يقول المثل الشعبي الصيني: “لا يمكن لثروة أن تنجو عبر ثلاثة أجيال”، فهل تنطبق هذه المقولة على ثقافة الموطن الأصلي للمهاجرين أيضًا؟ وكيف يمكن للمهاجرين غرس ثقافة بلدهم الأم في أطفالهم من دون زيارات سنوية للوطن أو علاقات اجتماعية قوية مع أفراد الأسرة الممتدة والبعيدة بطبيعة الحال؟
تمثل الهجرة إلى بلد جديد سلسلة من التحديات لكل فرد من أفراد الأسرة من صغيرها حتى كبيرها، بحيث تفرض تجربة الهجرة على الأشخاص الذين اختاروا موطنًا جديدًا لهم إعادة تشكيل حياتهم، تاركين وراءهم تفاصيل ماضٍ مألوف، ليكتشفوا مستقبل جديد يحتم عليهم التكيف معه بما يحويه من فرص، ورغم أن أكبر التحديات – وهو الهم المادي – يقع عادةً على عاتق رب الأسرة، فإن تجربة الهجرة لها تأثيرها الخاص على الجميع بما في ذلك الأطفال الصغار، وذلك نظرًا لأن المرحلة الأولى لتشكل هوية الطفل حرجة بطبيعتها.
تعدد الهوية
يشكل المسلمون أقلية سكانية في الغرب عمومًا، حيث تقدر نسبتهم في أوروبا بنحو الـ5%.
تكمن مشكلة الجيل الثاني فيما يتعلق بتشكيل هويتهم بأنهم على اتصال بثقافة موطنهم الأصلي عبر احتكاكهم بالجيل الأول، بالإضافة إلى اتصالهم بالبيئة المختلفة التي يعيشون بها
تتعرض الأقليات إلى خطر فقدان ثقافتها أكثر ممن ينتمون إلى الأكثرية، وفي حين يشعر أفراد الجيل الأول من المهاجرين بالانتماء الكامل إلى بلدهم الأم، يشعر العديد من أبناء المهاجرين ممن يقعون ضمن تصنيف (الجيل الثاني) بالضياع بين هويتين في بعض الأحيان. ومصطلح الجيل الثاني هو مصطلح أكاديمي للإشارة إلى أبناء المهاجرين ممن ولدوا في البلد المضيف، إلا أن آباءهم لم يولدوا فيه، أما الجيل الثالث فهم من ولدوا هم وكلا أبويهم في البلد المضيف، كما يستخدم وصف الجيل الثاني أحيانًا للإشارة إلى أطفال المهاجرين من الجيل الأول الذي لم يولدوا في البلد المضيف إلا أنهم وصلوا بعمر صغير جدًا.
وتكمن مشكلة الجيل الثاني فيما يتعلق بتشكيل هويتهم بأنهم على اتصال بثقافة موطنهم الأصلي عبر احتكاكهم بالجيل الأول، بالإضافة إلى اتصالهم بالبيئة المختلفة التي يعيشون بها، حيث يقع على عاتق أفراد الجيل الثاني فهم عادات وتقاليد وطن أبويهم والاحتفاظ بتراث في غالب الأحيان لم يشهدوه من قبل ولا يمارسه جميع أقرانهم في المدرسة، بالإضافة إلى فهم ثقافة البلد المضيف الذي ولدوا فيه، التي يجدونها منطقية أكثر غالبًا بسبب تعودهم عليها، ومن ثم عليهم محاولة المطابقة بين العالمين المختلفين بوتيرة يومية.
الهوية الاجتماعية
وفي خضم صراع الهوية الذي يعيشه الكثير من أبناء المهاجرين، يقف هذا الجيل مرارًا وهو حائر بين الخطأ والصواب، الذي من المفترض أن تمليه عليه منظومة من القيم والأعراف تحددها هوية اجتماعية تتبع لتجمع بشري ما. والهوية الاجتماعية هي مصطلح طوره علم الاجتماع ليصف جزءًا من إحساس الفرد بنفسه وتصوره عن ذاته بناءً على الثقافة أو المجموعة البشرية التي ينتمي إليها.
رغم محاولة أبناء المهاجرين مجاملة آبائهم والخضوع لمتطلباتهم قدر الإمكان، فإن هذا لا ينفي الرغبة القوية لدى الكثير منهم بالانتماء إلى ثقافة البلد الذي استضاف آبائهم
في دراسة كندية أجريت على اليافعين، يقع الصراع بين الثقافتين اللتين يحملهما أبناء المهاجرين عندما يتعارض العرف الاجتماعي بين ثقافة البلد الذي يعيشون به مع ثقافة الآباء في موقف ما، ويقع الخلاف عادة إما مع الأهل أو الأصدقاء. ولحل هذه المعضلة يلجأ أبناء المهاجرين الممزقين بين حضارتين إلى تطوير آلية اجتماعية تساعدهم على إدارة حياتهم، حيث يركز الجيل الثاني على الرجوع إلى أعراف حضارة واحدة يختارونها حسب الموقف والمكان. فعلي سبيل المثال، يتصرف الأولاد كما تقتضي ثقافة أبويهم في المنزل ومع عائلتهم، ويتصرفون بصورة أقرب إلى أعراف البلد المضيف في المدرسة ومع أصدقائهم.
المنزل.. منطقة حرب
رغم محاولة أبناء المهاجرين مجاملة آبائهم والخضوع لمتطلباتهم قدر الإمكان، فإن هذا لا ينفي الرغبة القوية لدى الكثير منهم بالانتماء إلى ثقافة البلد الذي استضاف آبائهم، أو بعبارة أخرى الانتماء إلى “وطنهم”، فهم يحملون جنسيته بطبيعة الحال، وقد تشكلت معظم تصوراتهم عن العالم الخارجي في مراحل الطفولة الأولى فيه، بالإضافة إلى تحدثهم لغته بطلاقة أكبر من اللغة الأخرى التي تلقوها في المنزل وتعتبر لغة ثانية. هذه الرغبة القوية بالانتماء إلى مجتمع غير مجتمع الآباء والعائلة الممتدة، التي يجادل البعض بأنها محقة تمامًا، تشعل فتيل الخلاف بين الأهالي والأبناء.
إضافة إلى ذلك، هنالك نوع من أنواع الضغط الاجتماعي الذي يمارس على اليافعين خصوصًا في المدرسة وخلال مرحلة المراهقة ليثبتوا أنهم “أوروبيون” أو “أمريكيون” أو أيًا كانت جنسية البلد المضيف قدر الإمكان، مما يدفع هؤلاء اليافعين إلى المبالغة بإظهار هويتهم الغربية على حساب هويتهم الأم، حتى يستطيعوا إثبات أنهم غربيون بما فيه الكفاية.
هبة غنيم مهاجرة سورية تقيم في كندا منذ ثلاث سنوات وأم لثلاثة أطفال (9-11-12 سنة)، تؤكد أنها تلاحظ تغيرات كبيرة بسلوك أطفالها وإحساسهم بهويتهم بعد عدة سنين من إقامتهم في كندا
على الجهة المقابلة الأهالي الذين يرفضون ذلك بمعظم الأحيان، ليتحول المنزل إلى ساحة حرب، ويتحول كل لقاء بين الأولاد وآبائهم إلى مناظرة ثقافية.
هبة غنيم مهاجرة سورية تقيم في كندا منذ ثلاث سنوات وأم لثلاثة أطفال (9-11-12 سنة)، تؤكد أنها تلاحظ تغيرات كبيرة بسلوك أطفالها وإحساسهم بهويتهم بعد عدة سنين من إقامتهم في كندا، فتقول: “عند وصولنا إلى كندا كانوا يتكلمون اللغة العربية بطلاقة، الآن يفضلون التحدث بالإنجليزية طوال الوقت، إلا أنهم مجبرون على تكلم العربية معي، وألاحظ أنهم فقدوا الكثير من مهاراتهم اللغوية، فعندما يحاولون التعبير باللغة العربية يستخدمون تركيبات لغوية ركيكة وغير مفهمومة، لأن هنالك الكثير من المصطلحات التي تعلموها لأول مرة باللغة الإنجليزية، ولم تسنح لهم الفرصة للتعرف على معناها بالعربية بعد”.
وتتابع هبة في حديثها عن أصغر أطفالها ليمار، التي كانت بعمر الست سنوات عند وصولها إلى كندا: “هي أكثر من أخشى عليه من الفقدان الكامل للثقافة العربية والإسلامية، خلال الأشهر والسنة الأولى من إقامتنا في كندا كانت ترفض تناول حتى الحلويات والسكاكر التي تقدم لها قبل التأكد من أنها حلال، رغم سنها الصغيرة جدًا حينها، أما الآن فتحاول إقناعي أحيانًا بتجريب هذا الطعام أو ذاك حتى ولو احتوى لحومًا ليست حلالاً، كما كانت شديدة الخجل، تحاول تقليد طريقة ملابسي وترفض إظهار أي جزء من جسدها، حاليًا بدأنا نخوض الكثير من النقاشات التي تدور حول محاولتها لإقناعي بارتداء الملابس القصيرة جدًا، كما تفعل صديقاتها في المدرسة”.
هبة واحدة من مئات المهاجرين الذين يلجأون إلى تسجيل أطفالهم في المدارس العربية بالإضافة إلى المدارس الحكومية التي يذهبون إليها خلال الأسبوع
أما فيما يتعلق بتحول أطفالها إلى الثقافة الكندية تدريجيًا، بما يشمل جميع تفضيلاتهم، تضيف هبة “حتى الأفلام، الأغاني، الكتب، الألعاب وجميع المواد الإعلامية التي يستهلكونها، معظمها باللغة الإنجليزية، بالنسبة للدين، ما زالوا يحاولون التمسك بتعاليم الدين الإسلامي بشكل جدي، لكنني أشعر أنهم يفعلون ذلك مع إحساسهم بصعوبة هذا الأمر عليهم، أخشى كثيرًا من فقدانهم ثقافتهم العربية والإسلامية، ولذلك أخطط للعودة إلى أي بلد عربي، إلا أنني أشك بأنهم سوف يستطيعون التأقلم مجددًا”.
الحلول التي يلجأ لها الأهالي
هبة واحدة من مئات المهاجرين الذين يلجأون إلى تسجيل أطفالهم في المدارس العربية بالإضافة إلى المدارس الحكومية التي يذهبون إليها خلال الأسبوع، حيث توفر المدارس العربية المنتشرة في البلدان الأجنبية، صفوفًا في مختلف المواد وباللغة العربية، فقط خلال عطلة نهاية الأسبوع.
كما يحرص المسلمون على تسجيل أطفالهم بالبرامج التعليمية المختلفة التي توفرها الجوامع والدور الإسلامية، في محاولة أخرى لتنشئة أطفالهم على العقيدة الإسلامية وجعلها مألوفة بالنسبة لهم.
وتتابع هبة في حديثها إلى نون بوست بشأن تجربتها بتربية أطفالها في كندا: “أحاول خلق صداقات بين أطفالي وأطفال أهالي آخرين من القادمين الجدد إلى كندا، لأنني أعتبرهم أقرب إلى ثقافتنا ممن مضى على وجودهم هنا مدة طويلة، كما أحاول تذكيرهم دائمًا بعاداتنا وتقاليدنا، وأجوائنا وطقوسنا، وأسعى دائمًا إلى الاحتفاظ بعلاقة قوية وتواصل دائم بينهم وبين عائلتي الممتدة في سوريا وغيرها من البلدان العربية”.
يبقى موضوع المستقبل الفكري والثقافي للأطفال من أهم المواضيع الواجب بحثها قبل اتخاذ قرار الهجرة
وتختم هبة حديثها بالكلام عن “منطقة الوسط” التي يلجأ لها معظم الأهالي بعد حروب طويلة مع الأبناء، حيث لا يمكن فرض نمط معيشة مختلف عن أسلوب الحياة الذي يعيشه الأبناء في موطنهم الجديد: “في النهاية يفضل الأطفال ما يشبه بيئتهم الحاليّة والمألوفة بالنسبة لهم”، وتفسر هبة وجهة نظرها فيما يخص محاولة إيجاد أرضية مشتركة للارتكاز عليها مع الأبناء: “لا يمكننا إجبارهم على عيش حياة سورية دون توافر معطياتها في المقام الأول، الحل الوحيد هو محاولة التوفيق بين تعاليم ديننا الإسلامي وما يناسبنا من عادات وأعراف البلد المضيف، إنه الحل الوحيد حتى يكسب جميع الأطراف”.
ويبقى موضوع المستقبل الفكري والثقافي للأطفال من أهم المواضيع الواجب بحثها قبل اتخاذ قرار الهجرة، وذلك بحالة الأشخاص المهتمين بتوريث ثقافتهم بحذافيرها إلى ذريتهم، أما المقيمون في بلاد المغترب، لعل أفضل ما يستطيعون القيام به هو اختيار معاركهم مع أطفالهم، بدلًا من محاولة فرض جميع القواعد التي تربوا عليها على أبنائهم، في مهمة قد تكون مستحيلة في بعض الأحيان.