“الفرار في عام 1934”، رواية من الأدب الصيني للكاتب سوتونغ، أحد أهم الكتاب البارزين الذين ظهروا منذ أكثر مِن ثلاثين عامًا، في الفترة المعروفة بالفترة الجديدة للأدب الصيني المعاصر، التي كان تاريخ بدايتها في العام 1976، وهي رواية صغيرة لا يتجاوز عدد صفحاتها الـ 100، صدرت بترجمة بديعة ليارا المصري عن دار المسعى للنشر والتوزيع.
مدينة البامبو القديمة
“لعلَّ والدي كان طفلًا أخرس. فصمته غطى منزلي بضبابٍ كثيفٍ لنحو نصف قرن. وخلال نصف القرن هذا ولدت وكبرت لأصبح عجوزًا”
دارت أحداث قصة الفرار في قرية فينغ يانغ شو، يسرد فيها سوتونغ سيرةً ذاتية لتاريخ عائلته، وكيف تحول حرفيو هذه القرية الصغيرة مِن زراعة الأرز إلى صناعة البامبو، وكل واحدٍ منهم يحمل سكين بامبو متأهبًا للانخراط في الأشغال اليدوية للبامبو.
“كان عام 1934 هو عام فرار حرفيي البامبو من قرية فينغ يانغ شو”
العام 1934، كان نذير شؤم بالنسبة لنساء القرية، تحديدًا للـ139 حرفيًا الذين عبروا بسهولة من نهر اليانغستي إلى تلك المدن والقرى المزدهرة في الجنوب.
ما يفعله سوتونغ في هذه القصة ليس فقط سردًا لعام 1934 الذي ظهرت فيه عدوى الكوليرا، بل سردًا للهزائم المتكررة التي لحقت بجدته وما فعله بها جده من عبور الطريق الطيني الكبير مُخلفًا وراءه ليس فقط قريته، بل وزوجته الحامل وابنه قو تزي
الجد تشين باو نيان أول من بدأ هذه الرحلة، أول من حمل السكين وبدأ يقطع البامبو ويُخرج منه كل الأشغال اليدوية الممكنة، وأصبح دكانه في المدينة يعرفه الجميع، والجدة جيانغ زوجة تشين باو نيان أول من لعنت الطريق الطيني الكبير الذي عبر منه زوجها، وتبعها في ذلك باقي النساء.
“ومن حينها أصبح الطريق الطيني الكبير شبيهًا بثعبان كوبرا ضخم يلتف حول ذكرياتها التي تخص مسقط رأسها”.
متجر تشين جي لصاحبه تشين باو نيان
“عائلتنا أشبه بشجرة خوخ برية تزهر وحيدة”
ما يفعله سوتونغ في هذه القصة ليس فقط سردًا لعام 1934 الذي ظهرت فيه عدوى الكوليرا، بل سردًا للهزائم المتكررة التي لحقت بجدته، وما فعله بها جده من عبور الطريق الطيني الكبير مُخلفًا وراءه ليس فقط قريته، بل وزوجته الحامل وابنه قو تزي.
ومن خلال الذاكرة المعبأة بالألم لسوتونغ يبدأ في سرد كل شيء، حتى إن ظهر تاريخ عائلته بطريقة سيئة، قد تصيبك أحيانًا بالملل، لكن الأكيد أنك سوف تستمتع بقصة تتابع أجيال يرويها الحفيد، من خلال ما حُكي لهُ وما وجده من أوراق، من خلال قصة الجد والجدة وعمه قو تزي الذي مات بسبب جحود الأب.
سوتونغ يمتلك القدرة على التنقل بين الأزمنة بسلاسة ويكسب زمن الرواية مرونة كبيرة
“كان الموت أشبه بسقف منزل مقوس لونه أزرق داكن، يمتد من المنزل القديم في القرية إلى المدينة الصغيرة في الجنوب ويغطي أقارب جدتي”.
هل تستطيع أن تكتب تاريخ عائلتك، بكل ما تحمله من أجيال في مئة صفحة؟ في الحقيقة صعب، إذ يحتاج هذا الأمر لكتابة مكثفة، دون تلخيص، أو تناسي تفاصيل مهمة تُكمّل الصورة، أو إسقاط أحد من شجرة العائلة، سوتونغ فعل كل هذا دون أن يجانبه الخطأ فقط في مئة صفحة، من خلال سرد في غاية الجمال، وكتابة تتخذ حريتها وتفرض نفسها وتعبر عن كل شيء بأريحية تامة.
حقل أرز تحول لأشجار بامبو
“أدرك قو تزي أن والده مدخنة يتصاعد دخانها في المدينة، ولكن والدته لا ترى تلك المدخنة”.
سوتونغ يمتلك القدرة على التنقل بين الأزمنة بسلاسة ويُكسب زمن الرواية مرونة كبيرة، فأنا خلال عدد صفحات الرواية مقتنع كل الاقتناع أنني الآن في عام 1934، أحيا في قرية فينغ يانغ شو، أشاهد حقول الأرز الكبيرة المغمورة بالمياه التي تقف فيها السيدة جيانغ.
هذه الرواية ما هي إلَّا سرد طويل لأحداث حصلت في قرية ما في الصين تحديدًا في العام 1934، لكن بين السطور وبقليل من التركيز سوف تلتقط العجز والقهر الذي يحيا فيه أهل القرية خصوصًا الجدة جيانغ، وأن الفرار لم يكن الحل.
سوتونغ أظهر ملامح القرية كما ينبغي، الريف في الصين لا يختلف كثيرًا عن مصر أو باقي الدول العربية أو العالم كله
“الإنسان الميت يكبر كثيرًا عمَّا كان أثناء حياته”
سوتونغ أظهر ملامح القرية كما ينبغي، الريف في الصين لا يختلف كثيرًا عن مصر أو باقي الدول العربية أو العالم كله، وصف سوتونغ كان قويًا، يمكّن القارئ من ترجمة الكلام المكتوب على الورق إلى صورة حية أمام عينه.
“في حجرة المستشفى البيضاء شاهدت والدي حينما كان رضيعًا، وسمعت بوضوح كل ما ذكرته القصيدة من قطرات الأمطار وصوت الأغصان الرقيقة المتكسرة عبر الزمن”.
تظهر شخصية سوتونغ في كل كتاباته واضحةً، فلا تحتاج لأي تكهنات أو افتراضات، هذا هو أنا وهذه عائلتي وهذه قريتي ووطني.
المختلف هنا في هذه الرواية، أن سوتونغ يسردها من خلال عين أبيه وهو في بطن أمه، يبدأ السيرة الذاتية لعائلته من البداية، لا قبل ولا بعد، فهو العام الذي سوف يولد فيه والده، وهو العام الذي سيفر منه حرفيو القرية نحو الحياة المدنية تاركين كل شيء خلفهم.
أحيانًا يكون الهرب من الذكريات أو ما وقع لنا في الماضي من أحداث أو لعائلتنا، أمرٌ يريح لبعض الوقت، لكن هناك ذكريات تظل تطفو على السطح ولا يمكن لصاحبها أن يجعلها تعود من حيث أتت
“ثمة وقت امتلأ كتاب مذكراتي بعام 1934. كان هذا العام يطلق أشعة أرجوانية تحوم وتطوق تفكيري. كان عامًا بعيدًا لن يعود مرة أخرى”.
الفرار من الجنوب
“كان كعمر شجرةٍ عتيقة، يمكنني أن أجلس عليها، وأستذكر الأحداث الكبيرة التي وقعت عام 1934. وفي البداية أرى تاريخ جدتي السيدة جيانغ يطفو أولًا”
أحيانًا يكون الهرب من الذكريات أو ما وقع لنا في الماضي من أحداث أو لعائلتنا، أمرٌ يريح لبعض الوقت، لكن هناك ذكريات تظل تطفو على السطح، ولا يمكن لصاحبها أن يجعلها تعود من حيث أتت أو يتخلص منها نهائيًا، وفي هذه الحالة تكون الكتابة عن تلك الذكريات الحل الأمثل، كنوع من تدوينها في شكل حكاية، قد يتداولها الناس فيما بعد، أو لنتخلص من حملٍ ثقيلٍ على قلبنا، وهو ما فعله سوتونغ بالنسبة لتاريخ عائلته وقصة الفرار التي حدثت عام 1934، خصوصًا تاريخ السيدة جيانغ الذي كان أول ما يطفو على السطح ويلاحقه.
“عادت جدتي في شتاء عام 1935 وخرجت من تاريخ عائلتي شيئًا فشيئًا تعلو وجهها ابتسامة”
كتابة وترجمة مثالية
فازت المترجمة يارا المصري مؤخرًا بجائزة الإسهام المتميز في الكتاب الصيني – فرع الشباب، في دورته الـ13 لهذا العام، يارا ترجمت 8 أعمال عن اللغة الصينية بين الشعر والرواية والقصة القصيرة، من بينهم هذه الرواية، وأيضًا رواية أخرى لنفس الكاتب وعنوانها “زوجات ومحظيات” صدرت عن دار مسعى كذلك.
يارا المصري مترجمة قوية، تعرف جيدًا كيف تُخرج العمل مُحافظًا على لغته الأصلية وروحه، تمامًا كأنك تقرأ الكتاب في لغته، لا مُترجم، وهي براعة المترجم المتمكن من أدواته جيدًا، فقدمت لنا هنا ترجمة بديعة، متقنة، لا تقل جمالًا وسحرًا عن كتابة سوتونغ.
“كل ما سردته كان قصةَ فرار. هكذا حدث الفرار مبكرًا، هكذا بدأ الفرار مبكرًا”.