أحداث متسارعة للأوضاع تشهدها مدينة بورتسودان، مركز ولاية البحر الأحمر (شرق السودان) عقب الاقتتال بين قبيلتي البني عامر والنوبة، المستمر منذ الأربعاء الماضي، وأسفر عن قرابة 20 قتيلاً وما يزيد على 90 مصابًا، وسط جهود مكثفة لاحتواء الأزمة.
التطور الدراماتيكي في المشهد الميداني دفع مجلس السيادة بالسودان إلى إقالة والي البحر الأحمر المكلف اللواء الركن عصام عبد الفراج، على خلفية فشله في احتواء الوضع المتفاقم ساعة تلو الأخرى، هذا بجانب إعلان حالة الطوارئ بالمدينة واتخاد إجراءات لحفظ الأمن والسلم الاجتماعي.
يذكر أن تفاقم الأوضاع بين القبيلتين في هذه المدينة بهذه الصورة ليس الأول من نوعه، إذ انطلقت شرارة الأحداث بينهما في ولاية القضارف، في شهر رمضان الماضي، وسرعان ما انتقلت إلى محلية خشم القربة بولاية كسلا، بالتزامن مع عيد الفطر، ومن ثم إلى ولاية البحر الأحمر، وتحديدًا حاضرتها المدنية.
وتعد هذه الأحداث أول اختبار عملي لرئيس الوزراء الجديد عبد الله حمدوك، الذي لم ينته من تشكيل حكومته بعد، فيما تثار بعض الاتهامات لجهات أجنبية بالوقوف وراء هذا التصعيد بهدف إشعال الموقف وإعادة هيكلة الخريطة السياسية والأمنية في بورتسودان التي تعد المنفذ الرئيسي للسودان على البحر، ويستخدمه أيضًا جنوب السودان لتصدير النفط.
جذور الأزمة
جذور الخلاف بين بني عامر والنوبة تعود إلى عصر الإنقاذ، حيث نشبت العديد من الخلافات التي تطورت فيما بعد إلى صراعات وتحرشات فيما بينهما، إلا أن احتواءها من الحكومة قبل تفاقم الأوضاع كان السيناريو المعتاد، غير أنه كان احتواءً مؤقتًا لم يرتق إلى درجة حل الأزمة جذريًا.
في الـ19 من أغسطس الحاليّ، نشبت خلافات عادية بين القبيلتين، على إثرها تم إلقاء القبض على عناصر من قبيلة بني عامر، الأمر الذي دفع ذويهم وأقاربهم وأبناء القبيلة إلى التجمهر أمام مقر الشرطة، مطالبين بالإفراج عن أبنائهم، بعضهم كان مسلحًا وفق ما نقلت صحف محلية سودانية عن شهود عيان.
وفي حدود الساعة السابعة والنصف مساء هذا اليوم، هاجمت مجموعة ملثمة امرأة تدعى (التومة كوكو) مما أدى لإصابتها بالأذى البسيط، غير أنه قد تم تحرير محضر بذلك وألقي القبض على المتهمين، وبعد ساعة تقريبًا تجمعت مجموعات من القبيلتين فى الحد الفاصل بين أحياء (فيليب) و(دار النعيم).
تمثل تلك الاشتباكات وما أدت إليه من خسائر في الأرواح والممتلكات أول اختبار عملي لمجلس السيادة الذي أدى اليمين الدستورية قبل أيام
وفي التجمع وقعت بعض المناوشات بين الجانبين، أسفرت عن مقتل شخصية وإصابة 37 آخرين، ما دفع إلى تدخل قوات الأمن للسيطرة على الموقف، مطلقة الأعيرة النارية لتفرقة المتجمهرين الذين ردوا هم أيضًا على أفراد الشرطة ما أدى إلى إصابة ثلاثة عناصر منهم أحدهم برتبة رائد.
وفي صبيحة اليوم التالي، حضر والي البحر الأحمر، اللواء ركن عصام الدين عبد الفراج، في محاولة منه لاحتواء الموقف، لكن سرعان ما تجددت الاشتباكات مرة أخرى بالأسلحة البيضاء والحجارة، هذا بخلاف سماع دوي انفجارات هائلة ونشوب حرائق في عدد من المنازل، وخروج أسلحة بصورة كثيفة، الأمر الذي أجبر الوالي على الانسحاب من الموقع.
ورغم حضور ممثلين عن المجلس السيادي لمناقشة سبل تخفيف التوتر والجلوس على مائدة الحوار بين ممثلي القبيلتين، فإنه وفور مغادرته مساء 23 من أغسطس تجددت الاشتباكات مرة أخرى، وتبادل الطرفان إطلاق النار مما أدى لوفاة 5 أشخاص وإصابة 25 آخرين بالجراح من الطرفين، لترتفع بذلك حصيلة القتلى إلى 20 قتيلاً و94 جريحًا هذا بخلاف الخسائر في الممتلكات.
انتشار كثيف لقوات من الجيش في المدينة
فقدان الثقة في قوات الحماية
الملاحظة اللافتة للنظر في التصعيد هذه المرة فقدان كلا الطرفين الثقة في القوات المكلف بها حمايتهم، وهو ما أشارت إليه مصادر خاصة لـ”نون بوست” كشفت انحياز العناصر الأمنية الموجودة هناك لأي من طرفي الصراع، حيث ينحاز كل إلى قبيلته، الأمر الذي جعل من الشارع البورتسوداني ساحة من الفوضى.
المصادر كشفت أن العديد من الفيديوهات التي تم تناقلها عبر منصات السوشيال ميديا أثبتت وجود أفراد بزي القوات النظامية الأمنية وسط الشباب الذي يحمل الأسلحة البيضاء والعصي، لافتين إلى أن الأمر لم يقتصر على قبيلة دون الأخرى، وهو ما يعني أن الأمن لم يكن محايدًا، وبدلاً من أن يكون نزيهًا لفرض النظام بات أحد مكونات إشعال الموقف وتأجج نيرانه.
وأضافوا أنه كان من الأولى أن يكون موقف قوات الأمن محايدًا وصارمًا في الوقت ذاته مع الجميع، وألا ينحازوا لهذا أو تلك، هذا بجانب ضرورة تحديد منطقة فاصلة بين الأطراف المتقاتلة وعدم السماح لأي طرف بتعديها أو مجرد الاقتراب منها أو من مواقع ارتكاز تلك القوة الفاصلة، إلا أن هذا لم يحدث وهو ما ساعد في مزيد من التصعيد.
مواقع سودانية كشفت أنه في أثناء الاشتباكات رصدت القوات الأمنية عربة بوكس مجهولة تتجول في المدينة وتنقل أسلحة إلى منازل أحد الأطراف بغرض تخزينها، ليتم ضبط العربة وضبط بداخلها شخص اتضح أنه ينتمى للجبهة الـ(ا) التابعة لدولة مجاورة، وضبطت بحوزته بطاقة نظامية تثبت تبعيته لتلك الجهة، وضبط معه شخص آخر وبحوزتهما مسدسان وذخائر، واتضح أنهما يجلبان الأسلحة إلى المنطقة وتخزينها بغرض استخدامها لتأجيج الصراعات الدائرة بين الطرفين.
“هناك محاولة للسيطرة على ميناء بورتسودان من دولة خليجية معروفة بحب الموانئ” الصحفي السوداني وائل نصر الدين
أول اختبار لحكومة حمدوك
تمثل تلك الاشتباكات وما أدت إليه من خسائر في الأرواح والممتلكات أول اختبار عملي لمجلس السيادة الذي أدى اليمين الدستورية قبل أيام، باعتبارها تهديدًا للنسيج الاجتماعي وسط مخاوف من تطورها إلى الأسوأ، وهو ما يفسر سرعة الاستجابة والتعاطي مع الأحداث بشكل ربما لم يعهد عليه قبل ذلك.
وعلى الفور أرسل السيادي وفدًا للوقوف على تطورات الأحداث، الجمعة الماضية، ضم عضوي المجلس، الفريق شمس الدين الكباشي والمستشار القانوني حسن شيخ إدريس، إضافة إلى رئيس أركان القوات البرية ونائب مدير جهاز المخابرات، ومدير الشرطة، حيث عقدوا اجتماعات مع السلطات العسكرية في بورتسودان.
وبعد اجتماعات مكثفة بينهم جرى التوافق على وقف العنف والتهدئة، غير أن سرعان ما نكص طرفا الصراع العهد بعد ساعات قليلة من إبرامه، حيث تجددت الاشتباكات مرة أخرى، بالحجارة والأسلحة البيضاء، مخلفة وراءها مزيدًا من القتلى والجرحى.
قوى الحرية والتغيير هي الأخرى أرسلت وفدًا مضافًا إليه عدد من رجالات الادارة الأهلية إلى المدينة، أمس الأحد، من أجل وقف نزيف الدم فورًا، وقد التقى بممثلي القبيلتين، حيث تعهدا بالعمل لإنهاء الاقتتال، لكن يبدو أن الأمور تتجه نحو مزيد من التصعيد في ظل الفشل في احتواء الأزمة.
القيادي بتجمع المهنيين السودانيين، محمد ناجي الأصم في تغريده على تويتر، علق على تلك التطورات قائلاً إن ما يحدث في بورتسودان أمر خطير ومؤسف، يحتاج إيقافه إلى عمل الجميع ومجهودهم، مضيفًا: “أكثر من 25 روحًا فقدناها خلال يومين، السلطة الانتقالية المدنية عليها أن تستخدم كل أدواتها في سبيل وقف ذلك فورًا”.
وفي أول رد فعل رسمي استجابة للضغوط الشعبية، تم الإطاحة بالوالي، وهو المطلب الذي طالما نادى به الكثير من أهالي المدينة في ظل حالة اللامبالاة التي تعامل بها مع الأحداث منذ اندلاعها في عيد الفطر الماضي، الأمر الذي دفع البعض إلى التساؤل عن سر الإبقاء عليه والتمسك به حتى هذا اليوم.
رواد مواقع التواصل الاجتماعي لم يكتفوا بإقالة الوالي وفقط، بل طالبوا بمحاسبته، بالإضافة إلى المطالبة بنشر قوات عسكرية من خارج الولاية في المدينة واستبدال أبناء المنطقة الموجودين فيها، مبررين ذلك بأن السبب الرئيسي لتفاقم أحداث بورتسودان هو التحريض الزائد من جهات لديها سلطة اجتماعية ومالية، مؤكدين أن الخلافات تبدو بسيطة للغاية لكنها فجأة تتطور وتصل إلى الاشتباكات.
يعد ميناء بورتسودان المنفذ الرئيسي للسودان على البحر
أصابع خارجية
التصعيد غير المسبوق في التوترات بين القبيلتين في بورتسودان على وجه التحديد وفي هذا التوقيت، أثار موجة من التساؤلات عن الجهة التي تقف خلف تغذيته بهذه الصورة غير المعتادة، إذ إن الخلاف بين الطرفين وإن كان ممتدًا منذ سنوات طويلة إلا أنه لم يرتق لهذه الدرجة من السخونة والغليان.
البعض ذهب إلى أن الصراع القبلي في هذه المدينة الحيوية هو صراع سياسي من الدرجة الأولى، وهو ما أشار إليه الصحفي وائل نصر الدين، عضو ائتلاف شباب السودان، الذي أشار إلى أن هناك طرفًا مدعومًا من قوى الحرية والتغيير وطرف آخر من الدولة العميقة.
الصحفي السوداني في منشور له على صفحته الرسمية على فيسبوك، أكد أن المستفيد من هذا الصراع هي القوى التي تود نشر قوات الدعم السريع في ميناء بورتسودان، مضيفًا “محاولة للسيطرة على ميناء بورتسودان من دولة خليجية معروفة بحب الموانئ”، منوهًا في منشور آخر إلى زيارة قائد قوات الدعم السريع وعضو المجلس السيادي محمد حمدان دقلو “حميدتي” أبو ظبي، اليوم، ولقائه ولي عهدها محمد بن زايد.
هذا الرأي يتناغم بصورة كبيرة مع ما ذكره مدير الإعلام بالقصر الجمهوري العميد الطاهر أبو هاجة، ففي بيان له كشف أن الأجهزة الأمنية المختصة رصدت استخدام السلاح الناري لأول مرة في الصراع، مما يكشف وجود تدخلات خارجية وداخلية لتأجيجه ونقله إلى مدن أخرى.
وأشار أبو هاجة إلى أن مجلس السيادة وجّه برفع درجة الاستعداد وسط الأجهزة الأمنية، لرصد أي اجتماعات أو لقاءات تعقد لتغذية الصراع، وأضاف أن المجلس كوّن لجنة للتحقيق وتقصي الحقائق والشروع في التعويضات وجبر الضرر، مشددًا على أن السلطات ستحاسب كل من يثبت انحيازه لطرف من الأطراف بسبب الانتماء أو المناصرة، مشيرًا إلى أن مجلس السيادة يدعم الحلول السياسية والاجتماعية.