إلى مكان مجهول بعد يومين من اعتقال زوجها عبد الرحمن ياسين، وذلك بتهمة تقديم المساعدات للنازحين السوريين القادمين من مدينة حمص. ومنذ ذلك الحين، انقطعت أخبارهم تمامًا.
في انتظار الحقيقة
إن انهيار النظام الذي اعتقل آلاف الأطفال، سواء كانوا برفقة عائلاتهم أو بمفردهم، بعث الأمل في قلوب عائلة رانيا، كما هو حال العديد من العائلات الأخرى، الذين بدأوا في البحث عن أطفالهم عسى أن يجدوا خيطًا يقودهم إلى مصيرهم.
لكن العثور عليهم يظل محاطًا بالكثير من الغموض، خاصة بعد اكتشاف تفاصيل حول نقل النظام السابق وسلطاته الأمنية لأطفال المعتقلين إلى دور الأيتام خلال الثورة السورية، وتسجيلهم بأسماء مستعارة عند إدخالهم إلى تلك المؤسسات.
تقول نائلة، شقيقة رانيا العباسي، لـ”نون بوست”، إنهم لم يتوصلوا إلى أي خيط يتعلق بمصير أطفال رانيا حتى الآن، وأن هناك عوائق كبيرة تواجههم بسبب عدم تعاون مديري دور الأيتام معهم.
وتضيف نائلة: “أقاربنا، بما فيهم عمّ الأطفال، ذهبوا إلى دور الأيتام للبحث عنهم، لكنهم قوبلوا بالرفض ولم يُسمح لهم بالدخول أو البحث عن الأطفال. طلبوا منهم تقديم ورقة رسمية وتفويض من الوزارة، إلا أن الوزارة لم تمنحهم الإذن الخطي اللازم للسماح لهم بالبحث. يبدو أن هناك إخفاء للملفات، وقصصًا كبيرة متورط فيها بعض الأشخاص، لذلك لا يتعاونون معنا، وهم متحفظون على الكثير من المعلومات”.
وتذكر نائلة: “أبلغتهم الوزارة بوجود تحقيق جارٍ، لكن لم يتم إطلاعهم على أي تقدم. فقط تم تزويدهم بورقة قبل ثلاثة أسابيع تحتوي على أسماء أطفال رانيا، وتفيد بأنهم كانوا موجودين في منظمة “SOS”، إلا أن المنظمة رفضت الاعتراف بالورقة، لأنها لم تتضمن توقيعًا أو تاريخًا، ولم يكن لها صادر أو وارد”.
وتتابع نائلة: “من المحتمل أن هذه الورقة قد تم تزويرها أو تقديمها بهدف تضليل التحقيق، ولم يكن لها أي فائدة. ولا نعلم إلى أين وصلت التحقيقات، لأننا لم نتلقَ أي تفاصيل، ولا نعلم إن كان التحقيق مستمرًا أصلاً”.
في وقت سابق، ظهر شقيق رانيا، حسان العباسي، في تسجيل مصور تحدث فيه عن معلومات وصلته من مراكز الإيواء التابعة لمنظمة “SOS” في عام 2022، تفيد بوجود أطفال يحملون نفس الفوارق العمرية لأبناء أخته، وجميعهم أشقاء، لكن أسمائهم قد تم تغييرها، ما يعزز الاحتمال بأن هؤلاء الأطفال قد يكونون أبناء رانيا العباسي.
لكن المنظمة نفت في منشور لها عبر موقع “فيسبوك” وجود أو إخفاء أطفال رانيا العباسي تحت أسماء مستعارة، وأوضحت أنها استقبلت أطفالًا من دون ملفات توثيق خلال الثورة، وتمت إحالتهم إليها من قبل السلطات السابقة، ممثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، كما أضافت أنه لم يتبقَّ أي طفل من المذكورين منذ عام 2022.
كما تقدمت المنظمة باستدعاء رسمي إلى النيابة العامة في دمشق، مطالبةً بفتح تحقيق رسمي بشأن اختفاء الأطفال، وتقديم المساعدة لكشف مصيرهم، كما وضعت كافة الوثائق والمستندات المتعلقة بالقضية تحت تصرف السلطات القضائية.
لاحقًا، أفاد المكتب الإعلامي لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بأنه تم العثور على عدة كتب سرية محوّلة من بعض الأفرع الأمنية، تتعلق بإحالة عدد من الأطفال إلى جمعيات تعنى بتربية الأيتام.
وأوصى المكتب الإعلامي ذوي الأطفال المفقودين بالتوجه إلى المديريات الفرعية المعنية في مديريات الشؤون الاجتماعية والعمل، لتقديم أسماء الأطفال وأي معلومات قد تُساهم في تسهيل عملية البحث عنهم وإحصاء الحالات بدقة.
جهات ضالعة وأخرى متورطة
تُعتبر “قرى الأطفال SOS”، التي تتخذ من النمسا مقرًا رئيسيًا لها، منظمة عالمية غير حكومية، مدعومة ماليًا من عدة جهات ومنظمات دولية، تهدف إلى توفير الرعاية والتربية والتنشئة للأطفال المحرومين من الرعاية الأسرية، وفقًا لما ذكرته في بيانها الرسمي.
بدأت المنظمة نشاطها في سوريا عام 1975، حيث أنشأت عدة مراكز في دمشق وريفها. وحسب موقع “زمان الوصل”، فقد أقامت المنظمة علاقات وثيقة مع أسماء الأسد، المتهمة بارتكاب جرائم حرب، وكان ذلك بدعم مباشر من سمر دعبول، رئيسة مجلس الإدارة، التي تعتبر ناشطة في جمع التبرعات لدعم أنشطة المنظمة.
ووفقا للموقع، تم الكشف عن وثائق تشير إلى وجود تنسيق مباشر بين المنظمة وأجهزة المخابرات السورية، وتشير هذه الوثائق إلى أن عشرات الأطفال من أبناء المعتقلين جرى تحويلهم إلى المنظمة بعد اعتقال عائلاتهم أو إعدامهم.
أكدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أنها تمتلك قوائم موثقة تضم نحو 3700 طفل على الأقل ما زالوا في عداد المختفين قسريًا منذ مارس/ آذار 2011.
أولت أسماء الأسد اهتمامًا خاصًا بمنظمة “قرى الأطفال SOS”، حيث حرصت على زيارة هذه المراكز في عدة مناسبات، للترويج لدورها في توفير الرعاية للأطفال، وكانت آخر زيارة لها في مناسبة عيد الأم العام الماضي.
نائلة العباسي عبّرت عن استغرابها قائلة: “رغم وجود العديد من الأدلة التي تشير إلى تورط المسؤولين عن دور الأيتام في استقبال أطفال المعتقلين وإخفائهم عن عائلاتهم، وعدم ندمهم على ما فعلوه، كما أكدت براء الأيوبي في مديرية دار الرحمة، فضلًا عن تعاونهم مع النظام وكذبهم على الأهالي وتغيير الأنساب، إلا أنهم لا يزالون في مناصبهم، ويتحكمون في مصير الأطفال الموجودين في تلك الدور. هذا أمر غريب وغير مفهوم، كيف لم يتم إعفاؤهم حتى الآن؟”.
قال المحامي المتخصص في القانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، لـ “نون بوست” إن استمرار مديري دور الأيتام في مناصبهم، رغم الاشتباه بتورطهم في انتهاكات جسيمة، يثير مخاوف جدية بشأن المساءلة، وأكد أن هناك ضرورة لفتح تحقيقات مستقلة وشفافة بحق هؤلاء المسؤولين لتحديد مدى تورطهم في حالات الإخفاء القسري أو تغيير الأسماء أو سوء المعاملة.
وأضاف الكيلاني: “المساءلة لا تتأثر بالمناصب الإدارية. استمرار هؤلاء المسؤولين في مناصبهم لا يشكل عائقًا قانونيًا أمام فتح تحقيق رسمي. بل على العكس، قد يعزز هذا الوضع بيئة غير آمنة للأطفال، مما يزيد من ضرورة إجراء التحقيقات بشكل عاجل”.
في تصريحات لقناة “TRT” التركية، أوضحت براءة الأيوبي، المسؤولة في جمعية “دار الرحمة”، أن حجب المعلومات كان يهدف إلى حماية الأطفال من ذويهم، وأضافت أن الأهالي الذين كانوا يبحثون عن أبنائهم كانوا يُنصحون بالذهاب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للاستفسار، لكن الوزارة كانت ترد عليهم بخصوص مكان وجود أبنائهم دون تقديم تفاصيل دقيقة.
كما أكدت الأيوبي أن عملية نقل الأطفال إلى الجمعية كانت تتم بناءً على كتب رسمية صادرة عن الجهات الأمنية، ثم تُحال قضاياهم إلى الوزارة، لكن لم يتوفر للأهالي أي معلومات واضحة حول مصير أطفالهم.
وفي الآونة الأخيرة، ظهرت شهادات مصورة لأشخاص كانوا في دور الأيتام، حيث أكدوا أن أسمائهم تم تغييرها من قبل إدارة الدار، من بينهم علاء رجوب، الذي نشأ في إحدى هذه القرى، وقال في تسجيل مصور عبر “فيسبوك”: “كنت مع عائلتي في بيت جدي عندما داهمت الدورية الأمنية المنزل، واعتقلتني مع خالي. كان عمري آنذاك سبع سنوات، بقي خالي في السجن، بينما تم نقلي إلى دار للأطفال قرب مساكن برزة”.
وتابع علاء رجوب قائلاً: “اسم والدتي فاتن إسماعيل، واسم أبي دريد رجوب، أما اسمي الحقيقي فهو علاء رجوب وليس علاء ناصيف، ولكنهم منحوني كنية ناصيف، ورفضوا إعطائي أي وثائق تثبت هويتي، فاضطررت إلى الهرب خارج سوريا لتجنب الخدمة العسكرية”.
من جانبه، يشير المحامي المعتصم الكيلاني إلى أنه حتى إذا كانت “قرى الأطفال” مجبرة على تنفيذ أوامر النظام بقبول الأطفال دون سجلات أو وثائق رسمية، فإن ذلك لا يعفيها من المسؤولية القانونية، فعدم توثيق المعلومات الأساسية مثل الأعداد، والأعمار، والصور، وفتح ملفات فردية لكل طفل، يمثل انتهاكًا لحقوق هؤلاء الأطفال.
ويؤكد الكيلاني أنه للتحقق من هذه الانتهاكات، يجب جمع الأدلة التي قد تشمل الوثائق الرسمية، وشهادات الموظفين السابقين، والسجلات الداخلية، وأي مستندات أخرى تدعم فرضية التعاون مع الأجهزة الأمنية.
ويشدد المحامي المعتصم الكيلاني على أن “تأخير فتح تحقيق مستقل وعاجل يشكل خطرًا حقيقيًا يتمثل في إمكانية فقدان الأدلة أو التلاعب بها من قبل المتورطين داخل سوريا، ففي بيئات غير مستقرة، يكون من السهل على المسؤولين المتورطين إتلاف السجلات أو تعديل الوثائق أو حتى نقل الأطفال بهدف تضليل مسارات التحقيق”.
ويضيف: “من الناحية القانونية، يعتبر فتح تحقيق سريع ومستقل أمرًا بالغ الأهمية ليس فقط للكشف عن الحقيقة، ولكن أيضًا لحماية الأدلة. يجب إصدار أوامر قضائية عاجلة لحفظ السجلات ومنع أي تغييرات في ملفات الأطفال أو نقلهم دون إشراف قضائي. علاوة على ذلك، يمكن للمجتمع الدولي التدخل من خلال فرض رقابة دولية على هذه المؤسسات لضمان حماية الأدلة والحفاظ على حقوق الأطفال”.
ويختتم الكيلاني بتوصية بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وطنية للتحقيق في الانتهاكات المتعلقة بالأطفال، وتوثيق الأدلة بشكل عاجل لضمان عدم فقدانها أو التلاعب بها، كما دعا إلى تفعيل آليات العدالة الوطنية ومحاسبة المنتهكين، وأخيرًا إلى التعاون مع المنظمات الدولية المختصة لضمان حماية الأطفال ولم شملهم مع أسرهم.
مطالبات قانونية
أكدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أنها تمتلك قوائم موثقة تضم نحو 3700 طفل على الأقل ما زالوا في عداد المختفين قسريًا منذ مارس/ آذار 2011.
وأوضحت الشبكة أنها تلقت أنباءً منذ سنوات تفيد بقيام نظام الأسد بنزع الأطفال من ذويهم أو تحويل المواليد الجدد الذين تم اعتقالهم في مراكز الاحتجاز إلى دور الأيتام أو مراكز رعاية الأطفال، ومن أبرز هذه المؤسسات كانت مراكز منظمة “قرى الأطفال SOS”، التي استقبلت العديد من الأطفال دون أي وثائق رسمية تؤكد هويتهم.
وطالبت الشبكة منظمة “SOS” وجميع الجمعيات ذات الصلة بفتح تحقيق داخلي مستقل، ومشاركة جميع الملفات والوثائق المتوفرة مع السلطات السورية الجديدة، وتقديم اعتذار علني وخطي لذوي الأطفال، بالإضافة إلى دفع تعويضات عادلة لهم.
أخيرًا، لم تقتصر انتهاكات نظام الأسد على السوريين فحسب، بل طالت أيضًا مواطنين من جنسيات أميركية وعربية، فقد اعتقل ما لا يقل عن 2887 شخصًا من حملة الجنسيات العربية، بينهم 19 طفلًا و28 سيدة، من بينهم 58 شخصًا يحملون الجنسية السعودية، وذلك خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2023.
كما وثقت مجموعة “العمل من أجل فلسطينيي سوريا” اعتقال أكثر من 3076 فلسطينيًا في سوريا، بينهم 127 امرأة و49 طفلًا، وذلك منذ منتصف مارس/ آذار 2011 حتى 26 سبتمبر/ أيلول 2023.
ولا تزال آلاف العائلات تعيش في حالة من الانتظار والترقب، بين الأمل والألم، علّها تجد من يحقق العدالة ويكشف مصير أبنائها.