انتهاكات ومحاولات تغيير متعمدة للأوضاع على الأرض في المسجد الأقصى، لا يمل منها الاحتلال الصهيوني، ولم يجد ردعًا عربيًا حاسمًا أكثر من بيانات الشجب والإدانة، إلا من خلال الأردن الذي صعد للغاية واستدعى سفير “إسرائيل” لدى عمان أمير فايسبورد، وأبلغه إدانة المملكة للانتهاكات الإسرائيلية بالمسجد الأقصى ورفضها كلية، في الوقت الذي دعت فيه الخارجية الأردنية إلى الوقف الفوري لجميع محاولات تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى الذي يخص المسلمين وحدهم دون غيرهم.
ماذا يحدث في القدس؟
منذ عيد الأضحى الماضي الذي اقتحم فيه مئات من جنود الاحتلال الإسرائيلي المُدججين بالأسلحة ساحة المسجد الأقصى واعتدوا على المُصلِّين، وبينهم نساء وشيوخ وأطفال، ولاحقوهم في باحات المسجد وأصابوا العشرات واعتقلوا شابين، أحدهما كان مصابًا ورفضوا علاجه، وسلسلة الانتهاكات الإسرائيلية لا تنتهي، كان آخرها، رد واضح من مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بنفي إصدار قرارت تحظر دخول المستوطنين المسجد، ردًا على محاولات للتهدئة من أطراف في الحكومة.
التنمر الإسرائيلي والتشجيع العلني بالاستمرار في الانتهاكات، منح عشرات المستوطنين، الفرصة لاقتحام الأقصى من جديد وترديد شعارات عنصرية، فيما رابط آلاف الفلسطينيين أمام باب المغاربة، وسط تكبيرات وهتافات ضد استباحة الأقصى، ومع التصعيد وفوران الغضب في غزة ضد العربدة الإسرائيلية، استُشهد شاب فلسطيني من بيت حانون، على حدود القطاع، زعم الجيش الإسرائيلي أنه كان يقترب من السياج الأمني شمال غزة، وأطلق النار على عسكريين.
مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية والبلطجة المستمرة على الفلسطينيين العزل، ومع توالي ردود الفعل العربية دون التصعيد المناسب مع ما يجري على الأرض، اتخذت الخارجية الأردنية قرارًا قبل أسبوع، بالتصعيد الدبلوماسي لأقصى درجة، واستدعت السفير الإسرائيلي وأبلغته رسالة حازمة مطالبة بوقف الانتهاكات في المسجد الأقصى، بعد فترة من المناشدات للمجتمع الدولي بضرورة ممارسة ضغوط مناسبة على “إسرائيل” لوقف انتهاكاتها في القدس الشرقية المحتلة وخرق القانون الدولي والتصعيد بصورة مؤسفة.
يعلم الأردن جيدًا أن اتفاقية وادي عربة الموقعة مع “إسرائيل” عام 1994، لا تقل أهمية عن اتفاقية السلام الموقعة مع مصر، فمن خلالها أصبح السلام قائمًا بين المملكة الهاشمية و”إسرائيل”
لم تكتف الخارجية بذلك، بل عقدت اجتماعًا عاجلاً لسفراء دول الاتحاد الأوروبي لدى المملكة، وحذرت من التبعات الخطرة للانتهاكات الإسرائيلية وخطواتها الأحادية التي تستهدف الوضع التاريخي والقانوني القائم في المقدسات، فالعبث الإسرائيلي أصبح يشكل استفزازًا لمشاعر المسلمين والمسيحيين في العالمين العربي والإسلامي، وستتحمل “إسرائيل” تبعاته.
ولم يفوت الأردن الفرصة، لتكرار الدعوة لتكاتف جهود المجتمع الدولي لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وفق حل الدولتين الذي يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على خطوط 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ووفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام.
ما سر استدعاء اتفاقية السلام؟
يعلم الأردن جيدًا أن اتفاقية وادي عربة الموقعة مع “إسرائيل” عام 1994، لا تقل أهمية عن اتفاقية السلام الموقعة مع مصر، فمن خلالها أصبح السلام قائمًا بين المملكة الهاشمية و”إسرائيل”، فأقاما علاقات دبلوماسية وقنصلية كاملة، وتبادلا السفراء المقيمين، وبموجبها أصبح بينهما علاقات اقتصادية وثقافية كاملة، ويحكم بينهما ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، وبالتالي التلويح بإلغائها من أكبر مؤسسة تشريعية في البلاد، قد يكون الرد المناسب على تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان الذي دعا بشكل صريح إلى تغيير الوضع القائم في القدس، حتى يتمكن اليهود من أداء الصلاة في الحرم القدسي، ما يشكل ضررًا بالغًا ليس فقط بالقضية الفلسطينية، ولكن بالأردن أيضًا، الذي يحمي المقدسات الإسلامية.
يسعى البرلمان الأردني لإبعاد وصاية بلاده على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، عن الشطحات الإسرائيلية، باعتبارها حقًا تاريخيًا كفلته كل المواثيق والأعراف الدولية
اجتماع مجلس النواب الطارئ، قدم توصيات عدة للرد بشكل قوي وحاسم على تجاوزات الاحتلال في الأقصى ومدينة القدس المحتلة، وقدم 17 توصية للحكومة على رأسها طرح الثقة في اتفاقية وادي عربة وطرد سفير الاحتلال الإسرائيلي من عمان واستدعاء السفير الأردني في تل أبيب ووقف أشكال التطبيع كافة ورفض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى والالتزام بالقرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” بخصوص ذلك.
ويسعى البرلمان الأردني لإبعاد وصاية بلاده على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، عن الشطحات الإسرائيلية، باعتبارها حقًا تاريخيًا كفلته كل المواثيق والأعراف الدولية، وبالتالي استفزازت الكيان الصهيوني، هي لعب بالنار، قد يشبه المناورة بالاعتداء على السيادة الأدرنية في قطعة من أراضيه، وسيقابله بالطبع تصعيد مماثل، وضغط حقيقي في الساحات الدولية، لوقف جميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية والعربية.
وقد يتصور البعض أن الدبلوماسية المتزنة التي ينتهجها الأردن، لا تكلف البلاد مواجهات ساخنة مع “إسرائيل” على وجه التحديد، مثل تلك التي تحدث هذه الأيام، ولكن الحقيقة تقول إن تاريخ المواجهات عامر بالكثير من المطبات، منذ توقيع اتفاقية وادي عربة التي لم تفلح في إنهاء حالة الشد والجذب بين الطرفين، ووصلت في كل مرة تقريبًا إلى التهديد الحرفي بإلغاء اتفاقية السلام.
كعادة “إسرائيل” لا تلتزم بمواثيق ولا أخلاقيات تدّعيها، سواء مع الأردن أم غيره، وتحاول دائمًا الضغط على عمان بتصرفات لا يمكن لنظام سياسي الإتيان بمثلها في كثير من المواقف السياسية على رأسها محاولتها اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل في شوارع عمان، بعدما أجبر الملك الراحل الحسين بن طلال، القيادة الإسرائيلية على إحضار “الترياق” لعلاج مشعل الذي دخل في حالة غيبوبة، وتهديده بمحاكمة ضابطي الموساد الذين أقدموا على محاولة الاغتيال بعد اعتقالهما.
كانت العملية خرقًا فاضحًا لاتفاقية السلام، وليست وحدها، فالسجل حافل بالكثير، منه قتل ضابط حدود إسرائيلي للقاضي رائد زعيتر عام 2014، بزعم أن الأخير حاول سحب سلاحه، ورغم تشكيل لجنة تحقيق إسرائيلية ـ أردنية، فإنها ومع مرور 5 سنوات لم تعلن أي نتائج للتحقيق، في ظل طمس جميع الأدلة بما فيها التعطيل العمدي لكاميرات المراقبة.
لم يكد يهدأ غضب الأردنيين احتجاجًا على قتل زعيتر، حتى أقدم ضابط أمن بالسفارة الإسرائيلية بعمان على قتل مواطنين أردنيين عام 2017، بزعم حدوث مشادة بينهم، فحاولوا قتله واضطر للدفاع عن نفسه، ولم يهتم أحد كثيرًا بالرواية الصهيونية، خاصة أن هذه الأوقات كانت تشهد توترًا في العلاقات بسبب التدابير الأمنية التي فرضتها “إسرائيل” للدخول إلى الحرم القدسي، وربط البعض بين تدبير الحدث عمدًا، واستقبال نتنياهو لحارس الأمن استقبال الأبطال رفقة السفيرة الإسرائيلية التي اشترط الأردن عدم عودتها، ورغم اعتذار الحكومة الإسرائيلية لاحقًا، وتسريب معلومات مفادها دفع “إسرائيل” تعويضات كبيرة لعائلات الضحايا، ولكن لم تعلن التحقيقات الإسرائيلية حتى هذه اللحظة، ولا كيف عوقب الضابط الإسرائيلي بناءً على اعتذار حكومته واعترافها بالخطأ!
الأزمات ليس أمنية فقط، بل امتدت إلى مشروع “ناقل البحرين” وهو أنبوب لنقل المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت، وكان مشروعًا إستراتيجيًا للأمن المائي للمملكة، ولإنقاذ البحر الميت الذي يواجه مشكلة الجفاف، وترددت أنباء كثيرة عن تدخل “إسرائيل” لإيقافه، بعد التهديد الصريح بقطع ووقف ضخ المياه إلى الأردن، ردًا على عدم تجديد عقد أرض الباقورة الذي يدخل ضمن اتفاقية وادي عربة.
ورغم صعوبة توقع ما يمكن أن يحدث في العلاقات بين الأردن و”إسرائيل” على خلفية التصعيد في الأقصى، يمكن القول إنه طوال ربع قرن من السلام مع الكيان الصهيوني، لم ينجح في الفوز بأكثر من العلاقات الرسمية مع الأردن، بينما باءت كل محاولاته للاختراق والتطبيع بالفشل، ولم ينجح إلا في استمالة عدد قليل من الأفراد، خاصة أن الحكومات الأردنية المتعاقبة منذ توقيع اتفاقية السلام، تتخلى بشكل كامل عن منهج فرض التطبيع، حتى لا تدخل في مواجهات غير محمودة العواقب مع المجتمع.