خلّفت الأمطار الأخيرة التي ساهمت في إتلاف جزء من صابة (محصول) الحبوب في تونس والموجودة في مراكز التجميع وفي الحقول دون حماية، جراء عراقيل على مستوى النقل والتخزين، حالة استياء في صفوف الفلاحين خاصة والمواطنين عامة، الذين وجهوا أصابع الاتهام إلى وزارة الفلاحة (الزراعة) والحكومة بتعميق أزمة الأمن الغذائي في البلاد.
ولم تجد صيحات الفزع التي أطلقها الفلاحون التونسيون في وقت سابق بخصوص ضرورة تخزين المحاصيل وإجلاء صابة الحبوب المكدسة على الأرض، بسبب ضعف طاقة استيعاب مراكز التجميع، آذانًا صاغية من المسؤولين، وتساءل التونسيون كيف لـ”مطمور روما” (تونس إفريقية) كما أطلق عليها الرومان أن تعجز عن تخزين قمحها وتأمين محاصيلها؟
أزمة القمح
انتقد ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، إصرار المسؤولين على إهدار المنتج الوطني من الحبوب والتفريط في ثروة البلاد، معربين عن استنكارهم “للتصريحات الكاذبة” للمسؤولين الذين ادعوا إيجاد الحلول الخاصة بتخزين الحبوب لهذا الموسم، وحل جميع الإشكاليات المتعلقة بإنجاح الموسم الفلاحي.
تداول التونسيون في وقت سابق على فيسبوك مقطع فيديو تمّ تصويره في منطقة بوعرادة بمحافظة سليانة (الشمال الغربي)، حيث تظهر “قناطير” (143 كيلوغرامًا للوحدة) من محصول القمح لهذا العام، ملقاة على الأرض
كان رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بمحافظة الكاف (شمال)، منير العبيدي، أكّد أن الأمطار الأخيرة تسببت في إتلاف كميات كبيرة من الحبوب كانت مخزنة في الهواء الطلق، داعيًا السلطات المسؤولة للتدخل العاجل.
وتداول التونسيون في وقت سابق على فيسبوك مقطع فيديو تم تصويره في منطقة بوعرادة بمحافظة سليانة (الشمال الغربي)، حيث تظهر “قناطير” (143 كيلوغرامًا للوحدة) من محصول القمح لهذا العام، ملقاة على الأرض في ساحة مركز تجميع الحبوب، ومعرضة للإتلاف، مستنكرين إقدام سلطات بلادهم على توريد القمح بينما الإنتاج المحلي وفير، متسائلين عن المستفيد من ذلك، ومشيرين في الآن نفسه إلى طغيان مصلحة الأشخاص على مصلحة البلاد.
تقدر حاجيات التونسيين السنوية للحبوب بنحو 30 مليون قنطار وفق مصادر غير رسمية، فيما تخصص الحكومة سنويًا نحو 600 مليون دينار (200 مليون دولار) لشراء القمح اللين والصلب والشعير العلفي من المزارعين، بحسب ديوان الحبوب (مؤسسة حكومية).
وكان وزير الفلاحة التونسي سمير بالطيب قد أعلن التوقعات الخاصة بصابة الحبوب الوفيرة التي تقارب 24 مليون قنطار، وهي حصيلة قياسية مقارنة بـ2018 المقدرة بـ14.1 مليون قنطار، وقد أشار إلى ضعف طاقة المخازن مقارنة بحجم الإنتاج الوفير هذا العام، التي لا تتعدى ربع الإنتاج.
وأشار الوزير التونسي إلى أن محصول هذه السنة 2019 من الحبوب يمثل أرباحًا متوقعة خلال الفترة المتبقية من هذا العام بنحو 30 مليون يورو، وأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض الواردات من المنتجات الغذائية مع بداية سنة 2020.
يعود هذا العجز إلى تراجع قيمة صادرات زيت الزيتون بنسبة 41.1%، وبنسبة 35.9% من حيث الكميات المُصدرة
وبحسب بيانات المرصد الوطني التونسي للفلاحة، فإن قيمة العجز بلغت في نهاية شهر يوليو الماضي 801.2 مليون دينار (281.122 مليون دولار)، مقابل فائض بقيمة 182.7 مليون دينار (64.105 مليون دولار)، خلال نفس الفترة من العام الماضي.
ويعود هذا العجز إلى تراجع قيمة صادرات زيت الزيتون بنسبة 41.1%، وبنسبة 35.9% من حيث الكميات المُصدرة، إلى جانب الارتفاع الملحوظ في واردات الحبوب التي بلغت نسبتها من إجمالي الواردات الغذائية التونسية خلال الفترة المذكورة 43.7%.
سنابل يوسف
وفي سياقٍ ذي صلة، يرى مراقبون أنّ تونس أُغيثت هذا العام بأمطار غير مسبوقة ساهمت في وفرة الإنتاج والمحاصيل، إلّا أن غياب نموذج اقتصادي متكامل من التخطيط وكيفية مواجهة الأزمات الطارئة قد يُعيق مساعي تحقيق الأمن الغذائي في البلاد، وتقليص كلفة التوريد التي ترهق كاهل ميزانية الدولة وتُعطل عجلة التنمية.
وأكدوا أن أزمة القمح الأخيرة كشفت بشكل جلي سوء إدارة مؤسسات الدولة (وزارة الفلاحة) لأحد أهم الملفات الحيوية (الزراعة) باعتبارها قضية أمن دولة وجب تكريس جميع الآليات والقدرات خدمة لها بدءًا من وسائل نقل المحصول إلى غاية تخزينه داخل مجمعات متطورة وقادرة على استيعاب كميات قياسية.
يرى بعض التونسيين أن أزمة القمح ووفرة المنتج أعادت إلى الآذان قصة يوسف بن يعقوب عليه السلام
إلى ذلك، لا تخلو الدول والمجتمعات من أزمات اقتصادية خانقة من حين إلى آخر، إلا أن حسن تصرف القائمين على الدولة والسياسة الراشدة، تنتهي بإيجاد حلول سواء على المدى القريب أم البعيد، ومنها انتهاج التقشف ومقاومة الفساد واستثمار أيام الرخاء المالي (وفرة المحاصيل أو عائدات التصدير).
ومن هذا الجانب، يرى بعض التونسيين أن أزمة القمح ووفرة المنتج أعادت إلى الآذان قصة يوسف بن يعقوب عليه السلام، حين دُعي لتفسير حلم ملك مصر فأجاب بإرشاد إلهي: {تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}، ويُستخلص منها فن إدارة الأزمات باستخدام جميع الأدوات، ومنها العمل أي الإنتاج والمردودية وحشد جميع الجهود المادية والبشرية لتجاوزها، والاقتصاد في المعيشة والتصرف في الثروة (التخزين والاستفادة منها في أيام القحط والشدة)، ولذلك يمكن أن يؤدي تجاوز الأزمة إلى إعادة صياغة أهداف بديلة واستحداث إستراتيجيات لم تكن قائمة.
وزير” الشاهد”
وعلى عكس يوسف ابن يعقوب، فإن وزير الفلاحة سمير بالطيب الذي جعله رئيس الحكومة يوسف الشاهد، كما يقول التونسيون، على خزائن الأرض، “لم يكن حفيظًا عليمًا”، ولم يتخذ الإجراءات الضرورية والعاجلة لمجابهة الأزمة وحفظ محاصيل قمح بلاده التي تعيش أزمات اقتصادية متتالية ومتعددة الأوجه، مما دفع بناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى إطلاق حملة تحت شعار “ديقاج سمير بالطيب” تُطالبه بالرحيل عن الوزراة.
وصف أنس الشابي أزمة تخزين القمح وتلف جزء منها بـ”الكارثة الوطنية التي تستحق أقصى حكم قضائي على كل مسؤول وفي مقدمتها الحكومة التي لم تحرك ساكنًا منذ أكثر من شهر من التنبيهات”
وقال الإعلامي والباحث التونسي غفران حسيني في تدوينة نشرها على صفحته بموقع فيسبوك: “هل يعرف وزير الفلاحة المستتر هذه الأيام هذا الشقاء؟ لا أعتقد أنه يعرف، نحن في الشمال الغربي لا نقول قمح وشعير نحن نقول “النعمة”، لأننا لا نتعامل مع القمح والشعير تعاملًا مع نبات أو زرع بل مع رحمة إلهية نلمسها بأيدينا كأنها نزلت لتوها من السماء، ما صار في عهدك من اتلاف لمحاصيل القمح والشعير التي يحملها المطر إلى قاع الأودية نتيجة الإهمال فضيحة ستتلى على مسامع الأجيال القادمة لقرون لو كنت تعلم”.
بدوره، طالب يوسف عزديني بمحاكمة الوزير قائلًا: “التهمة الإضرار بالأمن الغذائي عبر اتلاف صابة القمح حيث اعتبرت جريمة إرهابية حسب الفصل 14 (الفقرة 5) من القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب، ومساعدة لوبيات الفساد على مواصلة توريد القمح الفاسد لضرب الإنتاج المحلي”.
أما أنس الشابي فوصف أزمة تخزين القمح وتلف جزء منها بـ”الكارثة الوطنية التي تستحق أقصى حكم قضائي على كل مسؤول وفي مقدمتها الحكومة التي لم تحرك ساكنًا منذ أكثر من شهر من التنبيهات”.
من جانبه، دون رئيس الهيئة السياسية لحزب المؤتمر سمير بن عمر التالي: “بالله وزير يدخل لبيروه (مكتبه) الصباح وهو سكران خيط وما ينجمشي حتى يوصل لبيروه شنوة تستناو منو؟ باش ياقف للفلاحة؟”.
يُذكر أن الوزير التونسي رافقته متلازمة التصريحات الغريبة منذ توليه المنصب، وكان أكثرها انتشارًا في 2017 بخصوص استهلاك التونسيين لزيت الزيتون
وكانت الحرائق التهمت أراضٍ فلاحية (نحو 700 هكتار) بعدد من المحافظات التونسية، وألحقت خسائر فادحة بالقطاع قدرها مراقبون بمليارات الدولارات، وألحقت النيران خسائر فادحة بالمنتجات الزراعية، واتهم التونسيون “بارونات ولوبيات” الفساد بالوقوف وراء استهداف أمنهم القومي، والحكومة ووزارة الفلاحة بالصمت تجاه الإجرام المتعمد.
يُذكر أن الوزير التونسي رافقته متلازمة التصريحات الغريبة منذ توليه المنصب، وكان أكثرها انتشارًا في 2017 بخصوص استهلاك التونسيين لزيت الزيتون، وقال حينها: “الشعب أحببنا أم كرهنا لا يستخدم زيت الزيتونة في الطبخ، وفي ثقافته لا يميل كثيًرا لاستهلاك زيت الزيتون لأن ثقافته للأسف زيت آخر”، مما دفع رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى تداول التدوينة الشهيرة: “البلاد مشهورة بالزيتون وتصدر في الزيت وعندها آلاف الهكتارات، وعندنا جامعة الزيتونة وإذاعة الزيتونة وقناة الزيتونة وبنك الزيتونة والزيتونة الرياضية ومصحة الزيتونة ومغازة الزيتونة وحي الزياتين، وكذلك لطفي زيتون، وعندنا أغنية نزرعك زيتونة في وسط قلبي، والمثل الشعبي الماء لي ماشي للسدرة الزيتونة أولى بيه”.