– تنبيه: تحتوي هذه المادة على صور ومقاطع فيديو مؤلمة للغاية
لم يبالغوا أبدًا حين نعتوا “آب” بالشهر “اللهاب”، لهبٌ من نوع أعتى وأعنف يحرق الروح والذكرى معًا، إذ لا يمكن لهذا الشهر أن يمر مرّ السحاب على أهالي مدينة داريا في ريف دمشق الغربي، منذ أيام المجزرة الكبرى التي ارتكبها جيش النظام السوري عام 2012 مرورًا بالتهجير سنة 2016 وحتى عامنا هذا، ولا يمكن للبداية إلا أن تكون مترعةً بالألم وملتهبةً كجمر أحمر أشعله فتيل القهر والظلم ليتناسب مع فجاعة الموقف.
عاينت أيام المجزرة بكل مواقفها وتفاصيلها، كيف لا وقد كنتُ حينها في أكثر الأماكن معاينةً للواقع، في المشفى الميداني الذي كان يعج بالمصابين والقتلى، ويعج كذلك بالباحثين عن بقايا أشلاء من أقربائهم، عملت كمسعف وموّثق، أذكر لحظتها حين كان صديقنا الطبيب منهمكًا بإنقاذ ما يستطيع إنقاذه، وفجأة تدوي الأصوات المتسارعة ليأتوا بعائلة كاملة نزل في بيتهم صاروخ وتتناثر أشلائهم فتحيلهم بين قتيل وجريح، وفجأة يكتشف هذا الطبيب أنها عائلته، أمه وأبوه وأخوته والأطفال الثلاث الذين قضوا حينها.
اليوم وفي الذكرى السابعة للمجزرة ما زالت المأساة تتكرر والمصائب تتوالى على الشعب السوري، فمذبحة داريا تكررت في مدن وبلدات كثيرة، غير أن هذه الذكرى السابعة توافق مرور 3 سنوات على تهجير أهل المدينة التي ذاقت من ويلات النظام وميلشياته ما ذاقت بين قتل وتهجير وجرح واعتقال على غرار أخواتها من المدن السورية.
قبل دفن قتلى مجزرة داريا
أيام سوداء
في يوم 25 من أغسطس/آب عام 2012، شهدت مدينة داريا بالريف الدمشقي مجزرة راح ضحيتها أكثر من 700 مدني بينهم 522 موثقون بالاسم، بحسب المجلس المحلي، إلا أن الأيام التي سبقت هذا اليوم كانت أقسى وما تلاه كان أشد، انقطعت كامل الاتصالات عن المدينة في 20 من أغسطس/آب مع قطع كامل للكهرباء والمياه، وبدأ النظام حملةً عسكرية على المدينة استهلها بقصف المنطقة الفاصلة بين داريا ومدينة معضمية الشام.
في صباح اليوم التالي أغلقت قوات النظام السوري كل مداخل ومخارج المدينة سواء الرئيسية أم الفرعية بالحواجز العسكرية والسواتر الترابية إضافه إلى نشر ما لا يقل عن 30 دبابة على الطريق الدولي لمدينة درعا وبالقرب من جسر صحنايا، ومنعت بالتالي الدخول أو الخروج من المدينة، وفي يوم 22 من أغسطس/آب الذي كان الأفظع والأشد قصفًا بحسب توثيق “المجلس المحلي لمدينة داريا“، استخدم النظام السوري أنواعًا مختلفة من الأسلحة الثقيلة بقصف المدينة كقذائف الدبابات وقذائف الهاون إضافة إلى صواريخ المروحيات وخلف هذا القصف دمارًا واسعًا وقتل العشرات من المدنيين داخل منازلهم إضافة إلى عشرات الجرحى.
قوات النظام التي اقتحمت المدينة
في يوم الجمعة 24 من أغسطس/آب، اقتحمت المدينة قوات من المخابرات الجوية معززة بقوات من الجيش ومدعومة بعدد كبير من الدبابات وتحت غطاء جوي من المروحيات المقاتلة من جهة مطار المزة العسكري وبدأ قصف عنيف على الجهة الغربية ووسط المدينة وشنت حملات مداهمات واسعة للأهالي المدنيين داخل منازلهم واعتقلت العشرات منهم، وفقًا لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
حاوت قوات من الجيش السوري الحر صد الاقتحام ودارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، هذه المواجهة دفعت النظام السوري إلى اتباع سياسه الأرض المحروقه حيث استخدم بعدها مباشرة أفظع أنواع القصف بالصواريخ من الطائرات المروحية والدبابات وقذائف الهاون الأمر الذي أوقع أعدادًا هائلة بين صفوف المدنيين بين قتيل وجريح وانسحب عند هذا المشهد الجيش السوري الحر بشكل كامل من المدينة.
على مدار تلك الأيام كان المشفى الميداني يغص بالمصابين والجرحى نتيجة القصف الشديد، لا أنسى أنني كنت في المشفى الذي اتخذ من إحدى المدارس مقرًا له، وكتبت دفتر أسماء المصابين لمدة 3 أيام ووصلت لتسجيل 900 مصاب حتى شعرت بالعجز التام وتوقفت عن الإحصاء لتصيبني حالة من الهلع والخوف والبكاء الشديد.
تتواصل تباعًا أعداد القتلى نتيجة القصف إلى مقبرة المدينة، المدينة فارغة الشوارع والكل ينتظر ويترقب ما الذي سيحصل، والطائرات المروحية في السماء. يستقبل أبو صياح صاحب مهمة دفن القتلى، العشرات يوميًا ليدفنهم، أتى للمشفى الميداني ليستلم دفعةً للدفن، ركبتُ في سيارته التي استقلها مسرعًا وذهبنا باتجاه المقبرة، لنصل ونجد النظام قصف المقبرة وحرق العشرات من الجثامين المصفوفة هناك فلم يسلم منه ميتٌ ولا حي.
الإعدامات الميدانية
بدأت عمليات الانتقام والقتل العشوائي والإعدامات الميدانية الجماعية بحق سكان المدينة أيام 25 و26 من أغسطس/آب وجرت حالات إعدام لعائلات بكاملها، فيتم اقتحام المنزل وتصفية عوائل بأكلملها، وفي تقرير المجلس المحلي للمدينة حصلت كبرى المجازر في هذه الأيام وهي المجزرة التي حصلت داخل جامع (أبو سليمان الداراني) وفي محيط المسجد، حيث كان بالقرب منه منزل بداخله ملجأ هرب إليه أعداد كبيره من المدنيين من منازلهم القريبة ولجأوا إليه، وفي هذه المجزرة وثق الناشطون ما يقرب من 156 اسم قتيل بينهم 19 جثة لنساء و3 جثث لأطفال.
أذكر جيدًا حينها صديقي بشار أبو أسامة الذي تسلل إلى المسجد ليلًا وصُعق بما رأى وصَوّر القتلى ليسارع وقتها بنشر المقطع ليكون هذا المقطع أول الفيديوهات الصادرة عن المذبحة التي صدمت الجميع، وبعد سنوات وخلال أيام حصار المدينة قُتل مصور المقطع بقصف للنظام.
مجزرة جامع أبو سليمان في داريا
وكما نقلت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، ففي يوم الإثنين بدأت القوات الحربية بالتراجع بعد قتلها أكثر من 700 شخص بشتى الأسلحة، والتمركز على أطرف المدينة، كما أعدمت قوات المخابرات رئيس مخفر شرطة داريا وعناصر من شرطة المخفر وذلك لاتهامه بمساعدة الأهالي، فيما نهبت عناصر قوات الأسد مستودعات الصليب الأحمر الواقعة في نهاية طريق المعامل وكانت هذه المستودعات تحتوي على مواد غذائية ومفروشات ومواد إغاثية.
عثر الأهالي بعد خروج قوات الجيش والمدرعات من المدينة على 35 جثة لأهالي المدينة كانت قوات المخابرات وجيش النظام السوري قد اعتقلتهم وقبل خروجهم من المدينة أعدموهم جميعًا بينهم 4 نساء و3 أطفال.
حاولنا في تلك الأيام سد حاجة أهل المدينة من الاحتياجات إلا أنه في نقطة ما ولأسباب عدة لم نستطع أن نكمل، ووجب علينا التفرق والانسحاب فلا شيء يمكنه أن يقف في وجه ذلك الاجتياح الآثم ولا العين تستطيع مقاومة المخرز، باختصار تلك الفترة كنا نسبح ببرك الدماء ونستنشق الموت.
فصل جديد
شهر آب لم يكن حنونًا بما يكفي لرأب صدع المجزرة في قلوبنا، إذ إنه مصر على نكئ الجراح العتيقة وكسر ما تبقى من حياة، لتشهد داريا بعد سنوات عجاف من الحصار والخيبة والصمود تهجيرًا قسريًا لأبنائها إلى الشمال السوري، كان يوم التهجير أشبه ما يكون بفصل الروح عن الجسد، أن تترك أرضك وسلاحك لقاتلك وأن تسلم لخذلان القريب قبل البعيد، وأن تتناسى كل ماضيك وحاضرك لتختصر ذلك في حقيبة صغيرة تحوي صور بقايا من ماضٍ جميلٍ يحتضن بين كفيه كل الأحبة، وشعلة تحرق بها كنز طفولتك ومملكتك الصغيرة بيديك حتى لا يهنأ بهما قاتل بلا أي مبالاة ولو تطلب الأمر أن نقتلع جذورنا معنا خشية أن تنبت عليها شجرة خبيثة لاقتلعناها، الأمر سيان بعد أن ذهب النفيس فلا أسف على الرخيص.
في مثل هذا اليوم وبعد سنوات من الحصار القاسي الذي بدأ بعد شهرين من المجزرة القاسية، كانت داريا على موعد مع تهجير أبنائها بعد استنفاد كامل الفرص والمقاومة، واستخدام النظام كل الأسلحة في تدمير المدينة ومقاومة أسطورية للجيش الحر، حيث كان نصيب داريا من براميل النظام ما يقرب من 9008 براميل متفجرة، وآلاف الطلعات الجوية مع القصف المستمر من الجبال المحيطة.
هُجرتُ مع أصدقائي تاركين خلفنا مدينةً حوت أرضها أجساد من قتلوا فداءً لها، لا أذكر من يوم التهجير إلا آخر ركعتين في المسجد المدمر الذي تربيت فيه وزيارة لقبور أصدقائي، حتى إنني أحرقت بيتنا كي لا تستفيد قوات الأسد من الأشياء الموجودة فيه، فالمعلوم عن قوات الأسد أنهم كلما احتلوا مدينة “عفشوا” وسرقوا ونهبوا حتى يفرغوا المدينة ليس من أهلها فقط بل من كل أشيائها.
اليوم ورفم مرور سنوات، تواصل العدالة غيابها وينجوا مرتكبو المجزرة والتهجير القسري، لتبقى المبادئ التي يتغنى بها العالم “المتحضر” عن الإنسانية ومحاسبة مجرمي الحرب على المحك، في الوقت الذي يبقى فيه أهل الضحايا على أمل بالعودة إلى مدينتهم الغناء بعرائش العنب والفوز بعدالة تأخذ الحق من القتلة.