الدراما التركية قوة ناعمة مثالية، نجحت منذ بداية العقد الحاليّ في جذب انتباه المشاهدين من جميع أنحاء العالم والسيطرة على اهتماماتهم، وذلك من خلال إنتاج مسلسلات ذات جودة عالية ومتنوعة في محتواها.
ومع ذلك لم يكن هذا التنوع كافيًا لتقديم دراما تركية أكثر حضورًا ووصولاً لكل الفئات والشرائح العمرية، حيث كانت الدراما التركية معروفة بنمط معين من الأعمال، تلك التي تغلب عليها الرومانسية، ويصفها بعض النقاد بالمبتذلة والمبالغ فيها، وهو ما دفع القائمين على المحتوى للسعي إلى تغيير الفكرة المأخوذة عن أعمالها لدى المشاهدين، وذلك من خلال إنتاج أعمال جديدة ومختلفة، تقوم على الأكشن “الحركة” والإثارة وأحيانًا الفنتازيا.
نجحت هذه الأعمال فعليًا في إثارة صدى واسع وتحقيق نجاحٍ باهرٍ وصل بها في 2018 إلى 159 دولة حول العالم، بمجموع إيرادات ناهز 350 مليون دولار، بالإضافة إلى شهرة واسعة للنجوم الذين ظهروا فيها، أوصلتهم إلى أكبر المهرجانات العالمية.
مع أن “نتفليكس” عرضت فعليًا العديد من الأعمال الفنية التركية على منصتها، إلا أن “المحافظ” أو كما يطلق عليه “الحامي”، يعتبر أول إنتاج للمنصة العالمية من الدراما التركية
ولعل النجاح منقطع النظير الذي اقترن بإصدارات الدراما التركية واتجاهها نحو تجديد المحتوى من جهة، إلى جانب رغبة “نتفليكس” التي بدأت إنتاج محتوى خاص منذ 2011، في السيطرة على الإنتاجات التليفزيونية حول العالم من جهة أخرى، قد دفعهما إلى التعاون معًا وإنتاج أول مسلسلات نتفليكس التركية، مسلسل “المحافظ”.
فمع أن نتفليكس عرضت فعليًا العديد من الأعمال الفنية التركية على منصتها، إلا أن “المحافظ” أو كما يطلق عليه “الحامي” (بالإنجليزية The Protector وبالتركية Hakan: Muhafız)، يعتبر أول إنتاج للمنصة العالمية من الدراما التركية، وقد حقق بموسمه الأول نجاحًا جماهيريًا باهرًا، تجلّى في تصدره قائمة الأكثر مشاهدة على الموقع خلال الأسابيع الأولى القليلة من عرضه، حتى إنه تخطى المسلسل العالمي Friends، إلى جانب تقييم جماهيري مرتفع نسبيًا، قياسًا على متوسط تقييمات المسلسلات المعروف بـ7.2/10 على موقع “imdb” العالمي.
ونستعرض في هذا التقرير نقاط القوة والضعف لهذا العمل:
قصته
قصة المسلسل مستوحاة من أساطير الدولة العثمانية القديمة التي تدور حول الصراع الأبدي بين الخير والشر، وكيف يقاوم الخير الشر بكل الوسائل الممكنة، حيث يتجسد الخير في “سلالة المحافظين” والمخلصين لهم، الذين يسعون منذ عهد محمد الفاتح إلى تطهير إسطنبول من خطر “الخالدين” الذين طالما نشروا فيها الفساد والأوبئة، ساعين بذلك إلى إبادة إسطنبول ومن بعدها البشرية.
قصة المسلسل بما تُخلّفه من تشويق وإثارة بمجرد القراءة عنها، كانت أحد أهم نقاط القوة في العمل
ويلعب “شاتاي أولسوي” دور البطولة في المسلسل بشخصية “هاكان” الذي يظهر كشاب طائش يعمل في إدارة أحد البازارات الشعبية بإسطنبول، ويكتشف إثر محاولة بيعه لأحد القمصان التاريخية أنه ينتمي لسلالة “المحافظين” وأنه أصبح المسؤول عن حماية إسطنبول من خطر “الخالدين”، فيتحول بذلك إلى بطل خارق مُلزم بإنقاذ المدينة والبحث عن آخر الخالدين.
وتساعده في ذلك “هازار أرجتشلو” التي تقوم بدور “زينب” المخلصة له، كما أنه سيقع خلال رحلته في البحث عن الخالد الأخير، في حب “ليلى” التي تقوم بدورها “أيتشا توران” .
نقاط القوة
قصة المسلسل بما تُخلّفه من تشويق وإثارة بمجرد القراءة عنها، كانت أحد أهم نقاط القوة في العمل، حيث أشاد بها الكثير من النقاد، إلى جانب الاختيارالموفق للأماكن والمؤثرات السمعية (الموسيقى) المناسبة تمامًا للعمل.
تألق المسلسل كامنٌ فعليًا في فكرة العمل، وهي تغيير الصورة النمطية المعروفة عن الدراما التركية، وإعادة تقديم البطل بصورة مخالفة للصورة الذهنية التقليدية المعروفة عن البطولة.
اختيار مدينة إسطنبول كمركز لأحداث المسلسل دون غيرها من المدن التركية، يعود أساسًا إلى ما تملكه المدينة من مقومات تاريخية تسمح للكاتب بالتنقل بين العصور والأزمنة
حيث ينتمي البطل إلى نوع أبطال الخوارق، بشكل فانتازي، وفي جعبته الكثير من الأدوات السحرية التي يستعين بها في رحلته لمواجهة “الخالدين”، بالإضافة إلى قميصه السحريّ وخنجر الطعن.
اختيار مدينة إسطنبول كمركز لأحداث المسلسل دون غيرها من المدن التركية، يعود أساسًا إلى ما تملكه المدينة من مقومات تاريخية تسمح للكاتب بالتنقل بين العصور والأزمنة، والجمع بين أصالة الدولة العثمانية القديمة وإسطنبول المعاصرة، كما تحمّس خيال المُشاهد لاستحضار كل تلك المَشاهد عمليًا بزيارة المدينة والتعرف عليها، حيث تكون الدراما أداةً من أدوات الترويج السياحي والثقافي، وهي إحدى وظائفها الجديدة بلا شك.
أما عن الموسيقى التي دمجت بين الإيقاع الغربي والشرقي فقد لعبت دورًا كبيرًا في المشاهد، بحيث لا يشعر المُشاهِد أنها دخيلة على العمل، بل جزء منه لا يمكن اقتطاعها وتقديم المسلسل دونها، كما كان تصوير المشاهد على درجة عالية من الجودة البصرية الملائمة لتقنيات العرض الجديدة فائقة التقنية، التي تصل حاليًّا إلى 10K وأكثر.
نقاط الضعف
على الرغم من أهمية فكرة تقديم عمل جديد يبرز الدراما التركية في حُلّةٍ لم تعتد عليها، وهو ما سيفتح الباب مستقبلاً لهذه التنويعات الدرامية الجديدة، خاصة بعد نجاحها جماهيريًا، وجودة التصوير والموسيقى ونجاحهما في خطف الإشادة الفنية والنقدية، فقد افتقر المسلسل إلى عوامل فنية أساسية عديدة هي من صلب العملية الفنية الإبداعية في حقل الدراما، كالحوار ودقة رسم الشخصيات وحبكة الأحداث، وهو ما جعل هذه النقاط هدفًا ومحل نقد لكثير من النقاد، بل وللجمهور التركي العادي الذي أكسبته صنعة الدراما ذائقةً نقدية حادة.
هاكان البطل مثلاً، بدا في الموسم الأول كشاب طائش غير مستوعب كل هذا التغيير الذي طرأ عليه وحجم المسؤولية التي وضعت على كاهله، فقال بعض النقاد إنها نقطة إيجابية لكون هذا الشاب لم يدرك بعد أنه أصبح بطلاً خارقًا، وتوقعوا تغير ذلك في الموسم الثاني، ليتفاجأوا بعدم تغير الشخصية لاحقًا
فعلى سبيل المثال نجد أن الحوار الذي يعد أحد أهم عناصر أي عمل نظرًا لدوره في كشف جوانب الشخصيات وفروقها ونقاط قوتها وضعفها للمُشاهد، كان محط استياء جمهور المسلسل دون خلاف، فوُصف بالبسيط لدرجة السطحية، خاصةً أن حلقات المسلسل تتراوح في مدتها بين 33 و45 دقيقة، تشمل موسيقى البداية والنهاية، وهي مدة قصيرة نسبيًا في الدراما كانت تحتّم أن يكون الحوار أكثر كثافة وعمقًا ليتلاءم مع قصر مدة عرض الأحداث، ليشعر المُشاهِد بـ”الشَبَع” الفني، إذا جاز التعبير.
أما عن رسم الشخصيات، نقطة الضعف الثانية وليست الأخيرة، فقد كانت سطحية لدرجة أنك لا تكاد تعرف شيئًا مهمًا عن ماضيهم. في الحقيقة يعتبر بعض النقاد التركيز على الزمن الحاضر وعدم التفسير الكافي لكثير من الأفعال سمةً أساسية في دراما الخوارق، ولكنها كانت في المسلسل واضحة بشكل مُخلّ.
هاكان البطل مثلاً، بدا في الموسم الأول كشاب طائش غير مستوعب كل هذا التغيير الذي طرأ عليه وحجم المسؤولية التي وضعت على كاهله، فقال بعض النقاد إنها نقطة إيجابية لكون هذا الشاب لم يدرك بعد أنه أصبح بطلاً خارقًا، وتوقعوا تغير ذلك في الموسم الثاني، ليتفاجأوا بعدم تغير الشخصية لاحقًا، بل وازديادها رعونة في تصرفاتها وعدم استماعها لأي من المخلصين ذوي الخبرة، وهو نمط غريب من البطولة، مختلف عن البطل الذي اعتدناه، حتى في دراما الخوارق.
حبكة الأحداث كانت مليئة أيضًا بالعيوب، إذ تجد أن الأحداث غير متسلسلة وغير منطقية بشكل يختلف حتى عن فانتازيا الخوارق المعروفة التي تجعلك – رغم تجرّدها – ممسكًا بزمام القصة
كما كانت شخصية “مظهر” التي يقوم بها “محمد كورتولوش” وظهرت في الموسم الأول، علامة استفهام كبيرة، حيث اعتقد الأغلبية في بداية المسلسل أنه “الخالد”، وذلك بسبب قوة شخصيته التي تجعله قائدًا مثاليًا لمعسكر الشر، قادرًا على إحداث الندية والتوازن بينه وبين البطل، فضلاً عن الأعمال السيئة التي كان يقوم بها التي أكدت للجمهور أنه الشرير الضد، ولكن فجأة تتغير تلك الشخصية لشخصية أخرى أقل وزنًا، تشعر بالغيرة من موظف عُيّن منذ يومين وتبدأ تتصرف دون أي حسابات مسبّقة.
حبكة الأحداث كانت مليئة أيضًا بالعيوب، إذ تجد أن الأحداث غير متسلسلة وغير منطقية بشكل يختلف حتى عن فانتازيا الخوارق المعروفة التي تجعلك – رغم تجرّدها – ممسكًا بزمام القصة، فـ”الخالدين” والمفترض أنهم يلعبون دور أشرار القصة، لم نجد لهم أي حدث يؤكد ذلك طوال الموسم الأول، بل لنكون أكثر إنصافا كان لهم خبر ظهر في صفحات الأخبار وعلى التلفاز بشأن هجوم على “متحف آيا صوفيا”، دون أن نرى أي مشهد مصور لذلك الخبر، وكأنهم أخبروا المشاهد أنهم أشرار، فتوقع أنت ماذا يمكن أن يفعلوا.
وفي الموسم الثاني عندما قرر كتاب العمل أن يصبوا جمّ اهتمامهم على مخططات الخالدين، كان هاكان ومن معه يحبطونها بأقل مجهود ممكن، وهو ما خفّض من معدلات إثارة المتفرجين الذين كانوا ينتظرون مستويات أعلى من المتعة وعدم التوقع والخوف على أبطالهم.
كما كانت علاقة “هاكان” و”ليلى” أيضًا محط سؤال كبير من الناحية الفنية، خاصة في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول التي ضحى فيها بإنقاذ إسطنبول وقتْل آخر الخالدين “فيصل أردام”، بل وتركه يقوم بإعادة إحياء الخالدين الموتى، وسلّمه أحد أهم أدوات المحافظين، مقابل إنقاذ “ليلى” من الموت التي عرفها فقط منذ أيامٍ قليلة، وفي وقتٍ ما خانها مع “زينب”!
حاول القائمون على العمل في آخر حلقتين، تصحيح مسار المحافظ، بموت “ليلى” وتذكيره بدوره الرئيس في إنقاذ إسطنبول، فيطوّر من مهاراته ويستخدم تقنيات أكثر برجماتية
وفي الموسم الثاني تكرّس القصة في ست حلقات من أصل ثمانية، إلى محاولة إنقاذ “ليلى” وليس إنقاذ “إسطنبول”، إذ يغامر المحافظ بنفسه ودمه النبيل ويتسبب في خسارة الكثير من الأرواح البريئة مقابل إنقاذ “ليلى”، كما أخذ الاثنان من المسلسل حلقة كاملة تقريبًا ليعبرا فيها عن مدى حبهما لبعض في بيتٍ منعزل.
بطل مسلسل الحامي
لكن حاول القائمون على العمل في آخر حلقتين، تصحيح مسار المحافظ، بموت “ليلى”، وتذكيره بدوره الرئيس في إنقاذ إسطنبول، فيطوّر من مهاراته ويستخدم تقنيات أكثر برجماتية ويتعاون مع أحد الخالدين للتخلص من خالد آخر، ويختتم الجزء الثاني الحلقةَ الأخيرة بمشهدٍ أكثر إثارة لمحاولة أخ “هاكان” التعاون مع “الخالدين” والمضيّ قدمًا في مخططاتهم، ويترك المشاهد يتساءل: إن كان المحافظ قد قتل فعلًا آخر الخالدين؟ وهل سيكمل “ليڨانت” أخ المحافظ، دوره كمخلص دنيء يعمل لصالح الخالدين أم سيتخلص منه المحافظ قبل ذلك؟
ولكن السؤال الأهم حاليًّا: هل سينجح كتاب العمل في الحفاظ على خيوط الإثارة التي انسلت واحدًا تلو الآخر بموت “ليلى” أم سيعاود المسلسل النكوص في مسار الأحداث؟ علمًا بأن الجزء الثالث والرابع سيصدران خلال العام القادم.