في مدينة بياريتز جنوبي فرنسا، يلتقي قادة الدول الصناعية السبعة في قمتهم السنوية المعتادة، وعلى مدار ثلاثة أيام متتالية يناقشون العديد من الملفات والقضايا العالمية ذات الاهتمام المشترك، على رأسها الملف النووي الإيراني والحرب التجارية والتغير المناخي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
قمة الخلافات والتحديات.. هكذا عنون الكثير من المحللين ووسائل الإعلام العالمية لقمة بياريتز في ظل الانقسامات الحادة بين الزعماء الحضور بشأن وجهات النظر حيال بعض الملفات التي صعدت حجم التوترات بين الدول الكبرى، الأمر الذي يرجح تكرار سيناريو العام الماضي، قمة كيبيك الكندية، حين تسبب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمشهد فوضوي إثر انسحابه قبل ختام القمة ورفض البيان الختامي الصادر عنها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تستضيف بلاده فعاليات القمة يسعى لتركيز زعماء بريطانيا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة على الدفاع عن قضايا الديمقراطية والمساواة بين الجنسين والتعليم وتغير المناخ، داعيًا عدد من القادة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية للمشاركة من أجل دعم تلك القضايا العالمية.
وكالعادة.. تأتي فعاليات قمة الكبار وسط تظاهرات احتجاجية رافضة، فقد شهدت مدينة بايون، القريبة من مدينة بياريتز، عددًا من المسيرات المنددة، وهتف المتظاهرون بشعارات تندد بالعولمة والرأسمالية والسياسات المتسببة بالتغير المناخي، وتدخلت الشرطة لتفريق المتظاهرين مستخدمة خراطيم المياه والغاز المدمع.
خروج بريطانيا من الأوروبي
يتصدر ملف الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي جدول أعمال القمة، إذ تبادل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيس المجلس الأوروبي التصريحات الحادة أمس بشأن من سيتحمل مسؤولية خروج البريطانيين من الاتحاد في 31 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل دون اتفاق.
توسك قال إنه لن يعمل مع لندن على ترتيب خروج دون اتفاق، وصرح للصحفيين “لا يزال لدي أمل بأن رئيس الوزراء جونسون لا يود أن يدخل التاريخ بصفة السيد لا اتفاق”، مضيفًا أنه سيكون مستعدًا لسماع أفكار من جونسون عن كيفية تجنب الخروج دون اتفاق عندما يلتقيان يوم الأحد على هامش قمة مجموعة السبع.
وفي المقابل رد عليه جونسون قائلاً: “توسك هو الذي سيتحمل عبء ذلك الوصف إذا لم تتمكن بريطانيا من إبرام اتفاق جديد للخروج مع الاتحاد”، مضيفًا “أقول لأصدقائنا في الاتحاد الأوروبي إنهم إذا كانوا لا يرغبون في خروجنا دون اتفاق، فعلينا التخلص من مسألة الحدود الإيرلندية في الاتفاق”.
تعد الحرب التجارية الجارية حاليًّا بين واشنطن وبكين واحدة من أكثر الملفات التي تظهر فيها الخلافات بين زعماء قمة السبع
رئيس الوزراء البريطاني خلال القمة أعرب عن سعيه لتحقيق التوازن بين عدم تنفير حلفاء بريطانيا الأوروبيين وعدم إثارة غضب ترامب، بما يحافظ على علاقات قوية تجمع بين الطرفين بعد الخروج، وربما تهديد العلاقات التجارية في المستقبل، ومن المقرر أن يجري جونسون محادثات ثنائية مع ترامب صباح الأحد.
بدوره تعهد ترامب لرئيس الوزراء البريطاني، اليوم الأحد، باتفاق تجاري كبير لبريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، واصفًا رئيس الوزراء الجديد بأنه “الرجل المناسب للخروج بالبلاد من الاتحاد”، مضيفًا “سوف نبرم اتفاقًا تجاريًا كبيرًا جدًا، أكبر من أي اتفاق أبرمناه من قبل مع المملكة المتحدة”.
مناقشات مستمرة بشأن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي عبر اتفاق
الحرب التجارية
تعد الحرب التجارية الجارية حاليًّا بين واشنطن وبكين واحدة من أكثر الملفات التي تظهر فيها الخلافات بين زعماء قمة السبع، لا سيما بعد التحذيرات التي أطلقتها فرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي لأمريكا من تبعات السياسة الجديدة التي تنتهجها كل من واشنطن وبكين بشأن فرض الرسوم التجارية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
جدير بالذكر أن ترامب وصل إلى فرنسا أمس بعد يوم واحد فقط من صدور جولة جديدة من الرسوم الجمركية التي فرضتها الصين على السلع الأمريكية ردا على خطوة أمريكية مماثلة، بالمقابل قالت واشنطن إنها ستفرض رسومًا إضافية على سلع صينية بقيمة 550 مليار دولار.
النزاع الاقتصادي بين البلدين تجاوز نطاق الرسوم الجمركية المفروضة هنا وهناك، ليصل إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تؤثر سلبًا على الكيانات التي يقوم عليها اقتصاد الدولتين، إذ فرضت واشنطن قيودًا كبيرة على شركة هواوي الصينية لترد عليها بكين بتضييقات على شركات أمريكية مماثلة على رأسها آبل.
خلاف آخر في المضمار ذاته، لكنه هذه المرة بين أمريكا وفرنسا، إذ لوح ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات النبيذ الفرنسي ردًا على فرض باريس رسوم على المجموعات الأمريكية العملاقة في قطاع التكنولوجيا، وقال في هذا الخصوص: “لا يعجبني ما فعلته فرنسا”، مضيفًا “لا أريد أن تفرض فرنسا رسومًا على شركاتنا، إنه أمر جائر جدًا، إذا فعلوا ذلك فسنفرض رسومًا على نبيذهم.. رسومًا لم يروا مثلها من قبل”.
التغيرات المناخية
فرضت التغيرات المناخية نفسها وبقوة على طاولة القمة التي تعقد في وقت تستمر فيها حرائق غابات الأمازون التي توصف برئة الأرض، إذ مارس زعماء أوروبيون في الفترة الأخيرة ضغوطًا على الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو بسبب حرائق الأمازون، واتهم الرئيس ماكرون نظيره البرازيلي بالكذب بشأن تعهدات بلاده المتعلقة بالتغير المناخي.
واحتلت تلك القضية مكانة كبيرة في جدول أعمال المناقشات في العشاء الذي حضره الرئيسان الفرنسي والأمريكي إيمانويل ماكرون ودونالد ترامب، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورؤساء الحكومات البريطاني بوريس جونسون والإيطالي جوزيبي كونتي والياباني شينزو آبي والكندي جاستن ترودو، مساء أمس.
وكانت الرئاسة الفرنسية قد أعلنت الجمعة أن “مبادرات عملية” لمكافحة الحرائق “يمكن أن تتحقق” خلال القمة، مطالبة بجعل هذه الأزمة الدولية أولوية للقمة، لكن هذه المناقشات قد تكون حساسة بعدما اتهم ماكرون نظيره البرازيلي بأنه “كذب” بشأن تعهداته عن المناخ وبعدم التحرك في مواجهة هذه الحرائق التي تدمر منذ أيام “رئة العالم”.
طرح دبلوماسيون فرنسيون فكرة التنازل الأمريكي عن العقوبات التي تؤثر على صادرات النفط الإيرانية إلى كل من الهند والصين، أو تطبيق حد ائتماني جديد لطهران
الاتفاق النووي الإيراني
عشية انعقاد القمة وفي إطار مساعيه لانقاذ الاتفاق النووي الإيراني، استقبل الرئيس الفرنسي وزير الخارجية الإيراني وبحث معه اقتراحات كان قد قدمها لنظيره الإيراني، وقد أشاد الوزير الإيراني بالمحادثات والاقتراحات، التي اكتفى بوصفها أنها كانت “جادة وبناء” في الوقت الذي لم يكشف قصر الإليزيه تفاصيل ما دار فيها.
وزير الخارجية الإيراني قال إن مقترحاته لمحاولة إحراز تقدم في الأزمة بشأن الاتفاق النووي الإيراني تسير “في الاتجاه الصحيح”، غير أنه يتعين بذل المزيد من الجهود، مضيف في مقابلة له مع وكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس” بعد لقائه الرئيس الفرنسي إن الأخير “قدم اقتراحات الأسبوع الماضي إلى الرئيس روحاني نعتقد أنها تسير في الاتجاه الصحيح رغم أننا لم نصل بعد إلى مبتغانا بالتأكيد”، وتابع “ناقشنا الاحتمالات، وسيبحث (ماكرون) الآن مع الشركاء الأوروبيين وشركاء آخرين لنرى في أي اتجاه يمكننا الذهاب انطلاقًا من هنا”.
وفي هذا الشأن قال مسؤول بالرئاسة الفرنسية إن الرئيس ماكرون التقى نظيره الأمريكي، على هامش القمة، وكان هناك “نقاط تقارب” بشأن قضايا تشمل التجارة والبرنامج النووي الإيراني وحرائق الغابات التي تدمر أجزاءً كبيرةً من منطقة الأمازون، وذلك بحسب “بي بي سي“.
وأضاف المسؤول أن ترامب أكد “أنه لا يرى أي صراع، وأنه يريد صفقة مع إيران”، فيما طرح دبلوماسيون فرنسيون فكرة التنازل الأمريكي عن العقوبات التي تؤثر على صادرات النفط الإيرانية إلى كل من الهند والصين، أو تطبيق حد ائتماني جديد لطهران.
وتسعى طهران خلال الآونة الأخيرة ومنذ انسحاب ترامب من الاتفاق في مايو 2018 للضغط على أمريكا والدول أطراف الاتفاق في محاولة لتخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها أمريكيًا، بجانب إيجاد حلول عملية للعودة للاتفاق المبرم في 2015 بعد سنوات طويلة من السجال السياسي بين طهران والغرب.
وفي المجمل.. وفي ظل الخلافات التي تخيم على أجواء القمة وما يسبقها، فرض التشاؤم نفسه على احتمالية الخروج بنتائج إيجابية، ليعاد سيناريو قمة كيبيك الكندية العام الماضي مرة أخرى، إذ توقع رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أن التوصل إلى أرضية مشتركة أصبح هدفًا يزداد صعوبة، مضيفًا في لقاء له مع الصحفيين قبل بدء القمة “تلك القمة الأخرى لمجموعة السبع ستكون اختبارًا صعبًا للوحدة والتضامن بين دول العالم الحر وزعمائه… قد تكون تلك اللحظة الأخيرة لترميم مجتمعنا السياسي”.