“ما زالت كينيا ملتزمة بإغلاق مخيم داداب، هذا القرار اُتخذ من الحكومة لأن المخيم أصبح حاضنةً لحركة الشباب والمسلحين والمهربين وتُجَّار الممنوعات، إضافة إلى أنه وفَّر فرصة لتجارة الأسلحة غير المشروعة”، هكذا أعلنت الحكومة الكينية قراراها صراحةً قبل أشهر، وعلى لسان وزير داخليتها جوزف نكاسيري، بإغلاق أكبر مخيم للاجئين في العالم.
في شمال شرق كينيا، على مقربة من الحدود مع الصومال، كتبت قصة داداب كواحد من أقدم مخيمات اللاجئين في إفريقيا، سطور بدايتها، عندما خطاها عشرات آلاف الفارين من الحرب الأهلية في الصومال إثر انهيار حكومته المركزية قبل نحو 3 عقود، وتزايدت عُقَد القصة مع تطور الصراعات في الصومال بين أمراء الحرب وفي دول أخرى مجاورة، لتنمو أعداد ساكني المخيم، وتنشأ فيه أجيال جديدة لم تعرف لها مستقرًا غيره.
غير أن حياتهم تبدو قصة معاناة مستمرة بين مرارة العيش وقيود السلطات الكينية عليهم بسبب مخاوفها الأمنية من نشاط حركة الشباب الصومالية والضجر مما يمثلونه من عبء اقتصادي عليها، وتزداد المعاناة مع التجاهل الدولي وعزم السلطات الكينية إغلاق هذه المخيم.
يترافق هذا مع توتر بين كينيا والصومال بشأن ترسيم حدودهما البحرية وتساؤلات عن تأثير عودة اللاجئين على الأوضاع الإنسانية في العديد من المناطق الصومالية وضمانات عودة اللاجئين طوعًا وسبل كفالة العيش الكريم لهم.
ترعرعت في هذا المخيم عدة أجيال متعاقبة ليصبح هذا المخيم – الذي يوشك أن يكون على حافة الانهيار – وطنهم الذي لا يعرفون سواه
الصوماليون في منفاهم
وصلت طلائع اللاجئين إلى داداب عام 1992، فرارًا من حرب أهلية مستعرة ما زالت تدور رحاها حتى اليوم، كما تدفع موجات الجفاف المتكررة بمزيد من اللاجئين الصوماليين إلى داداب الواقع داخل الأراضي الكينية على بعد 50 كيلومترًا من الحدود الصومالية، فيعيش اليوم هناك أكثر من 250 ألف لاجئ وطالب لجوء.
وعادة ما يكون الطريق إلى داداب في فصل الأمطار وعرًا، حتى مع هروبهم من الجفاف، يواجه الفارون من العنف في الصومال إلى داداب وباء الكوليرا الذي تثير الزيادة في عدد حالات الإصابة به القلق أيضًا، حيث يتفشى الوباء في ظل هطول الأمطار المرتبطة بالنينو، وينتقل عن طريق المياه ويسبب الحمى والقيء والإسهال المائي.
صورة من الجو لمخيم داداب الأكبر في العالم
ترعرعت في هذا المخيم عدة أجيال متعاقبة ليصبح هذا المخيم – الذي يوشك على الانهيار – وطنهم الذي لا يعرفون سواه، وإن سمعوا عن موطن لهم في الصومال أو غيره، فهي قصص حنين مغمورة بدموع الأسى على ما مضى، وعلى حياة آنية يرزحون فيها تحت نيران أعدائها.
ويمتد المخيم كسلسلة من المخيمات وهي: “مخيم ديغاهالي وإيفو 1 وإيفو 2 وهاغاديرا”، وكلها موزعة على مساحة 30 كيلومترًا مربعًا حول قرية داداب، لتجمع بين مقيميه معاناة وهروب من حروب أهلية طاحنة في دول جنوب السودان وبوروندي والكونغو إلى جانب إثيوبيا وإريتريا، فيما يمثل الصوماليون نحو 96% من سكان المخيمات الأربع التي تشكل المجمع.
صحيح أن الاتفاقية الدولية تكفل حماية اللاجئين، لكن كينيا تريد إعادتهم لبلدهم، كما أن توفير الغذاء لهم يشكل تحديًا متزايدًا أمام الأمم المتحدة، الأمر الذي يثير التساؤلات عن الوضع المأساوي الذي يتعرض له آلاف البشر.
في هذا المخيم، تنظم الحياة نفسها بنفسها، فجزء كبير من السكان لم يعش في أي مكان آخر عدا هذا الجزء الصومالي على الأراضي الكينية. هنا، يحلم الشباب بحياة أفضل في الخارج، لكن بالتأكيد ليس بالعودة إلى الصومال.
يشتكي اللاجئون من سوء الطعام الذي توزعه منظمات شؤون اللاجئين، ويعتبره البعض “مناسبًا بالكاد للحمير”
وهناك شيء مدهش للغاية في داداب، وهو الحضور الطاغي بقوة للأطفال، حيث وُلد هناك رسميًا 10 آلاف طفل، لكن ربما أكثر من ذلك بكثير.
ليس الصوماليون وحدهم أو الكينيون وحدهم العالقين في هذا المخيم، فهم يملكون في جيبهم بطاقة لاجئ لجميع دول العالم، وهذه الحماية الوحيدة التي يتمترسون خلفها لتجنب العودة المستحيلة لبلدهم الخطير، لكن قوانين حق اللجوء في كل مكان مثل الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحت أكثر تشددًا، ليتحول هذه الحلم أيضًا تدريجيًا إلى سراب.
داداب من الداخل.. سجن بسماء مفتوحة
عند دخول المخيم، تصطدم بصفائح الإيواء القماشية المحفوفة بالمخاطر، المصنوعة من صفائح معدنية وأغطية بلاستيكية وطين جاف، ورغم أن هذا المخيم يعمل منذ 27 عامًا، فإن البناء المستدام محظور فيه.
لا توجد جدران ولا سياج لترسيم الحدود، أمَّا مياه الشرب فهي متاحة مجانًا في المخيم من خلال مخزون المياه الجوفية في القاع، لكن ينبغي الحفر أعمق في كل مرة للحصول عليها.
باتت معايير التدقيق داخل المخيم أكثر صرامة، فقد تم استحداث نظام تقنين معقد من خلال التعرف على اللاجئين بالبصمة
يشتكي اللاجئون من سوء الطعام الذي توزعه منظمات شؤون اللاجئين، ويعتبره البعض “مناسبًا بالكاد للحمير”، كما أن الحصة التموينية التي يحصلون عليها تنقضي خلال 10 أيام فقط، فيضطرون إلى خلط الأرز على البقوليات ليبقوا على قيد الحياة، والبعض الآخر يرسل الأطفال للبحث عن أي عمل مثل غسل الملابس لجني القليل من النقود.
يُوزع الطعام الذي يفتقر إلى التنوع الغذائي على كل مخيم مرة واحدة في الشهر، إذ تتلقى كل أسرة حصتها التموينية بناءً على عدد أفرادها، ويتولى إدارة عملية توزيع الطعام برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
باتت معايير التدقيق أكثر صرامة، فقد تم استحداث نظام تقنين معقد من خلال التعرف على اللاجئين بالبصمة، بل تراجعت الميزانية، الأمر الذي تراجعت معه الحصص التموينية، فأصبحت الموارد المتاحة قادرة على مساعدة اللاجئين لفترة أطول، ففي أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، أعلن برنامج الأغذية العالمي أنه سيقلص الحصص الغذائية التي يوزعها على 420 ألف لاجئ يعيشون في مخيميّ داداب وكاكوما – الذي يأوي الآلاف من لاجئي جنوب السودان – في كينيا بنسبة 20%.
خلافًا للمنظمات الإنسانية الأخرى التي تمولها الأمم المتحدة، التي تُضعفها القيود المفروضة على الميزانية، فإن منظمة أطباء بلا حدود تعتمد على أموال المتبرعين لها، مما يجعلها تستقبل دون قيد أو شرط اللاجئين الصوماليين القانونيين وغير القانونيين، وكذلك الكينيين على حد سواء.
يعالج المستشفى على بُعد بضعة مئات من الأمتار من العيادة المجانية حالات أكثر خطورة مثل الكوليرا التي أودت بحياة المئات، كما تم وضع وحدة طب نفسي لمواجهة الاضطرابات النفسية التي يعاني منها ثلث اللاجئين بسبب ظروفهم المعيشية.
مجموعة من النازحات داخليًا تنتظر المساعدات الغذائية
يعتبر مستشفى داداب بمثابة برج مراقبة من نوع خاص لاستطلاع الحياة في المخيم، فهو الوحيد في المنطقة الذي يعالج الاضطرابات النفسية مثل الإجهاد والفصام والاكتئاب أو أعراض ما بعد الصدمة.
تعود معظم هذه الاضطراب التي تُعالج في داداب إلى تجارب نفسية مأساوية في الصومال، ولكنها تعود أيضًا إلى طول فترة احتجازهم داخل المخيم، كما تعود كثير من حالات القلق والتوتر الحاد إلى مخاوف العودة إلى بلدهم.
أمَّا في مدارس داداب، كتب لعدد من أبناء اللاجئين نصيب من العلم والمعرفة، ورغم ذلك، فإن مستقبلهم يبدو مجهولاً، خاصةً إذا أكملوا دراستهم الثانوية، ففرص حصولهم على مقاعد في الجامعة الكينية تبدو ضعيفة، كما هو الحال أيضًا في فرص العمل.
بين خيار العودة وويلات الصراع
رغم هذه الظروف الإنسانية القاسية، تفضل الكثير من العائلات اليوم البقاء في هذا المخيم، حيث أصبحت حياتهم مرتبطة بهذا المكان الذي وفَّر للكثيرين بدايات جديدة، ولو طُردوا من المخيم لا يدرون أين يذهبون، فهم يخشون من تجنيد أطفالهم في القتال إجباريًا.
يجعل شبح الحرب الأهلية في الصومال العودة إلى الوطن محفوفة بالمخاطر، فالجميع يتحدث عن الصراعات بين الجماعات المتصارعة، وبسبب قربه من الحدود الصومالية، غالبًا ما تتسلل عناصر من حركة الشباب إلى المخيم لتجنيد أفراد جدد، بل والقيام بعمليات إرهابية في المخيم.
بعض الساسة في كينيا يقولون إن المخيم بات تهديدًا لأمن بلدهم ومعقلاً للمتطرفين ومسرحًا لتجنيد المقاتلين في حركة الشباب
من جانبهما، تقوم الشرطة والجيش بإغلاق المنطقة لتأمينها، في حين تقوم حركة شباب المجاهدين – التي تنشط في الصومال وتتبع فكريًا لتنظيم القاعدة، وتُتهم من عدة أطراف بالإرهاب بينها أمريكا والنرويج والسويد – بتوغلات متكررة في الأراضي الكينية.
في الـ2 من أبريل/نيسان عام 2015، قُتل 148 شخصًا في حرم جامعة غاريسا، على بعد مئة كيلومتر من داداب، الأمر الذي حدا بالحكومة الكينية للاشتباه في وجود لاجئين داخل المخيم متواطئين مع حركة الشباب الصومالية، لكن لم يُقدم أي دليل على الإطلاق.
كانت شكوك السلطات الكينية كافيةً لإعلان نيتها إصدار قرار بإغلاق جميع المخيمات، وأمهلت الأمم المتحدة وجميع قاطني المخيم فترة 3 أشهر لإخلائه، وهو قرار لقي تأييدًا حتى من برلمانيين ذوي أصول صومالية.
وفي مسار تنفيذ ما أعلنته الحكومة الكينية فقد أوقفت جميع محلات وصرافات تحويل الأموال داخل المخيم لقطع ما تحسب أنه تمويل يصب في مصلحة حركة الشباب، وهو أمر بطبيعة الحال أثَّر على كثير من الأسر التي تعتمد على حوالات من أقرباء لهم في الخارج.
حافلات تقل لاجئين غادروا مخيم داداب في شمال شرق كينيا إلى الصومال
لكن لم تنته المدة المحددة حتى أبطلت المحكمة الكينية قرار إغلاق المخيم وتحويله إلى مكان آخر، وهو القرار الذي رأت فيه الأمم المتحدة أمرًا في غاية الصعوبة، ويجب أن يتم الاتفاق عليه بين كل من حكومتي كينيا والصومال، وبعد ضغوط ودعوات المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي بإعادة النظر في القرار، أرجأت السلطات الكينية هذا القرار إلى عام 2019، مع ذلك، ما زالت هناك رغبة كينية في إغلاقه كما لو أن جميع الـ250 ألف لاجئ متورطون في الأحداث.
وفي مايو/أيار 2016، قامت الحكومة الكينية بإغلاق المخيم من جانب واحد، وخصصت لذلك 10 ملايين دولار، بدعوى استعماله كمكان لتدريب حركة الشباب الصومالية، كما دفعت عشرات الآلاف من اللاجئين إلى العودة إلى الصومال رغم الظروف الحساسة في هذا البلد، حيث يفتقر أكثر من 5 ملايين شخص للغذاء، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية ومواصلة القوات المسلحة الصومالية والإفريقية قتال الجماعات الإسلامية المسلحة.
هل تغلق السلطات الكينية المخيم؟
ليس المخيم وحده أكبر هموم اللاجئين، وإنما باتت الحكومة الكينية التي ضاقت بضيوفها الهم الأكبر، فبعض الساسة في كينيا يقولون إن المخيم بات تهديدًا لأمن بلدهم ومعقلاً للمتطرفين ومسرحًا لتجنيد المقاتلين في حركة الشباب، وإنه حان الوقت ليعود اللاجئون إلى بلادهم، وتبرر السلطات دعواتها بإغلاق المخيم بأن هؤلاء اللاجئين داخل مخيماتهم بلا عمل، وأدمغتهم خاوية من أي هدف في الحياة إلى حد اليأس، وليس ثمة أسهل من السيطرة على أدمغة العاطلين عن العمل، في إشارة منها إلى التعاون مع حركة الشباب الصومالية.
تنفق الأمم المتحدة 7 ملايين دولار كل عام لإعادة اللاجئين إلى أوطانهم في حين أن ميزانيتها تفتقد سنويًا إلى 20 مليون دولار يحتاجها لتوفير الغذاء والرعاية الصحية له
حتى الآن تواصل الحكومة الكينية إغلاق المخيمات، وقد حصلت من الأمم المتحدة على موافقتها بإغلاق أحد المخيمات بالفعل، وهو مخيم “إيفو 2″، ما أجبر اللاجئين الذي يعيشون هناك على ترك كل شيء خلفهم مرة أخرى، وأصبح المخيم خاويًا على عروشه تمامًا.
انتقل اللاجئون إلى مخيم آخر تغمره المياه بانتظام في فصل الأمطار، ما يشير إلى أن نقص الغذاء والانتقال القسري ليس إلا لإجبار اللاجئين على مغادرة داداب بلا رجعة، فقد أجبر توقف برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة الكثيرين على العودة إلى بلدانهم، متحملين ويلات الحروب بدلاً من مشاهدة أطفالهم يتضورون جوعًا أمام أعينهم.
في فبراير/شباط الماضي، أعلنت الحكومة الكينية إغلاق مخيم داداب في غضون 6 أشهر، أي بحلول أغسطس/آب 2019، وراسلت الأمم المتحدة لتأكيد قرارها، ووضعت بالتعاون مع الأمم المتحدة برنامجًا خاصًا لإعادة اللاجئين إلى الصومال، أُطلق عليه اسم “برنامج العودة الطوعية إلى الوطن”، وطلبت من المفوضية العليا للاجئين تسريع عملية إعادة إسكان اللاجئين وطالبي اللجوء المقيمين في المخيم.
من جانبها، أكدت المفوضية العليا للاجئين عزمها العمل مع الحكومة الكينية من أجل العودة الطوعية إلى البلدان الأصلية وإعادة إسكان اللاجئين في مخيمات أخرى في كينيا والدول المجاورة، ولتحفيز طلبات العودة تقدم السلطات المال بكل بساطة، أمَّا أولئك الذين يعقدون العزم على العودة فيمرون على مخيم عبور لتنتظرهم ظروف معيشية أشد خطورة.
خلال عامين، غادر المخيم عشرات الآلاف من اللاجئين، إذ تنفق الأمم المتحدة 7 ملايين دولار كل عام لإعادة اللاجئين إلى أوطانهم في حين أن ميزانيتها تفتقد سنويًا إلى 20 مليون دولار يحتاجها لتوفير الغذاء والرعاية الصحية لهم. قبل المغادرة، يقوم اللاجئون بالفعل بتوزيع بعض أموالهم لتسديد ديونهم أو مساعدة أسرهم التي ستبقى خلفهم في المخيم.
وعلى الرغم من أن التهديدات لا تزال قائمة بشدة في الصومال، فإن الأسر تتحمل مخاطر العودة، لأنه في الوقت الحاضر لا أفق أمامهم في حياة كريمة في داداب، حيث أُجبروا على مغادرة المخيم، ثم طُلب منهم صراحة الرحيل إلى بلدهم، وفي ذلك حلٌ ربما يرضي البعض لحين من الزمن، إلا أنه لا يُنهي معاناة 30 عامًا في داداب.
فالعودة غير المدروسة تحول منطقة الحدود الكينية الصومالية إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي مكان آخر، ولا يُبطل مفعولها إلا تدخل الأمم المتحدة والدول المانحة لإقناع الدولة الكينية بالبحث عن بدائل جديدة خلاف إغلاق المخيم الذي لم تعرف أجيال كاملة موطنًا غيره في ظل استمرار حالة الحرب والتمرد في بلدانهم.
وبانتظار قرار إغلاق المخيم يواجه هؤلاء اللاجئون مصيرًا مجهولاً وسط مخاوف من اللجوء إلى القوة لإخلاء المخيم. يحدث هذا فيما تخشى البلدان الأوروبية من أن يساهم هذا القرار في اللجوء إلى أوروبا بالتزامن مع موجات الهجرة القادمة من بؤر الصراع.