ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: بيثان مكيرنان وحسين عكوش
فقدت نور الدين الدّمشقي زوجها في غارة جوية سورية استهدفت أحد الأسواق في محافظة إدلب الشهر الماضي، مما أسفر عن مقتل 38 شخصًا. وفي وصف الدّمشقي لتوقها إلى اللّحظات الصّغيرة التي اعتادت مشاركتها مع عائلتها، قالت: “ما أفتقده أكثر هو شرب القهوة الصباحية معًا. لقد بنينا حياة طالت أكثر من 30 سنة وتحملنا الكثير معًا. إنّ طعم الموت مرير ويصعب قبوله. ربما يكون الشيء الوحيد الذي لم يتعوّد عليه البشر”.
لم تكن نور الدّين الدّمشقي البالغة من العمر 45 سنة تتوقّع أن ينتهي بها المطاف في محافظة إدلب السورية محاصرةً بين غارات الأسد الجويّة والصراعات على السلطة القائمة بين الجماعات المتمردة المعتدلة والفصائل الإسلامية المتطرفة. لقد تحولت الحرب السورية الآن لصالح الحكومة، مما قلص النطاق الجغرافي للقتال. ومع ذلك، تقول وكالات الإغاثة إنّ الخطر الذي يهدد سكّان إدلب البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة منذ أن أطلق النظام حملة جديدة للمنطقة في نيسان/ أبريل، يمكن أن يؤدي إلى حدوث أكبر كارثة إنسانية حتى الآن في ظل تفاقم معاناة المدنيّين في خضم هذا الصراع.
عندما سقطت منطقة الغوطة الشرقية المتمردة أخيرا في يد النظام في آذار/ مارس 2018، أقنع أفراد الأسرة الموالون للحكومة زوج نور الدّين الدّمشقي بالذهاب إلى دمشق بموجب عفو عن مقاتلي التّمرد.
في سنة 2011، كانت الدّمشقي تعيش مع زوجها وأبنائها الخمسة في الغوطة، على مشارف دمشق. لقد تركت المدرسة وهي في سن الخامسة عشرة لتتزوج، ورغم صغر سنها تمكنت من بناء حياة سعيدة لعائلة من الطبقة المتوسطة مع زوجها، أبو سليم الذي كان يدير حديقة خاصة، وكان من المفترض أن يذهب أطفالهم الخمسة إلى الجامعة. لكن تغيرت حياة نور الدّين الدّمشقي كثيرا بعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية. فمنذ الأيام الأولى من الثورة، واجهت الأسرة كابوسًا بعد كابوس: التعذيب والسجن والحصار والتجويع والتشريد. وفي سنة 2014، فقدت العائلة ابنها سليم عن عمر يناهز 22 سنة.
عندما سقطت منطقة الغوطة الشرقية المتمردة أخيرا في يد النظام في آذار/ مارس 2018، أقنع أفراد الأسرة الموالون للحكومة زوج نور الدّين الدّمشقي بالذهاب إلى دمشق بموجب عفو عن مقاتلي التّمرد. لكن خوفًا من العيش في ظل الأسد مرة أخرى، اختارت نور هي وأطفالها الأربعة الباقون على قيد الحياة الانضمام إلى حوالي مليون ونصف سوري آخرين في رحلتهم إلى شمال غرب محافظة إدلب، الجزء الأخير من البلاد بعيدا عن سطوة النظام.
رأى زوجها في النهاية أن دمشق لم تكن آمنة ودفع لمهرّب مبلغ ألفي دولار لاصطحابه للانضمام إلى أسرته في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. لكن اتّضح أنّ إدلب، التي كان من المفروض أنّها محمية آنذاك بوقف إطلاق النار، ليست بملاذ آمن أيضًا. قُتل أبو سليم عندما ضربت غارة جوية مدينة معرة النعمان في 22 تموز/ يوليو. في هذا الخصوص تقول الدّمشقي: “كان عمران (الطفل الثالث للزوجين) موجودا أيضا في معرة النعمان عندما وقعت الغارة الجوية في السوق. هرع إلى مكان والده وأخذ ينادي باسمه مرارًا وتكرارًا متوسّلا إليه أن يجيبه وكله أملٌ أنه على قيد الحياة، لكنه لم يكن حيّا. استمرّ القصف ليصبح الأمر شبيها تمامًا بما شهدناه في الغوطة”.
خان شيخون، وهي بلدة في محافظة إدلب، في بداية هذا الشهر. سيطرت القوات الحكومية على المدينة في 21 آب/ أغسطس.
إن العديد من المدنيين الذين يعيشون في محافظة إدلب هم مثل الدّمشقي، سوريون لم يسبق لهم قطّ حمل السلاح لكنهم متعاطفون مع قضية المتمردين، وعاشوا حياتهم تحت وطأة العنف. كما أنّ ثلث السّكان هم من الأطفال. مع ذلك، تعتبر دمشق وحلفاءها الرّوس والإيرانيين المتمردين إرهابيين متحالفين مع الجهاديين. ومع إغلاق الحدود التركية أمام اللاجئين، لم يعد هناك مكان يذهبون إليه.
حيال هذا الشأن، يقول تشارلز ليستر، مدير برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: “يصرّ نظام الأسد وروسيا على رواية “الإرهابي” لسبب بسيط للغاية: إنهما يؤمنان بها حقًا. فمنذ سنوات وإدلب تمثل منفى المقاتلين والمدنيين الذين رفضوا، لأي سبب من الأسباب، التفكير في العيش في المناطق التي يسيطر عليها النظام”. كان للجماعات الجهادية وجود في إدلب حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. وخلال الصراع، عززت العديد من العوامل نموّهم، بما في ذلك وحشية نظام الأسد في المعارك من أجل السّيطرة على حلب ودرعا وحمص والغوطة.
تعرّضت المنطقة لهجوم جوّي وبرّي استمرّ لأربعة أشهر وكان عدد الضّحايا من المدنيين مفزعا
تم خرق وقف إطلاق النار في إدلب، الذي توسطت فيه كل من روسيا وتركيا، بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام، وهي مجموعة جهادية منشقّة عن فرع تنظيم القاعدة في سوريا، من انتزاع السّيطرة على المحافظة من جبهة التحرير الوطني المعتدلة المدعومة من تركيا في كانون الثاني/ يناير. نتيجة لذلك، اضطرّ المدنيون في بعض الأماكن إلى الالتزام بقوانين هيئة تحرير الشّام. في أيار/ مايو، أُجبرت جبهة التحرير الوطني على التحالف مع هيئة تحرير الشام لدرء اعتداء النظام الحالي. وتختلف تقديرات عدد مقاتلي هيئة تحرير الشام من حوالي 15 ألف إلى 30 ألف مقاتل.
تعرّضت المنطقة لهجوم جوّي وبرّي استمرّ لأربعة أشهر وكان عدد الضّحايا من المدنيين مفزعا. فرّ حوالي 500 ألف شخص من منازلهم، ولجأ الكثير منهم إلى التّخييم على الحدود التركية. استهدفت أعمال العنف ما لا يقلّ عن 45 مدرسة و42 عيادة صحية، وذلك وفقًا للجنة الإنقاذ الدولية، فضلاً عن المخابز والأسواق. ولقي ما لا يقل عن 881 مدنيًا وأكثر من ألفي مقاتل مصرعهم، مقابل 1400 قتيلا من القوات الموالية للأسد.
إذا كان الأسد، الذي تعيقه تركيا يكافح لاستعادة إدلب من هيئة تحرير الشّام، فإن الخيارات المتاحة لأولئك الذين بقوا داخل المحافظة شبه معدومة. تتزايد المخاوف من أنّ حال المنطقة يمكن أن يصبح كحال قطاع غزة، معزولًا عن العالم الخارجي وتحكمه جماعة متشددة قمعية لا تحظى بشعبية. في الأثناء، يقف المجتمع الدولي جانبا متفرّجا بينما أصبحت الأزمة المتوقعة في إدلب جلية للعيان.
لقد أدرك نظام الأسد أنه، في مخيّلة الغرب، يتغلّب الخوف دائما من الهجمات الإرهابية على المسائل الإنسانية. ولسنوات، شاهد المجتمع الدولي النزاع السوري من بعيد، بينما يقمع النظام كل أشكال المعارضة المدنية ويستعيد مساحات شاسعة من أراضي المعارضة بشكل منهجي.
يقول الباحث في معهد السياسة العالمية العامّة في برلين توبايس شنايدر: “بعد ثماني سنوات من الحرب، اتضح أنّه مهما مارس نظام الأسد من وحشيّة فإن ذلك لا يمكن أن يؤدّي إلى تحرّك دولي ذي معنى”.
أصبحت الدّمشقي تشعر الآن بأن رغبتها في امتلاك منزل وحلمها بمستقبل أفضل في سنة 2011، باتت الآن بعيدة المنال. وحيال هذا الشأن قالت نور: “كانت الثورة رائعة في البداية. لقد خرجنا إلى الشوارع مطالبين بالحرية. أردت أن أكون ممرضة في الجيش السوري الحر. وشجعت زوجي وأطفالي على الخروج والاحتجاج والانضمام إلى الجيش السّوري الحر للدّفاع عن الأبرياء ضدّ النظام”. وأضافت: “تغيرت الكثير من المعطيات منذ ذلك الحين، فقد فقدت ابني الحبيب سليم ووالده، وفقدت منزلي، كما أنني بعيدة عن أختي في الغوطة. لم تنته الحرب بعد، لكنني أشعر أننّي مهزومة بالفعل”.
المصدر: الغارديان