نبيل شعث هو سياسي فلسطيني بارز، وأستاذٌ جامعي فلسطيني مشهودٌ له بالكفاءة في مجال الإدارة، يعمل حاليًّا كمستشار للرئيس الفلسطيني الحاليّ محمود عباس “أبو مازن”، ورئيسًا لدائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تاريخٍ طويل من العمل السياسي الرسمي في وزارة الخارجية، تقلد خلاله منصب وزير الخارجية.
منذ أن صار سياسيًا ودبلوماسيًا مخضرمًا في الساحة الفلسطينية، اعتاد أن يجسد مشاهد نضال أسرته السياسي والثقافي ضد الاحتلال في كتاباته التي تتناول تطور النضال الفلسطيني “من النكبة إلى الثورة”، بدءًا من رامي وعلي، ابنيه الذين كانا يظنان برتقال غزة ثمارًا من الجنة، وصولًا إلى ابنته رندا التي كانت ترى زيتون الضفة والجليل الأعلى نفحةً ربانية، ولكن يبدو أن شعث سيحكي خلال الفترة القادمة قصة نضال جديدة ومختلفة عن قصص النضال المعتادة في وجه الاحتلال، بطلها هذه المرة ابنه رامي، الذي اعتقلته السلطات المصرية وزجت به في قضيةٍ سياسية كبيرة.
ملابسات الاعتقال
في الواحدة وخمسة وأربعين دقيقة فجر الـ5 من يوليو/تموز الماضي، داهمت قوة مسلحة من رجال الأمن المصري ترتدي ملابس مدنية، منزل رامي شعث، واعتقلته، وصادرت حواسيب إلكترونية وأقراص تخزين رقمية وهواتف خلوية، رافضةً تقديم أي مستند قانوني يبرر عملية المداهمة والاعتقال.
ظل شعث مختفيًا قسريًا لمدة 36 ساعة، قبل أن يظهر في نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة، متهمًا في للقضية رقم 930 لعام 2019 المعروفة بقضية “الأمل”
ثم أصدرت السلطات الأمنية قرارًا بترحيل زوجته الفرنسية التي كانت تقيم معه وشهدت ملابسات الاعتقال، تعسفيًا، دون تقديم أي أسباب أو السماح لها بالتواصل مع القنصلية الفرنسية في مصر قبل ترحيلها، وظل شعث مختفيًا قسريًا لمدة 36 ساعة، قبل أن يظهر في نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة، متهمًا في للقضية رقم 930 لعام 2019 المعروفة بقضية “الأمل”.
على الرغم من ولادته في بيروت عام 1971، يرتبط رامي وعائلته بالقاهرة ارتباطًا وثيقًا، حيث كانت مصر وجهة العائلة ومستقرها بعد أن تركت “يافا” أعقاب النكبة العربية عام 1948، وعمل والده، نبيل، أستاذًا في معهد الإدارة العليا بمصر ومستشارًا للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وحصل خلال هذه الفترة على الجنسية المصرية، ثم عادت العائلة إلى القاهرة مجددًا بعد أن تركتها لفترة مؤقتة، إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1976 وانسداد أفق العمل السياسي الفلسطيني هناك، لتبدأ رحلة رامي مع مصر مبكرًا في سن السادسة.
نال رامي شهادته العليا في مصر من جامعة القاهرة، وأكمل دراسة “الماجستير” في “Kings College” بجامعة لندن عام 1995، وقد تركزت جهوده خلال هذه الفترة على العمل السياسي الرسمي كمستشارٍ للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خلال المباحثات الفلسطينية – الإسرائيلية، الساعية لإيجاد صيغةٍ تفاهمية يحصل بموجبها الفلسطينيون على حقوقهم السياسية المشروعة عبر المفاوضات السلمية.
استغلالًا لمناخ الحريات الذي أفرزته الثورة المصرية، شارك شعث في تأسيس عدة ائتلافات وأحزاب سياسية كان على رأسها حزب الدستور ذي الميول اليسارية الليبرالية، الذي ترأس رامي أمانته العامة
وبعد فشل هذه الجهود، اعتزل رامي العمل السياسي الرسمي وعاد إلى مصر ليباشر العمل بأنشطةٍ اقتصادية شخصية ويتفرغ للنضال السياسي الشعبي والإغاثي لدعم قضية بلاده، فأشرف على جهود جمعية “دعم غزة”، أعقاب العدوان “الإسرائيلي” على القطاع عام 2008 (عملية “الرصاص المصبوب” كما يسميها جيش الاحتلال – “الفرقان” كما تسميها فصائل المقاومة) من خلال توفير مقر للجمعية بالقاهرة، ومتطوعين لإدارة التبرعات العينية، فأسفرت هذه الجهود عن تسيير قافلة إغاثية ضخمة محملة بالمواد الغذائية والأغطية والمستلزمات الطبية الأولية من القاهرة إلى غزة.
وفي وقتٍ لاحق، انخرط رامي – الذي يحمل الجنسية المصرية – في الحراك الاجتماعي ضد مساعي التوريث والسياسات الرأسمالية والقمعية التي تبنتها الحكومة المصرية، الذي بلغ ذروته في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، حيث كان رامي أحد المشاركين والداعمين لهذا الحراك.
واستغلالًا لمناخ الحريات الذي أفرزته الثورة المصرية، شارك شعث في تأسيس عدة ائتلافات وأحزاب سياسية كان على رأسها حزب الدستور ذي الميول اليسارية الليبرالية، الذي ترأس رامي أمانته العامة، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح بعد أحداث الـ3 من يوليو/ تموز 2013 التي انتهت بإطاحة الجيش بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي وإغلاق المجال السياسي في مصر، فقرر رامي الانخراط في نشاط نضالي داعمٍ للقضية الفلسطينية عبر المساهمة في تأسيس الفرع المصري لحركة مقاطعة “إسرائيل” (BDS Egypt) رفقة زوجته التي تعمل في مجال تدريس اللغة الفرنسية بمصر منذ سبعة أعوام.
خبر اعتقال رامي شعث كان محط اهتمامٍ إعلامي واسع، خاصة من الصحف الفرنسية التي سلطت كبرياتها، لوموند ولوفيجارو، الضوء على بيان أسرته الذي تأخر لأكثر من سبعة أسابيع، وبعض الصحف العالمية، مثل أسوشيتد بريس وبي بي سي العربية
وقبل اعتقاله بأيامٍ قليلة، أعلن شعث رفضه القاطع لصفقة القرن، ومعارضته مشاركة مصر في ورشة المنامة التي عقدت يومي 25 و26 من يوليو/تموز الماضي لتقديم الإدارة الأمريكية الشق الاقتصادي من رؤيتها لحل النزاع الأكبر والأهم في المنطقة.
إدانة واسعة
خبر اعتقال رامي شعث كان محط اهتمامٍ إعلامي واسع، خاصة من الصحف الفرنسية التي سلطت كبرياتها، لوموند ولوفيجارو، الضوء على بيان أسرته الذي تأخر لأكثر من سبعة أسابيع، وبعض الصحف العالمية، مثل أسوشيتد بريس وبي بي سي العربية، كما قامت شخصيات وتيارات مصرية وطنية بالإشارة إلى اعتقال شعث والمطالبة بالإفراج عنه مثل حمدين صباحي زعيم التيار الشعبي المصري ومرشح الرئاسة الأسبق، وحزب الاشتراكيين الثوريين.
وقد أصدرت الحملة الوطنية المصرية لمقاطعة “إسرائيل” (BDS Egypt) بيانًا مطولًا تتضمن استنكار اعتقال المنسق العام للحملة واستمرار احتجازه، وتحميل السلطات المصرية ووزارة الداخلية على وجه الخصوص المسؤولية عن أمنه وصحته بعد إيضاح أسرته وضعه الصحي السيء، ودعوة وسائل الإعلام المحلية والعالمية إلى تحري الدقة والمصداقية وعدم نشر أي أخبار تحمل اتهامات كاذبة أو قد تسبب ضررًا لرامي وأسرته، وإعلان إطلاق حملةٍ إعلامية للضغط من أجل الإفراج الفوري عن شعث، مؤكدًا التمسك بالعمل مع الأحزاب والقوى السياسية الوطنية المصرية لدعم نضال الشعب الفلسطيني والضغط على “إسرائيل” ومواجهة التطبيع مع العدو الصهيوني في مصر، ومواصلة الحملات المختلفة تحت مظلة حركة المقاطعة العالمية.
فضلت أسرة رامي شعث، وعلى رأسها والده نبيل، الدخول مع السلطات المصرية في مسار تفاوضي يهدف لإخلاء سبيل ابنها، بدلاً من اللجوء إلى القنوات الحقوقية وإعلان اعتقاله والضغط من أجل الإفراج عنه
فيما أصدر الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي المعتقَل أحد أبرز مؤسسيه على ذمة قضية الأمل، النائب البرلماني السابق زياد العليمي، بيانًا يندد باعتقال شعث، باعتباره “وجهًا بارزًا ومعروفًا بمواقفه السياسية الوطنية الساعية للتحول الديمقراطي وبناء دولة مدنية تحترم الدستور”، ومشيرًا في الوقت ذاته إلى صعوبة الانخراط في العمل السياسي والحزبي والإعداد لمشاركة القوى الديمقراطية في بناء مستقبل أفضل عبر خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة في ظل الملاحقات الأمنية والحبس الذي طال أغلب قادة هذا التيار، مطالبًا المجلس القومي لحقوق الإنسان بالاضطلاع بدوره المنوط به في متابعة أماكن الاحتجاز وتوافر الرعاية الصحية الملائمة والتأكد من تطبيق لائحة السجون، بعد اتساع قضية الأمل خلال الشهرين الماضيين، رغم خلوها من أي اتهامات أو أحراز تدين المتهمين.
يغرد كتاب ومدونون عالميون منخرطون في أنشطة حملات مقاطعة “إسرائيل”، وأقارب وأصدقاء لرامي شعث من خلال وسمين، أحدهما بالعربية “الحرية لرامي شعث” (وتنشر أسرة شعث مستجدات موقفه عبر صفحةٍ على “فيسبوك” تحمل نفس الاسم) والثاني بالإنجليزية “FreeRamyShaat” للتضامن مع الناشط المعتقل ومطالبة الحكومة المصرية بالإفراج الفوري غير المشروط عن زميلهم.
قلق كبير
فضلت أسرة رامي شعث، وعلى رأسها والده نبيل، الدخول مع السلطات المصرية في مسار تفاوضي يهدف لإخلاء سبيل ابنها، بدلاً من اللجوء إلى القنوات الحقوقية وإعلان اعتقاله والضغط من أجل الإفراج عنه، حيث أكدت مصادر أمنية مصرية لأسرته بعد اعتقاله أن رامي سيتم إطلاق سراحه لعدم تورطه في أي جرائم سياسية، إلا أن أسرته فوجئت بإدراجه ضمن المتهمين في قضية “خلية الأمل”.
رغم صمت أسرة شعث لنحو شهرين في انتظار إخلاء سبيل رامي، وتدخل شخصيات مصرية وفلسطينية مرموقة، على رأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس “أبو مازن”، فإن ضغوطهم لم تسفر عن أكثر من تحسين ظروف الاحتجاز
أعضاء خلية الأمل من النشطاء المعروفين بانتمائهم إلى التيار اليساري المصري، والتحفظ على الانحيازات “الرجعية” لجماعة الإخوان، ومع ذلك فقد وجهت لهم السلطات المصرية، في 25 من يونيو/حزيران الماضي، اتهامات بإدارة شركات تابعة للإخوان المسلمين، والاشتراك في التخطيط مع قيادات إخوانية في الخارج من أجل إسقاط مؤسسات الدولة خلال ذكرى الاحتفال بـ”ثورة” 30 يونيو، خلال هذا العام.
السياسي الفلسطيني نبيل شعث
وتضم المجموعة المتهمة كلاً من: زياد العليمي عضو البرلمان السابق، والصحفي هشام فؤاد أحد أعضاء “الاشتراكيون الثوريون”، وحسام مؤنس المتحدث الإعلامي باسم التيار الشعبي وحملة دعم المرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي.
رغم صمت أسرة شعث لنحو شهرين في انتظار إخلاء سبيل رامي، وتدخل شخصيات مصرية وفلسطينية مرموقة، على رأسها الرئيس الفلسطيني محمود عباس “أبو مازن”، فإن ضغوطهم لم تسفر عن أكثر من تحسين ظروف الاحتجاز، فبدلاً من الزنزانة الصغيرة التي تحوي أكثر من 30 معتقلاً، يعاني بعضهم من أمراض مختلفة، ولا يمكن الاستلقاء داخلها نظرًا لصغر حجمها وتكدس المعتقلين، أودع شعث البالغ من العمر 48 عامًا والمصاب بارتفاع كوليسترول الدم في زنزانة أكبر، مع عدد أقل من المعتقلين منذ مطلع أغسطس/آب الحاليّ، وسُمح له مؤخرًا بالخروج من الزنزانة لمدة ساعة يوميًا، بالإضافة إلى زيارة أسبوعية، كل يوم جمعة، لرؤية أخته وابنته، لمدة عشرين دقيقة.
يرجح مقربون من رامي وأسرته أن يكون اعتقاله إجراءً عقابيًا ضد دوره وحركته في دعم مقاطعة “إسرائيل”، التي بدأت بدورها منذ مايو/آيار الماضي حملة عالمية لتطويق حركة المقاطعة وحصارها
وتخشى أسرة شعث من أن يستقر وضع ابنها داخل السجن، عبر الدخول في دوامة التجديد والحبس الاحتياطي المتعارف عليها في القضايا السياسية منذ أحداث الثالث من يوليو، ثم إحالة ملف القضية إلى المحاكمة، حيث أكد نبيل شعث، والد رامي، في تصريحات صحفية أن “هنالك تسويف ومماطلة من الحكومة المصرية فيما يخص إعلان التهم الحقيقية الموجهة لرامي، والسماح لمحامييه بمباشرة دورهم في الدفاع عنه”.
ثمن المقاطعة
يرجح مقربون من رامي وأسرته أن يكون اعتقاله إجراءً عقابيًا ضد دوره وحركته في دعم مقاطعة “إسرائيل” التي بدأت بدورها منذ مايو/آيار الماضي حملة عالمية لتطويق حركة المقاطعة وحصارها، أسفرت عن إدراج “BDS” في ألمانيا “حركة معادية للسامية”، وهو ما يعني حظر التدفقات المالية التي كانت تصل إليها والحد من الكثير من أنشطتها “قانونيًا”، كما أسفرت عن إجراء مشابهٍ في الولايات المتحدة، الشهر الماضي، عندما صادقت لجنة الخارجية بالكونغرس – بالإجماع – على مشروع قانون يجرم مقاطعة “إسرائيل” اقتصاديًا، وهي الإجراءات التي انتهت مؤخرًا بمنع النائبتين الديمقراطيتين، إلهان عمر ورشيدة طليب، من زيارة الأراضي المحتلة رفقة وفد الكونغرس الذي يقوم بزيارة سنوية إلى “إسرائيل”، نظرًا لانخراطهن في أعمال مناهضة للدولة العبرية، تحت مظلة حركة المقاطعة العالمية.
وخلافًا لأعضاء خلية الأمل البالغ عددهم 35 الذين جرى اعتقالهم في نهاية يونيو/حزيران، فإن رامي شعث تم اعتقاله من منزله بعد عشرة أيام كاملة من فتح هذه القضية.
وبحسب محمد سيف الدولة، الباحث في العلاقات العربية “الإسرائيلية” والمستشار السياسي للرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، فإنه من المحتمل أن تكون الدولة المصرية، مدفوعة بالعلاقات المتميزة بين كل من نتنياهو رئيس الوزراء “الإسرائيلي” وعبد الفتاح السيسي الرئيس المصري، قد اتخذت قرارًا غير رسمي بحظر أنشطة حركة المقاطعة في مصر، ومن ثم – في نظره – كان لزامًا على أسرته أن تعلن خبر اعتقاله فور وقوعه، ليحظى بدعم من الرموز الوطنية، مصريًا وفلسطينيًا، حيث تسبب قرار التأخير بحرمانه وحركته من الدعم الذي يستحقانه بعد دورهما في مقاطعة “إسرائيل”.
ويحذر سيف الدولة من أن يقود هذا السيناريو إلى إفراجٍ مشروطٍ عن شعث بعد مدة من احتجازه، نظير قبوله باعتزال العمل السياسي وحل الفرع المصري لحركة المقاطعة الذي يتكون من عشرة أحزاب سياسية وعددٍ كبير من النقابات العمالية والاتحادات المستقلة والشخصيات الوطنية الذي سبب قلقًا كبيرًا لـ”إسرائيل” وأصدقائها في الفترة الأخيرة.