ترجمة وتحرير: نون بوست
في حال أردتَ إلقاء نظرة فاحصة على مستقبل الحروب، ما عليك سوى إمعان النظر في الحرب التي تدور رحاها في اليمن. ويرجع ذلك بالأساس إلى شن الحوثيين المتمركزين في شمال البلاد لعدة معارك ضد الجيوش الإماراتية والسعودية الممولة ببذخ والصمود أمامها. ولقد أثبت الحوثيون قدرتهم على إطلاق هجماتهم في عقر دار السعوديين، وهو ما يطرح تساؤلا مهما حول كيفية تمكن هذه الجماعة المتمردة المجهزة بشكل غير كاف من القيام بذلك، وما هو معنى ذلك بالنسبة للولايات المتحدة التي تواصل استثمار مئات المليارات من الدولارات في أنظمة الأسلحة المعقدة والمكلفة والضعيفة؟
في المقام الأول، يمكن القول إن الحوثيين قد استوعبوا القواعد العلمية المتعلقة بالتمرد. وفي تقرير كتبه سنة 1920، قال توماس إدوارد لورنس إن المتمردين سيكونون منتصرين إذا فهموا وطبقوا مجموعة من “العوامل الرياضية العلمية”، والتي تتمثل في التحرك والقوة الأمنية واحترام ومراعاة السكان المحليين. والجدير بالذكر أن الحوثيين قد صقلوا وطبقوا العوامل الثلاثة المذكورة وفق درجة معينة خلال العقد الماضي.
تخلو العاصمة صنعاء التي يقطنها حوالي خمسة مليون ساكن من الجريمة أو أي وجود لعناصر تنظيم القاعدة، كما أن بعض الخدمات الرئيسية تقدم بشكل عادي على الرغم من الحصار الجوي المفروض منذ أربع سنوات والقصف الجوي المستمر وعدم توفر الكهرباء
تعتبر قوات الحوثيين صغيرة الحجم وكثيرة التحرك، وعند دمج هذه الخاصية مع التضاريس اليمنية التي تزخر بالجبال، يوفر لهم ذلك تغطية أمنية جيدة. والأهم من ذلك أنهم قد احترموا السكان المحليين رفقة شركائهم في الجزء الجنوبي من البلاد على الأقل، وذلك بفضل مستويات الأمن العالية وقدرتهم الجيدة على التنبؤ.
ونتيجة لذلك، تخلو العاصمة صنعاء التي يقطنها حوالي خمسة مليون ساكن من الجريمة أو أي وجود لعناصر تنظيم القاعدة، كما أن بعض الخدمات الرئيسية تقدم بشكل عادي على الرغم من الحصار الجوي المفروض منذ أربع سنوات والقصف الجوي المستمر وعدم توفر الكهرباء. وبحكم الضرورة، تعتبر صنعاء أول عاصمة تعتمد بشكل شبه كامل على الطاقة الشمسية. على الرغم من ذلك، لا يمكن القول إن الحوثيين وحلفائهم ليسوا متهمين بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان واقتراف جرائم حرب. ففي نهاية المطاف، ارتكبت جميع الأطراف المشاركة في الحرب اليمنية انتهاكات من هذا القبيل.
ثانيا، تبنى الحوثيون استخدام الطائرات المسيَّرة بحماس، وذلك في الوقت الذي لم يمتلكوا خلاله أي وسائل دفاعية ثابتة ضد الطائرات السعودية والإماراتية التي سيطرت على المجال الجوي اليمني منذ أربع سنوات، ناهيك عن كونهم لا يمتلكون سلاحا جويا. ومع ذلك، استخدم الحوثيون طائرات مسيرة زهيدة الثمن وسهلة الصنع نسبياً وأشرفوا على عمليات مراقبة جوية وشنوا العديد من الهجمات على أهداف متفرقة، على غرار عدة مناطق في المملكة العربية السعودية. في واقع الأمر، لعبت الطائرات المسيرة دورا كبيرا في تغيير قواعد اللعبة في الحرب اليمنية حتى أكثر من الصواريخ التي يطلقونها بأنفسهم بعد تصنيعها، كما أُدمِجت بشكل فعال في القوات الفعلية والمتنقلة للحوثيين.
بغض النظر عن تقنيات الذكاء الاصطناعي التي قد تجعلها مستقلة كليا وتدار بشكل فردي، إلا أن الطائرات دون طيار تعتبر التقنيات العسكرية الأكثر اضطرابا حتى الآن
من جهتهما، شعرت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالعجز أمام استخدام الحوثيين للطائرات دون طيار وعانت بشكل كبير للدفاع عن قواتهم الوكلاء الذين يقاتلون إلى جانبهم. ولم يكن ذلك كافيا بالنسبة للحوثيين، الذين استخدموا هذه الطائرات في البحر لمهاجمة السفن والطائرات المسيرة الأخرى التي تستخدم لإرشاد نيران المدافع والصواريخ، فضلا عن شن هجمات على نظام باتريوت للدفاع الصاروخي أمريكي الصنع والتشويش عليه واستهداف ضباط نافذين في أحد العروض العسكرية.
بغض النظر عن تقنيات الذكاء الاصطناعي التي قد تجعلها مستقلة كليا وتدار بشكل فردي، إلا أن الطائرات دون طيار تعتبر التقنيات العسكرية الأكثر اضطرابا حتى الآن. وتعتبر هذه التكنولوجيا رخيصة الثمن وقادرة على التخفي، كما أنها تتطور وفق نسق تصاعدي سيبلغ أوجه في أيدي الجماعات المتمردة الملتزمة ذات الأفكار الإبداعية. وفي هذا الصدد، كانت إيران أولى الدول التي أقرت بجدوى هذه التكنولوجيا، حيث قامت بتزويد حليفها حزب الله بهذه الطائرات في السابق. ورأت طهران في الحوثيين فرصة مماثلة، فلقد كانوا جماعة متمردة تجيد تطبيق العوامل الرياضية العلمية وفي وضع يسمح لها بمواجهة خصوم إيران الإقليميين.
على الرغم من وجود العديد من الادعاءات والادعاءات المضادة من قبل مختلف الحكومات وأجهزة الاستخبارات حول مساعدة إيران للحوثيين خلال أول سنتين من الحرب التي قادتها السعودية والإمارات في اليمن، إلا أن هذه المساعدة كانت محدودة. ولطالما كانت العلاقة بين طهران والقادة الحوثيين صعبة في الكثير من الأحيان.
قدّمت الولايات المتحدة ما بين 2000 و 2500 صاروخ للمجاهدين بين سنة 1986 و سنة الانسحاب السوفيتي في 1989
مع ذلك، قدّمت إيران للحوثيين المشورة الفنية وبعض القطع الرئيسية للطائرات دون طيار والقذائف على امتداد السنتين الماضيتين. وعلى الرغم من حدّة المزاج التي يعرف به العديد من القادة الحوثيين، إلا أن ذلك لن يمنعهم من استغلال فرصة إعاقة السعودية والإمارات العربية المتحدة.
في الواقع، درست أجهزة الاستخبارات الإيرانية الهائلة التكتيكات الأمريكية عن كثب خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان. خلال أوائل الثمانينات، كانت المساعدات الأمريكية المقدّمة للمجاهدين محدودة، ونتيجة لذلك، تعيّن عليهم الكفاح لتحقيق مكاسب ثابتة ضد السوفييت، الذين استخدموا طائرات الهليكوبتر الهجومية لاستهداف وتفكيك تجمّعات المقاتلين.
في المقابل، تغيّر هذا الوضع بعد إعتماد نظام الدفاع الجوي المحمول “ستينغر”. وفي النهاية، قدّمت الولايات المتحدة ما بين 2000 و 2500 صاروخ للمجاهدين بين سنة 1986 و سنة الانسحاب السوفيتي في 1989. وفي حين أن البعض يبالغ في الاعتقاد أن “ستينغر” كان له دور في القرار الذي اتخذه السوفييت والمتمثّل في الانسحاب من أفغانستان، إلا أنه ساعد بلا شك في تسريع هذه العمليّة.
اعتمدت إيران في تعاملها مع الحوثيين على الحسابات ذاتها التي أجرتها الولايات المتحدة مع المجاهدين. وفي هذا السياق، شاهدت إيران ارتكاب اثنين من خصومها الإقليميين الخطأ المتمثّل في التدخل في حرب أهلية معقدة وفوضويّة في بلد شبيه بتضاريس أفغانستان. ومثلما فعل الأمركيون في السنوات الأولى من الاحتلال السوفييتي، قدّم الإيرانيون في البداية قدرا محدودا من المساعدات المالية. وما إن أثبت الحوثيون مدى قوّتهم، وكرّس السعوديون والإماراتيون أنفسهم بشكل كامل للحرب، زاد الإيرانيون من حجم مساعدتهم.
تشير الحرب في اليمن إلى أنه من الممكن مستقبلا أن تقِلّ فعاليّة أنظمة الأسلحة المعقدة للغاية التي تشتريها الولايات المتحدة بناء على طلب مجمعها الصناعي العسكري
على عكس المليارات التي أنفقتها كل من السعودية والإمارات، زوّد الإيرانيون الحوثيين بطائرات دون طيار ذات تقنية رخيصة ومعطّلة مقابل ملايين الدولارات فقط. ولكن على عكس نظام صواريخ ستينغر المعقد الذي لا يمكن تصنيعه من قبل العصابات، فإن الطائرات دون طيار بسيطة الصنع نسبيًا. وبناء على ذلك، يمكن تصميمها وبنائها وتعديلها من قبل الجماعات المتمردة، خاصة تلك التي تحظى بقوّة شبيهة بقوّة الحوثيين، والمتحالفة مع عديد العناصر التي كانت طرفا في ما كان يعرف بالجيش اليمني.
يعرض الحوثيون قوّتهم من خلال طائراتهم دون طيار، التي تستند إلى التصميمات الإيرانية والمعدلة والمصممة من أجل تلبية متطلباتهم الدقيقة. وفي ظلّ ظهور الطباعة ثلاثية الأبعاد، سيصبح من السهل على الجهات الفاعلة غير الحكومية تصنيع طائرات دون طيار متطورة من شأنها أن تنتشر في العديد من ميادين المعارك. وستتمكّن الدول التي تدعم هذه الجهات من تزويدهم بهذه الطائرات دون الحاجة إلى شحنها أو تهريبها. وبكل بساطة، سيكتفون بإرسال ملف إلكتروني يضمّ البرامج التي ستسيّر الطابعات ثلاثية الأبعاد والطائرات دون طيار.
تشير الحرب في اليمن إلى أنه من الممكن مستقبلا أن تقِلّ فعاليّة أنظمة الأسلحة المعقدة للغاية التي تشتريها الولايات المتحدة بناء على طلب مجمعها الصناعي العسكري. وفي هذا شأن، تجدر الإشارة إلى كلمات الطيار المقاتل والمصلح والاستراتيجي العسكري الضابط جون بويد، الذي قال: “كل من يستطيع التعامل مع أسرع نسق تغيّر هو الذي سيتمكّن من النجاة”. وفي الواقع، تحظى مجموعات المتمردين الناجحة بفهم فطري لهذا الوضع.
علاوة على ذلك، سيكون من الأفضل لصانعي السياسة في الولايات المتحدة أن ينظروا عن كثب للطريقة التي أحبط بها الحوثيون كل من الإمارات والسعودية، بفضل المساعدة الإيرانية الضئيلة التي كانت استراتيجية في المقابل. وفي الواقع، تركّز الولايات المتحدة باستمرار على إنفاق مئات مليارات الدولارات على أنظمة الأسلحة مثل إف-35، فتجد نفسها غير مستعدة للتعامل مع عالم تكون فيه الطائرات دون طيار الرخيصة وسهلة الصنع قادرة على إحباط وحتى هزيمة الجيوش الأفضل تجهيزا، وذلك بمساعدة مجموعات متمردة تطبّق قوانين التمرّد.
المصدر: ذي أمريكان كونسرفاتيف