صوتٌ ضخم هزّ أرجاء مدينة جنين ووصل صداه إلى قراها، سبقه تحذيرات من جيش الاحتلال إلى مستوطنيه في المستوطنات المتبعثرة القريبة من المدينة وللمستوطنين داخل الأراضي المحتلة على 1948، التي يفصلها بضع أمتار عن جنين، قال فيه تحذير: “لا تقلقوا من صوتِ الانفجار الذي ستسمعونه بعد قليل، إنه نحن، نفجِّر جنين.”
في اليوم الثالث عشر من العملية العسكرية التي أطلق عليها الاحتلال اسم “السور الحديدي” في مدينة ومخيم جنين شمال الضفة الغربية، فجر جيش الاحتلال الإسرائيلي قرابة 20 بناية سكنية في القسم الشرقي من المخيم بشكل متزامن، وهو ما يشمل عدة شقق سكنية في كل بناية، في تفجير هو الأكبر منذ اجتياح مخيم جنين عام 2002، وعملية “السور الواقي” حينها.
في صباح ذلك اليوم، مدّ جيش الاحتلال أسلاك في مربعات سكنية في عدة حارات من المخيم، وبحلول الساعة الثالثة والربع، هزت الانفجارات المتتالية والعنيفة عموم مدينة جنين وأجزاء من البلدات المحيطة بها، كان يمكن للاحتلال أن يفتشها ويتأكد من عدم وجود ما يهدده، بما أنه موجود هناك، لكنه أراد النسف وسيلة لتحقيق هدفين أساسيين، مرتبطين ببعضهما: بث الخوف في حاضنة المدينة الشعبية، وإعادة هندسة المخيم ديموغرافيًا وجغرافيًا على غرار عام 2002 البعيدة، وإبادة غزة القريبة.
استنساخ تجربة السور الواقي
يحاول الاحتلال إعادة هندسة مخيمات الضفة الغربية مدنيًا واجتماعيًا، وذلك بالتزامن مع تصاعد عمليات المقاومة التي تتخذ من هذه المخيمات حاضنة لها، ويسعى من خلال إعادة الهندسة إلى تغيير معالم المنطقة وإحداث تغيير جذري في الخريطة السياسية والجغرافية للضفة الغربية، بما يتماشى مع مفهومه الأمني.
بين 3 – 18 أبريل/ نيسان 2002، اجتاح الاحتلال مخيم جنين، بمشاركة مروحيات وعشرات الدبابات والجرافات، وبحسب تقرير للأمم المتحدة، قتل جيش الاحتلال في العملية ما لا يقل عن 52 فلسطينيا، نصفهم تقريبا من المدنيين، في حين قُتل 23 جنديا إسرائيليا.
يشير التقرير الأممي إلى ان اجتياح جنين حينها، كان على مرحلتين بمرحلتين مستقلتين: الأولى كانت بين 3 و9 أبريل، في حين استغرقت المرحلة الثانية يومي 10 و11 من الشهر نفسه، ومعظم الشهداء ارتقوا في المرحلة الأولى كما قتل جنود الاحتلال في هذه المرحلة، في حين أن معظم الأضرار المادية حدثت في المرحلة الثانية.
وخلال الاجتياح، دمّر الاحتلال 10 في المئة من المخيم تدميراً كاملاً، ودُكّت مباني وسط مخيم اللاجئين وسويت بالأرض، وبلغ قُطر المنطقة المستهدفة حوالي 200 متر، ومساحتها السطحية 30 ألف متر مربع، كانت تضم حوالي 100 مبنى دمرت تدميراً كاملاً، كما تضرر 100 مبنى بشكل جزئي، في حين فقدت 800 أسرة يقدر عدد أفرادها بأكثر من 4 آلاف شخص، المأوى.
خلال عامين: إعادة هندسة المخيمات متواصلة في الضفة
منذ يوليو\تموز 2023، ومع أول اجتياح حقيقي للمخيم منذ عام 2002، واستمر خلاله لمدة يومين، أعاد الاحتلال استحضار هندسة المخيمات بطريقة أكثر وضوحًا، من خلال تجريف واسع لشوارع المدينة وأزقة مخيمها، وتفجير البيوت، كما لجأ في اقتحامه مخيم جنين في أغسطس\آب 2024، إلى اعتماد تكتيك “السير عبر الجدران” بحفر فتحات في جدران البيوت والسير خلالها، للتنقل بين المنازل بمخيم جنين، وذلك لتجنب استخدام الشوارع والأزقة حيث تتواجد فصائل المقاومة، واستنسخ التجربة في طولكرم خلال اقتحام المخيمات أيضًا.
ففي مخيم نور شمس، في طولكرم، جرّف الاحتلال طرقات المخيم بشكل كامل في أغسطس\آب 2024، في عملية المخيمات الصيفية التي أطلقها أيضًا سعيًا للقضاء على المقاومة في المخيمات، وتقليب الحاضنة الشعبية عليها، فضلًا عن دفع أهل المخيم للنزوح.
وبعد أن انسحب الاحتلال من المخيمات خلال تلك العملية في سبتمبر\أيلول 2024، انسدل الستار عن دمار غير مسبوق في طولكرم، حيث ركز الاحتلال على حرق المنازل، منها 8 منازل بشكل كامل ومتعمّد، عدا عن تدمير كل شوارع المخيم بلا استثناء، وشبكات الصرف الصحي والمياه.
فضلًا عن ذلك، ومنذ السابع من أكتوبر، دمّر الاحتلال 300 بيتٍ بشكل كامل في مخيم نور شمس بمدينة طولكرم تدميرًا كاملًا، هذا المخيم الذي حافظ على هندسة مكانه الأصلية وتوزيع بنائه منذ إنشائه بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، حتى البيوت التي بنيت حديثًا، أسست على الهيكل القديم للمخيم، ما ترك المخيم محافظًا على أزقته الضيقة التي تعيق تقدم الاحتلال بريًا فيها.
وخلال عملية السور الحديدي في مدينة جنين، والمستمرة في أسبوعها الثالث لحظة كتابة هذا التقرير، تعيش 4 مستشفيات في المدينة دون مياه بس تدمير الاحتلال لشبكات المياه العامة، فيما تعيش قرابة 35% من أحياء مدينة جنين دون مياه منذ أيام، وفق، رئيس بلدية جنين محمد جرار.
كما هجر الاحتلال 15 ألف نازح من المخيم وحي الهدف، ودمّر أكثر من 100 منزل تم تدميرها بشكل كلي في المخيم ومحيطه، إضافة لتدمير الكثير من المنازل بشكلٍ جزئي بالحرق او بالقصف او بالجرافات العسكرية في المخيم وأحياء: الجابريات، جبل أبو ظهير، الزهراء.
من غزة إلى الضفة: لماذا إعادة الهندسة؟
خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، والتي استمرت لـ 15 شهرًا، كثّف الاحتلال الإسرائيلي من عمليات نسف المربعات السكنية في قطاع غزة، لا سيما خلال العمليات البرية التي تنفذها قواته المتوغلة في عدة مناطق، ما يحوّل الكثير من الأحياء السكنية والتجمعات إلى صحاري قاحلة وأكوام من الركام.
يطمح الاحتلال من خلال هذا الأسلوب العسكري إلى إعادة تحويل الشكل الديمغرافي والجغرافي للمنطقة ومنع المقاومة من إعادة التجمع في نطاق جغرافي متقارب، وهو ما عبّر عنه الاحتلال علنيًا في حرب غزة، وأعاد قائد لواء منشية بجيش الاحتلال “لواء طولكرم وجنين” تأكيده خلال عملية السور الحديدي في جنين بالقول: “نريد إعادة تشكيل المنطقة”.
عمليات النسف، سواء في شمال الضفة الغربية أو التي استخدمها في قطاع غزة ترتبط ببعدين أولهما إعادة بناء الحياة لاحقاً كما يريد الاحتلال الإسرائيلي، والأمر الثاني إطالة أي عملية إعادة إعمار أو مواجهة مستقبلية فرصة مستبعدة في المدى القريبة، وتأليب الحاضنة الشعبية على مقاومتها، خاصة في المخيمات المكتظة بالسكان والمباني المتلاصقة، حيث يواجه الاحتلال أحد مشاكله الأساسية خلال عملياته العسكرية البرية.
استيطانيًا، تأتي عمليات الهدم والتدمير ونسف البيوت ضمن سياق سياسي يستهدف إحداث تغيير في بنية الضفة الاجتماعية والديمغرافية، مع دفع تيارات واسعة داخل اليمين الإسرائيلي بقوة نحو إعادة الاستيطان وتهجير فلسطينيي الضفة، وفي الأشهر الأخير تصبح عملية إعادة هندسة الضفة أوضح، خاصةً مع إشراف وزير مالية الاحتلال وأحد وجوه الاستيطان في الضفة بتسلئيل سموترتيش بشكل مباشر في القضايا الاستيطانية عبر السيطرة على الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية من خلال تعيين نائبٍ له مهمّته ملاحقة البناء الفلسطيني في المناطق المصنّفة “ج”، إضافة إلى تركيزه على رفع الميزانية المالية للمشاريع الاستيطانية منذ نحو العام حتى وصلت إلى 7 مليارات شيكل (نحو مليار و851 مليون دولار).
كما غيّر سموتريتش من الإجراءات القانونية المرتبطة بالموافقة على المشاريع الاستيطانية ومراحل التخطيط والتنفيذ لها، ما انعكس على سهولة تنفيذ مخططات استيطانية بوتيرة أسرع، خصوصاً في مشاريع شقّ وتوسعة الطرق وتطوير البنى التحتية وبناء المناطق الاقتصادية الصناعية الاستيطانية، وتوسعة المستوطنات من دون المضي في الإجراءات والأذونات القانونية الداخلية.
تكشف العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنين وغيرها من مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة عن نمط واضح من السياسات التي تتجاوز الأهداف الأمنية المباشرة إلى استراتيجيات أعمق تهدف لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني، من خلال تكتيكات الهدم الممنهج، والتهجير القسري، وتوسيع الاستيطان، يسعى الاحتلال لفرض واقع جديد يخدم مصالحه الاستراتيجية، مع أنه فشل سابقًا في تحقيق هذا الهدف في اجتياح جنين عام 2002، وإبادة غزة لمدة 15 شهرًا.