حانةُ العَادات.. قصص تصلح رواية

للكاتب الفرنسي الحائز على جائزة الجونكور عام 2006 فرانز بارتِل، عمل يجمع بين خصائص الرواية والمجموعة القصصية، صدر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عنوانه “حانةُ العَادات” ترجمهُ عادل أسعد الميري ضمن سلسلة الجوائز المهتمة بنشر الأدب المترجم الحاصل على جوائز عالمية.
فرانز بارتِل لم يختر تصنيفًا لهذا العمل ليوضع بجوار العنوان، رواية أم مجموعة قصصية؟ لكن المترجم اختار أن يصنف العمل كمتوالية قصصية، وهو تعبير أصبح شائعًا الآن واستخدمه كثير مِن الكُتّاب الفرنسيين والمصريين.
كاتب من خارج صالون باريس
“نحن عادة ما نكون على مسافة بعيدة جدًا من أسعد ذكرياتنا”
على عكس كثير مِن الكُتّاب الفرنسيين الذين يهتمون أكثر بالكتابة عن صخب باريس، وما يدور فيها من قصص، ويحاولون الانضمام والتوغل داخل الطبقات الفرنسية الراقية، عزل بارتِل كتابته عن هذا الصخب ووجه قلمه ناحية مقاطعته والقرى الفرنسية الصغيرة، تحديدًا إقليم آردن شمال فرنسا، ومِن خلال ما عاشه في مقاطعته والمخزون القوي لديه من الحكايات، كانت الـ16 قصة التي يتكون مِنها هذا الكتاب تدور في الشمال الفرنسي.
المسافة البعيدة بين فرانز وذكرياته الجميلة التي قضاها في مقاطعته، كانت محفزًا قويًا ليكتب هذه القصص، ويبث فيها من روح ما عاشه، لتقترب المسافة مرَّة أخرى، محاولًا استعادتها حتى ولو على الورق
في 16 قصة قصيرة، يجتاز فرانز بارتِل الحياة اليومية ويدفعها بعيدًا ويتلاعب بالكلمات والأحاسيس والمواقف التي تقع فيها شخصياته، ويجعل الأقنعة تسقط.
المسافة البعيدة بين فرانز وذكرياته الجميلة التي قضاها في مقاطعته، كانت محفزًا قويًا ليكتب هذه القصص، ويبث فيها من روح ما عاشه، لتقترب المسافة مرَّة أخرى، محاولًا استعادتها حتى ولو على الورق.
كل شيء هنا يتغير
“هناك متعة هادئة في أن نرتاح يومًا بعد يوم إلى الفكرة القائلة بأن لا شيء يتغير، وأن كل شيء باقٍ على ما هو عليه، ولا نحن أيضًا نتغير. وبالتالي يمكننا حتى أن نذهب إلى القول بخلود وأبدية اليومي والمعتاد”
أغلب الشخصيات التي يتناولها بارتل في قصصه، شخصيات عادية جدًا، تسير حياتها بملل ورتابة شديدة، مثلًا في القصة الأولى “حانةُ العَادات” نجد الشخصية الرئيسية “بالمونت” وهو زبون دائم في مقهى “المارونييه” يسير يومه على جدول محدد، في الصباح يذهب للمقهى يتناول قهوته على مائدة منفردًا بنفسه، وحين يقترب من المغادرة، تظهر سيدة عجوز تدعى “أديل” وهي تدفع باب المقهى، وقتها يكون قد حان وقت مغادرته.
نظام يومي معتاد، يجد فيه متعة كبيرة وراحة، ما فعله بارتل في هذه القصة أن قلب كل شيء رأسًا على عقب، جعل ما هو يومي ومعتاد، غير معتاد، لذلك نجد خوفًا شديدًا بل رعبًا يتملك بالمونت بطل القصة حين يتغير يومه ويتبدل، بالنسبة إليه كانت النهاية لحظة أن وجد أحد الزبائن الجدد يشغل مقعده المفضل، وهذا هو ما يلعب عليه بارتل في قصصه، أن يصل بشخصياته العادية إلى مسارات أخرى غير مُخطط لها.
المقهى أو الحانة بمثابة معرض بشري للناس، فيه ترى وتسمع كثيرًا مِن الحكايات سواء صدقت أم كانت مِن الخيال، وتحيا تجارب كثيرة لصنوف من البشر مختلفة
“أصحاب المشارب والحانات قد سبق لهم أن رأوا كل شيء، وإن عاشوا كل التجارب”
البطل الرئيسي والعامل المشترك في أغلب قصص بارتل هو المكان، والمكان هنا الحانة أو المشرب، وفيه نجد شخصيات بارتل التي تتغير حياتها تمامًا في لحظة، وما كان بالنسبة إليها مستحيلًا أصبح واقعيًا جدًا، وقابلاً أن يُحقق.
المقهى أو الحانة بمثابة معرض بشري للناس، فيه ترى وتسمع كثيرًا مِن الحكايات سواء صدقت أو كانت مِن الخيال، وتحيا تجارب كثيرة لصنوف من البشر مختلفة، يصعب جدًا أن تقابلهم في الشارع وتتحدث إليهم بود، المكان الوحيد الذي سوف يتيح لك الحديث بود وعن قرب هو الحانة، لأن كل شخص هنا أتى ليحكي حكاية ما، وعليه تكون الحانة وروادها أبطال لقصص فرانز بارتل.
قلب الطاولة
“كان مالون يعشق زوجته بقدر ما يستطيع الزوج عشق زوجته. كل هذا لا يمنع أنه فجأة أحسّ برغبته في قتلها”
بارتل لديه القدرة على إدارة قصص المرء لأغراض مدهشة، مثلًا ماذا يحدث لو أن زوج استيقظ من نومه ليجد لدية رغبة غريبة وملحة لقتل زوجته التي يعشقها؟
لم يحاول بارتل في مرَّة في الـ16 قصة أن يسخر من شخصياته، هو دائمًا يضعهم في إطار يمزج فيه بين الفكاهة والحب والحنان
بارتل لديه هذه القدرة أن يغير مسار القصة في لحظة، ويحافظ على نفس الرتم والقوة، بلغة بسيطة غير معقدة وسرد سلس، يساعد الحكاية على الاستمرارية.
لم يحاول بارتل في مرَّة في الـ16 قصة أن يسخر من شخصياته، هو دائمًا يضعهم في إطار يمزج فيه بين الفكاهة والحب والحنان. أيضًا هو لديه القدرة أن يوجد لك شخصيات تدعو للشفقة، لكن لا تستطيع أن تُشفق عليهم، ذلك لأنهم لا يقدمون لأنفسهم أي مساعدة، فرانز لا يسخر بل يقدم سخطه على أشياء كثيرة يراها في شخصياته.
الفلسفة وخطوات الشعراء
“الإنسان لا يكسب أبدًا معركته ضد الحظ والصدفة”
لا تقتصر قصص بارتل على عادية شخصياته، بل يقدم في كل قصة شيئًا مختلفًا تمامًا عن سابقه، مرَّة نجد قصة رومانسية نهايتها غير متوقعة تمامًا، بدأت بشكل وانتهت بشكل مختلف نهائي مثل قصة “حلّ عليّ الدور”، ومرَّة نجده يقدم لنا شخصًا وقع في غرام نفسه، حتى إنه ود لو وهب نفسه لنفسه، مثل قصة “وصية رجل محبوب زيادة عن اللزوم”، ومرَّة يتعرض لقضية عنصرية اللون ويتناولها بشكل مختلف عن أي تناول من قبل وهذا في قصة “ذكرى فريد”، ومرَّة نجده يبتعد تمامًا عن الخط ويقدم قصة قاتل متسلسل يقتل لهدف معين وبفن شديد رغبة في أن يخلد اسمه.
لدى بارتل ثقافة عالية وحب كبير للأدب الكلاسيكي والشعراء الفرنسيين، في مجموعته هذه، يمشي على خطاهم ويقتبس منهم
من أكثر القصص التي تناول فيها فرانز بارتل الفلسفة بشكل قوي وكبير، هو في قصتي “تاريخ انتهاء الصلاحية” و”في القطار”، ففي القصة الأولى نجد أنه صاغ نظرية فلسفية على لسان بطلته “مانون” أن السيدة التي تصل لسن الخمسين تنتهي صلاحيتها سواء كان جنسًا أم ممارستها للحياة بشكلٍ عام، بقول آخر تصبح غير قابلة للاستهلاك، وعليه طوال القصة نجد كيف يرسم فلسفة عن الحظ والصدفة، والمعركة التي يخوضها الإنسان ليكسب ولو جولة واحدة ضد الحظ والصدفة.
“نعم نحن في نفس القطار ولكن أنت تعود إلى بلد مسقط رأسك أما أنا فلا أذهب إلى أي مكان”
في القصة الثانية التي تكتب تحت “اللاواقعي” قصة “في القطار” هي حكاية فلسفية بامتياز، أنت أحد ركاب قطار لا أحد داخله يعلم أين سيقف، والبطل طوال الطريق يحاول فهم ماذا يحدث، لكن دون فائدة، ويصبح في أماكن أبعد مما افترض، وما إن يقرر عدم البحث عن فهم تتضح له الصورة، القصة بمثابة تناول دقيق لفلسفة الحياة وإلى أين يتجه الإنسان، والناجي الوحيد الذي يعلم أين وجهته، وأن هناك بالفعل محطة سوف يتوقف فيها القطار، ويعلن نهاية الرحلة.
لدى بارتل ثقافة عالية وحب كبير للأدب الكلاسيكي والشعراء الفرنسيين، في مجموعته هذه، يمشي على خطاهم ويقتبس منهم، ويظهر لأي مدى هو متأثر بهم مثل أشعار راسين وكورناي فيرلين ورامبو.
“عندما نكون قد ولدنا لأب جعل كل هؤلاء الناس يرقصون خلال كل هذه المدة، يكون لدينا الحق الشرعي في الإحساس بأن لنا أهميتنا الخاصة”
هناك نوعية من الكتب التي يرجع إليها المرء أكثر من مرة، وهذا الكتاب واحد من هؤلاء، وأتت ترجمته إلى حد كبير جيدة.