“لن نسكت عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل”، هذا هو العنوان العريض لتحالف دولي غير مسبوق تشكّل من عدة دول لمحاسبة دولة الاحتلال على انتهاكاتها المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وملاحقة قادتها، وتنسيق التدابير القانونية والدبلوماسية والاقتصادية ضد انتهاكاتها للقانون الدولي.
تحالف “مجموعة لاهاي” يتكون من 9 دول من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكنه خالٍ من أي تواجد لدولة عربية، ما يثير تساؤلًا: هل ستتمكن المجموعة من إحداث تغيير حقيقي، أم ستظل محاولتها مجرد حبر على ورق في ظل استمرار الدعم العسكري والمالي الدولي لـ”إسرائيل”؟
تكتل جديد لمحاسبة “إسرائيل”
تصاعدت الاتهامات لـ”إسرائيل” بارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، بعد المجازر التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين على مدار عام ونصف، والتي تسببت في مقتل عشرات الآلاف، وإصابة عشرات الآلاف الآخرين، وإحداث تدمير هائل في القطاع.
هذه الجرائم أعادت تسليط الضوء على طبيعة الصراع والاتهامات الموجهة لـ”إسرائيل” بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
بدأت ردود الفعل في سبتمبر/ أيلول 2024، عندما أطلق عدد من خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إضافة إلى المقررة الخاصة للأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألباينز، تصريحات تتهم إسرائيل بتنفيذ إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة باستخدام “أسلحة أمريكية وأوروبية”.
This is absolutely the best news that has come from a coalition of policy-makers in a long time.
Let it be justice. Let’s make it real.
And let’s keep growing. https://t.co/6oYsCmovPT
— Francesca Albanese, UN Special Rapporteur oPt (@FranceskAlbs) January 31, 2025
تبعت هذه الخطوة خطوة غير مسبوقة قامت بها جنوب أفريقيا، التي كانت السباقة في رفع اتهامات بالإبادة الجماعية ضد “إسرائيل” في غزة إلى محكمة العدل الدولية في هولندا، استنادًا إلى اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
ومع استمرار إخفاق مؤسسات الحكم العالمية في وقف الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وفقًا لما وصفه مدير عام إدارة العلاقات والتعاون الدولي في جنوب أفريقيا، زين دانجور، لم تفوت هذه الدولة، التي تمثل رأس الحربة الدبلوماسية في السعي للمسائلة القانونية عن الحرب في غزة، فرصة أن تكون جزءًا من تكتل قانوني جديد لملاحقة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهة انتهاكاته بحق الشعب الفلسطيني.
المجموعة التي تقودها جنوب أفريقيا تتألف أيضًا من ممثلين من 8 دول أخرى (ماليزيا وكولومبيا، بالإضافة إلى بوليفيا وكوبا وهندوراس وناميبيا والسنغال وجزر بليز)، وجميعها تعهدت باتخاذ إجراءات ضد “إسرائيل”، وإزالة العقبات التي تحول دون إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وتأتي هذه المبادرة، التي تقول الدول التسع إنها “ولدت من رحم الضرورة”، في وقت حساس حيث يواجه الشعب الفلسطيني التهجير القسري والإبادة الجماعية. ويُعتقد أن ما معدله 100 فلسطيني استشهدوا يوميًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينما تواصل دولة الاحتلال سياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة.
هذه الخطوة غير المسبوقة ضد جرائم دولة الاحتلال نالت تقديرًا من المجلس الوطني الفلسطيني، الذي رحب بها كما لاقت دعمًا من المقاومة الفلسطينية، التي اعتبرتها “مهمة وجوهرية” على المستوى الدولي لإنهاء الاحتلال العنصري.
كما دعت الدول الأخرى للانضمام إلى هذه المبادرة التي ترى فيها التزامًا من المجتمع الدولي بمبادئ العدالة والقانون الدولي، وتعزيزًا للجهود لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
“إسرائيل” في قفص الاتهام
في مؤتمر التأسيس الذي عُقد في مدينة لاهاي الهولندية، في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، واستضافته منظمة التقدم الدولية – وهي منظمة سياسية عالمية تضم نشطاء ومنظمات من مختلف أنحاء العالم – اتهمت المجموعة “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. وقد عبَّر ممثلو الدول الأعضاء عن رفضهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الجرائم الدولية التي ترتكبها “إسرائيل”، مؤكدين ضرورة التحرك الدولي لوقف الانتهاكات.
🔴 We are honoured to release the three historic inaugural commitments of The Hague Group.
Joint Statement from 🇧🇿Belize,🇧🇴Bolivia,🇨🇴Colombia,🇨🇺Cuba,🇭🇳Honduras,🇲🇾Malaysia,🇳🇦 Namibia,🇸🇳 Senegal and 🇿🇦South Africa. pic.twitter.com/brSSgeSoSi
— Progressive International (@ProgIntl) February 1, 2025
وتحت شعار “حماية العدالة”، أطلقت هذه الدول حملة مشتركة تهدف إلى تثبيت القرارات الدولية ومحاسبة الاحتلال على انتهاكاته للقانون الدولي، بالإضافة إلى مناقشة التزامها المشترك بالرد على التهديدات التي واجهت المحاكم الدولية خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وتقول المجموعة المشرفة على الحملة القانونية الجديدة إن تركيزها لن ينحصر على “إسرائيل” ومعاقبتها فقط، بل سيمتد إلى نهجها في التعامل مع قرارات المحكمة الدولية، ومواجهة ما وصفته بـ “التحدي لأوامر محكمة العدل الدولية ومحاولات الكونغرس الأمريكي فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية”.
إلى جانب ملاحقة دولة الاحتلال قانونيًا، حدد التكتل الجديد مجموعة من الإجراءات لقطع العلاقات مع “إسرائيل” وتقييد قدرتها على مواصلة ارتكاب “جرائم الحرب” في غزة.
واتفق الأعضاء على اتخاذ تدابير ملموسة، تشمل تأييد طلبات المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما فيما يتعلق بمذكرات التوقيف الصادرة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الجيش السابق يوآف غالانت على خلفية تورطهم في جرائم حرب وابادة جماعية في قطاع غزة.
كما أعلن ممثلو هذه الدول في لاهاي عن قرارات لافتة تشمل التزامهم بمنع توريد أو نقل الأسلحة والمعدات العسكرية إلى “إسرائيل”، في الحالات التي يثبت فيها وجود خطر من استخدامها في انتهاك القانون الدولي الإنساني أو حقوق الإنسان، أو في ارتكاب جرائم إبادة جماعية.
كما تعهدوا بمنع رسو السفن المحملة بالوقود أو المعدات العسكرية في موانئ دول المجموعة إذا كان هناك خطر واضح من أن تُستخدم هذه الشحنات لدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تنتهك حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
وتستند هذه الأهداف الملموسة إلى قرارات الأمم المتحدة وأوامر المحاكم الدولية. ويتجسد الهدف النهائي للمجموعة في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث دعت دول المجموعة المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات فعالة وملموسة لإنهاء الاحتلال، مشددة على ضرورة التحرك العاجل لبناء حصن منيع للدفاع عن القانون الدولي.
وأشارت المنسقة العامة المشاركة للمنظمة التقدمية الدولية والرئيسة بالإنابة لـ”مجموعة لاهاي”، فارشا جانديكوتا نيلوتلا، إلى أنه كما اتحد المجتمع الدولي ذات يوم لتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عبر ضغوط قانونية ودبلوماسية منسقة، “يجب علينا الآن أن نتحد لفرض تطبيق القانون الدولي وحماية الحق غير القابل للتصرف للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره”.
.@VarshaGandikota “So what is the Hague Group?.. just as the intl community once united to dismantle apartheid in SA, through similarly coordinated legal & diplomatic pressure we must unite to enforce intl law & protect the inalienable right of Palestinians to self determination” pic.twitter.com/KcP7T86Ozs
— Saul Staniforth (@SaulStaniforth) January 31, 2025
خذلان عربي
يُعد تأسيس هذه المجموعة والقرارات والالتزامات التي تعهدت بها مبادرة استثنائية، إذ إنه ولأول مرة يتشكل تحالف دولي يُعلن بشكل واضح أنه سيعمل على محاسبة “إسرائيل” على الجرائم التي ترتكبها.
ومع ذلك، يبدو جليًا أن دول ما يسمى بـ”الجنوب العالمي” هي الوحيدة التي انضمت إلى “مجموعة لاهاي” حتى الآن، وسط غياب الدول العربية، وهو ما قوبل بغضب واستهجان واسعَين، لكن المؤسسون يقولون: “لا ضير، فالباب ما زال مفتوحًا”، ما يشير إلى وجود خطة لتوسيع هذا التحالف وضم دول أخرى لتحقيق أهدافه ضد “إسرائيل”.
ووفقًا للبيان الصادر عن “مجموعة لاهاي”، فإن “العمل الجماعي من خلال التدابير القانونية والدبلوماسية المنسقة على المستويين الوطني والدولي يُعد ضرورة ملحة لدعم مبادئ العدالة والمساواة التي تشكل أساس ميثاق الأمم المتحدة”.
واتخذت الدول المشاركة في “مجموعة لاهاي” بالفعل إجراءات ضد “إسرائيل” لم تتخذها الدول العربية، التي اتسم موقفها بالصمت والخذلان إزاء جرائم الاحتلال والإبادة التي يتعرض لها أهالي غزة. ورغم صرخات الاستغاثة وأنين الجرحى والمعذبين، الذي فاقمه ليس فقط العجز عن وقف القصف الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال، بل أيضًا العجز عن إدخال مساعدات إنسانية عبر معبر رفح.
وانا اقرأ عنوان الخبر #مجموعة_لاهاي ستحاسب #إسرائيل كان في مخيلتي انه معهم دول عربية … عموما عسى الدول التسع تعمل ما لم تفعله الدول العربية التي تضمها مجموعة #جامعة_الدول_العربية
*9 دول تشكل “مجموعة لاهاي” لمحاسبة إسـ..رائـ..يل وإنهاء الاحـ..تلال*https://t.co/cegThG1uML
— علي بن هلال المقبالي (@ALI8ALMAQBALI) February 1, 2025
ورغم تصاعد الأصوات الغاضبة عالميًا، واكتظاظ الشوارع في العواصم الغربية بالمسيرات المنددة بمجازر الاحتلال في غزة، لم تحرك المشاهد التي استثارها أحرار العالم ساكنًا عند أغلب الأنظمة العربية، التي اكتفى بعضها بمؤتمرات إدانة شفهية غير مؤثرة، وساوت في بياناتها بين القاتل والضحية، بين جيش مدجج بأحدث الأسلحة، وبين مقاومة لا تمتلك إلا إرادتها وصواريخ هربتها وطورتها خِسَّة رغم الحصار المطبق، بل لامت الضحية في بعض الأحيان، وشاركت بعض الأنظمة في قمع شعوبها لمنعهم من التعبير عن تضامنهم مع غزة.
وفي انتظار أن تتحرك الحكومات العربية، وصل الأمر إلى تواطؤ وتعاون بعض هذه الأنظمة مع الاحتلال عبر جسور برية وبحرية تم تدشينها على عجل لإنقاذ اقتصاد تل أبيب من أزمته، معتبرة إياها فرصة لتحقيق مغانم سياسية واقتصادية على حساب دماء أهل غزة.
ولم تمنع مشاهد الإبادة أحد المسؤولين العرب من التفاخر بخنق غزة، ولا من إقامة مهرجانات فنية وحفلات غناء ورقص، رغم حالة الاستياء الشعبية من هذه الفعاليات المستفزة، التي أثبتت أن الأنظمة المطبعة أو تلك المنتظَر منها التطبيع مع دولة الاحتلال، بعيدة كل البعد عن مواقف شعوبها.
كذلك لم يتحرك أي مسؤول عربي للرد على تصريحات نتنياهو التي فضحت دعم الأنظمة العربية للانتهاكات التي تحدث في القطاع، بل وصل الأمر إلى حد استقبال دول عربية لسفن تحمل ذخائر للاحتلال، والسماح بمرور سفن حربية إسرائيلية عبر مياهها.
هكذا كان الموقف العربي الرسمي الذي بدا على مسافة بعيدة من مظاهرات الغضب التي خرجت في أكثر من عاصمة ومدينة عربية. موقف رسمي ينتقي كلماته بعناية عند الحديث عن “العملية العسكرية الإسرائيلية”، وكذلك عند الحديث عن المقاومة التي خرجت للتصدي لها، وبقي هذا الموقف في نظر منتقديه دون تحرك فاعل أو موقف قوي حاسم.
وعلى النقيض من الموقف العربي المتخاذل الذي لا يعبر عن احترام لشعوبها، فإن مواقف دول “مجموعة لاهاي” تشهد على دعمها لفلسطين وعدائها لـ”إسرائيل”، فقد تعهدت السنغال بقيادة رئيس الوزراء عثمان سونكو باتخاذ المزيد من “الإجراءات الملموسة” لدعم الحقوق الفلسطينية، بينما أوقفت كولومبيا عمليات شراء الأسلحة من “إسرائيل” وحظرت تصدير الفحم إليها، لأن – كما قال رئيسها غوستافو بيترو – “إسرائيل تستخدمه لصنع قنابل تقتل بها أطفال غزة.”
وفي مايو/أيار الماضي، قطعت كولومبيا العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”، متهمة حكومة نتنياهو بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، كما قطعت كل من بليز وبوليفيا علاقاتهما الدبلوماسية مع “إسرائيل” في ظل الفظائع التي تشهدها غزة.
ردًا على ممارسات “إسرائيل” التي تتجاهل المبادئ الإنسانية الأساسية وتنتهك القانون الدولي، فرضت ماليزيا حظرًا بحريًا على السفن التابعة لـ”إسرائيل” أو المتجهة إليها، ومنعتها من الرسو في أي ميناء ماليزي، كما أنها لا تعترف بـ”إسرائيل”، وتحافظ على علاقات دبلوماسية مع الدول المجاورة التي تشاركها هذا الموقف.
ويقول رئيس وزراء ماليزيا، أنور إبراهيم، إن تشكيل المجموعة يرسل رسالة واضحة مفادها أن “لا دولة فوق القانون، ولن تمر أي جريمة من دون عقاب”.
أما ناميبيا، فقد هاجمت قرار ألمانيا بدعم “إسرائيل” في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، وذكَّر الحزب الحاكم في ناميبيا برلين بالإبادة الجماعية التي مارستها ألمانيا في ناميبيا، معتبرًا أن جرائم “إسرائيل” في غزة تتشابه مع تلك الجرائم.
كما منعت هذه الدولة الواقعة في جنوب غرب أفريقيا سفينة “كاثرين” التي تحمل شحنات عسكرية متجهة إلى “إسرائيل” من الرسو في أحد موانئها تماشيًا مع التزامها بعدم الدعم أو التواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية، وهي السفينة ذاتها المحملة بمواد متفجرة لدولة الاحتلال، والتي سُمح لها باستخدام المياه والموانئ المصرية، والرسو في ميناء الإسكندرية (شمال مصر)، رغم تزايد الضغوط الدولية لمنع وصول السلاح الذي يسهم في الإبادة الجماعية ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة المحاصر.
ومع استمرار تصلب وعداء الموقف العربي الرسمي من نهج المقاومة، تأتي هذه التطورات لتعكس الغضب المتزايد في “الجنوب العالمي” إزاء ما يُنظر إليه على أنه معايير مزدوجة للقوى الغربية عندما يتعلق الأمر بالقانون الدولي.
تحديات إنفاذ القانون الدولي
بخلاف حرب غزة التي فضحت الأنظمة العربية، يأتي هذا التحرك وسط تحديات غير مسبوقة تواجه الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، خاصة في القضايا المتعلقة بالحروب في غزة وأوكرانيا وتهريب البشر عبر البحر الأبيض المتوسط.
وتلفت المقاومة المتزايدة لأحكام القانون الدولي الانتباه إلى مخاوف أوسع بشأن تآكل هذا القانون، فقد أصدر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تقريرًا يحدد الخطوات التي يمكن للدول الأعضاء اتخاذها لضمان امتثال “إسرائيل” للقانون الدولي.
ويشمل التقرير قرارًا غير مسبوق يفيد بأن استمرار وجود “إسرائيل” في الأراضي المحتلة هو “غير قانوني”، وأنه ينبغي عليها إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية “بأسرع ما يمكن” وتقديم تعويضات كاملة عن “أفعالها غير المشروعة دوليًا”.
وقد كُلِّفت سويسرا بعقد مؤتمر حول الصراع في الشرق الأوسط في مارس/آذار المقبل، تحضره الدول الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف، مع التركيز على الالتزام باحترام القانون الإنساني الدولي، وحماية السكان المدنيين، ومسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وقد تتخلله مطالبات بفرض حظر أسلحة على “إسرائيل”. كما سيُعقد مؤتمر آخر في يونيو/حزيران في نيويورك لمناقشة حل الدولتين في المنطقة.
كما طلبت الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية تقديم رأي استشاري عاجل بشأن الالتزامات التي تقع على عاتق “إسرائيل” كقوة احتلال، فيما يتعلق بتقديم الإغاثة الإنسانية. ومع ذلك، فقد ضربت “إسرائيل” بأحكام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية عرض الحائط.
ولا يزال إنفاذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية يشكل تحديًا كبيرًا، فقد أيَّد وزير الخارجية الأمريكي المعين حديثًا، ماركو روبيو، مشروع قانون في الكونغرس يقترح فرض عقوبات على أي أفراد أو كيانات تتعاون مع تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية التي تستهدف الولايات المتحدة أو حلفائها، ما يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى “محاسبة إسرائيل”.
ومن الأمور التي تثير قلق المحكمة الجنائية الدولية هو تآكل سلطتها في أماكن متفرقة، فقد زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخاضع لأمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، الإمارات والسعودية، وهما – مثل روسيا – ليستا طرفًا في نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، في حين رفضت منغوليا الموقعة على النظام طلبين من المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال بوتين عندما زارها في أغسطس/آب الماضي، وزعمت أنه يتمتع بالحصانة.
وفي حالة نتنياهو، انقسمت الدول الأوروبية بشدة حول ما إذا كانت ستتصرف بناءً على مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث أصرَّت بعض الدول، بما في ذلك إيطاليا ورومانيا والمجر، على تجاهل المذكرة إذا دخل أراضيها، بينما سمحت بولندا لنتنياهو بالسفر للاحتفال بالذكرى الثمانين لتحرير “معسكر أوشفيتز”، لكنه في النهاية لم يشارك في الاحتفال خوفًا من اعتقاله.
وفي إيطاليا، شهدنا مؤخرًا تآكلًا آخر لسلطة المحكمة الجنائية الدولية، حيث تحركت الشرطة لاعتقال الجنرال الليبي أسامة نجيم، المعروف أيضًا باسم “المصري”، بناءً على مذكرة اعتقال دولية تتهمه بجرائم حرب وعنف ضد نزلاء سجن معيتيقة بالعاصمة طرابلس. ومع ذلك، قررت السلطات الإيطالية إطلاق سراحه بدلاً من تسليمه إلى المحكمة، ورفضت محكمة الاستئناف المصادقة على الاعتقال “لعدم توافق الإجراءات مع القانون الإيطالي”.
ومن المؤكد أن محكمة العدل الدولية أصبحت معتادة على تجاهل أوامرها، فقد جعلت قضية الإبادة الجماعية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا التحدي الواضح لـ”إسرائيل” للأوامر المؤقتة للمحكمة أكثر وضوحًا، ورغم ذلك، فإن الأحكام المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني من العام الماضي ألزمت “إسرائيل” باتخاذ تدابير “محدودة” لمنع أعمال الإبادة الجماعية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.
ومع ذلك، أظهر استطلاع جديد لمنظمة “أوكسفام” أن المساعدات المقدمة إلى غزة شهدت تدهورًا ملحوظًا خلال العام الماضي، منذ صدور أوامر محكمة العدل الدولية التي تطالب “إسرائيل” باتخاذ إجراءات فورية لحماية الفلسطينيين في غزة من أعمال الإبادة الجماعية وخطر المجاعة، وقد أدت الأزمة الإنسانية المستمرة، إلى جانب عدم امتثال “إسرائيل” الواضح لتلك الأوامر، إلى تصاعد الدعوات من قبل المجتمع الدولي للضغط على آليات إنفاذ دولية.
وفي ضوء ما دأبت عليه “إسرائيل” من انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، قد تبدو هذه الخطوة مجرد إجراء صغير في سياق دولي معقد. ومع ذلك، من الواضح أنها تشكل مسمارًا آخر في جدار الدعم، أو حتى الصمت الذي لطالما استفادت منه “إسرائيل”، في ظل التواطؤ الواضح الذي يصدح به المتخاذلون عبر شاشات التلفاز وعتبات تطبيعهم مع الاحتلال، لكن المؤكد أن هذه الخطوة ستكون لها تبعات كبيرة في المستقبل، كما يؤكد المؤسسون.