260 ألف ناخب سوري في ألمانيا.. هل يصنعون الفارق في مواجهة اليمين المتطرف؟

بعد أكثر من عقد على وصول أولى موجات اللجوء السوري إلى ألمانيا، يواجه اللاجئون اليوم واقعًا سياسيًا متغيرًا قد يعيد تشكيل وجودهم في البلاد. فمع سقوط نظام الأسد، تصاعدت الدعوات في أوروبا لإعادة تقييم سياسات اللجوء، خاصة في ألمانيا، حيث يضغط اليمين المتطرف لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بينما تسعى الأحزاب التقدمية لحماية حقوقهم.

في الوقت ذاته، تتغير موازين القوى داخل المشهد السياسي الألماني، مع صعود الأحزاب اليمينية مثل “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) ونشوء تحالفات جديدة تدفع باتجاه سياسات أكثر صرامة تجاه الهجرة واللجوء.

لكن الجدل حول اللاجئين لا يقتصر هذه المرة على قرارات الحكومة وحدها، بل يمتد إلى صناديق الاقتراع، حيث يشهد فبراير/ شباط الجاري محطة سياسية مفصلية لاختيار أعضاء البرلمان الألماني. يشارك فيها ما يقارب 260 ألف سوري – ألماني، ومع احتدام المنافسة بين الأحزاب، تصبح أصوات هؤلاء الناخبين مؤثرًا في تحديد مستقبل سياسات اللجوء.

يبحث هذا التقرير كيف أصبحت قضية اللاجئين محورًا للخلاف السياسي في ألمانيا، بين من يسعى إلى ترسيخ اندماجهم وحماية مكتسباتهم، ومن يدفع نحو تقييد حقوقهم وإعادتهم إلى بلادهم، بالإضافة إلى ما يواجهه السوريون في ألمانيا من اختبار سياسي قد يكون الأهم منذ تحولهم إلى مواطنين. 

الانتخابات واختبار الاندماج

تستعد ألمانيا لخوض انتخابات برلمانية حاسمة في 23 فبراير/ شباط الجاري، حيث سيتم اختيار أعضاء البرلمان (البوندستاغ)، المؤسسة التشريعية الأعلى في البلاد، والمسؤولة عن صياغة القوانين والإشراف على عمل الحكومة. تأتي هذه الانتخابات في سياق سياسي معقد، بعد انهيار الائتلاف الحاكم نهاية العام الماضي، والذي كان قد تشكّل عقب آخر انتخابات في سبتمبر/ أيلول 2021، ما يجعل المشهد السياسي مفتوحًا على احتمالات عدة.

في هذا السياق، تشير الإحصاءات إلى أن عدد اللاجئين السوريين في ألمانيا بلغ حوالي 800,000 شخص، مما يجعلهم إحدى أكبر الجاليات المهاجرة في البلاد. هذا الحضور السكاني الكبير يفسر تصاعد الجدل السياسي حول دورهم في المجتمع الألماني ومستقبلهم القانوني. ومع مشاركة 260 ألف سوري مجنس لأول مرة في الانتخابات، لم يعد السوريون مجرد شريحة مهاجرة، بل باتوا فاعلين مباشرين في إعادة تشكيل المشهد السياسي الألماني.

وتكتسب أصوات السوريين أهمية كبيرة في ظل تصاعد الخطاب اليميني المتطرف وتزايد الضغوط لتقييد سياسات اللجوء، سواء في دعم الأحزاب المدافعة عن حقوق اللاجئين أو في مواجهة القوى السياسية التي تسعى لتشديد قوانين الهجرة. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أعداد الناخبين الآخرين من أصول مهاجرة، والتي شهدت تزايدًا كبيرًا هي الأخرى في السنوات القليلة الماضية. فبحسب الإحصاءات الرسمية، يوجد في ألمانيا حاليًا أكثر من 7.9 مليون ألماني من أصول أجنبية، مما يجعل هذه الفئة إحدى القوى الانتخابية المهمة التي يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحديد موازين القوى داخل البرلمان القادم.

زعماء أحزاب “الديمقراطي المسيحي والديمقراطي الاشتراكي والخضر والديمقراطي الحر” في البرلمان الألماني

ورغم حداثة تجربة السوريين الألمان في التصويت، إلا أن توجهاتهم السياسية قد تدفعها عوامل أبرزها الموقف من قضايا اللجوء وسياسات الاندماج والموقف من اليمين المتطرف. إذ يجد البعض أن دعم الأحزاب المدافعة عن سياسات الهجرة يمثل ضمانة لمستقبل أكثر استقرارًا، بينما يرى آخرون أن الحكومة الحالية تستحق فرصًة أخرى لإنفاذ خطط لم يتسنى لها إكمالها، بالأخص أنها لا تملك رؤية تعادي اللاجئين.

في هذا السياق، يسعى عدد من النشطاء السوريين في ألمانيا إلى تعزيز وعي الناخبين بأهمية المشاركة في الانتخابات، محذرين من أن العزوف عن التصويت قد يسهم في تمكين الأحزاب التي تدفع باتجاه إعادة تقييم أوضاع اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم. كما يؤكدون على البعد الأخلاقي والمسؤولية الجماعية، باعتبار أن التصويت واجب للدفاع عن حقوق آلاف اللاجئين الذين قد يتأثرون بشكل مباشر حال تشديد سياسات اللجوء. وإلى جانب جهود التوعوية، يساهم بعض المؤثرين في تبسيط وشرح البرامج الانتخابية للأحزاب باللغة العربية، عبر مبادرات فردية تهدف إلى تمكين السوريين المجنسين من اتخاذ قرارات سياسية مستنيرة.

يرى سامر فهد، وهو ناشط وعضو في مجموعة الهجرة والتنوع في برلين عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، أن الانتخابات الحالية تعد نقطة تحول حاسمة للسوريين في ألمانيا، حيث يمكن أن تكون فرصة لردع أي محاولات لتشديد قوانين الهجرة التي قد تضر بمستقبلهم. فمع الزيادة الكبيرة في أعداد السوريين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية، حيث يتجاوز عددهم 300 ألف شخص وفقًا للإحصائيات المتوقعة لعام 2024، يشكل هؤلاء قوة انتخابية حيوية يمكن أن تؤثر في نتائج الانتخابات.

في الوقت ذاته يحذر فهد من أن الحصول على الجنسية الألمانية لا يعني بالضرورة الحماية الكاملة من تبعات تغيير قوانين اللجوء والهجرة للأسوأ، لأن الجنسية لا تلغي احتمالية تعرض السوريين لمواقف عنصرية عنيفة في الأماكن العامة، خاصة في ظل تصاعد الخطاب اليميني المتطرف، وهنا بالضبط تكمن أهمية مشاركتهم في الانتخابات للتأثير في هذه النتائج لصالحهم وصالح كل من لم يستطع إيفاء الشروط والحصول على الجنسية من كبار السن والمرضى والمتضررين جسديًا من سنوات الحرب.

التحالفات السياسية الجديدة

مع إعادة تشكّل المشهد السياسي في ألمانيا، تبرز تحالفات جديدة تعكس تباينًا عميقًا في المواقف تجاه قضايا اللجوء والهجرة. بين توجهات تسعى إلى تعزيز سياسات الاندماج، وأخرى تضغط باتجاه تشديد القيود، أصبح مستقبل اللاجئين، خاصة السوريين، رهينًا بهذه التحولات السياسية. فالأحزاب التقدمية، وعلى رأسها حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، تتمسك برؤية داعمة للاجئين، انطلاقًا من اعتبارهم جزءًا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لألمانيا، حيث تركز هذه الأحزاب على تعزيز سياسات الاندماج، ومكافحة التمييز المجتمعي، كما تدعو إلى عدم الانجرار وراء موجات الشعبوية المعادية للاجئين.

لكن في المقابل، تزايدت الدعوات داخل الأوساط المحافظة لإعادة النظر في سياسات اللجوء، مدفوعةً بتطورات سياسية محلية ودولية، أبرزها سقوط نظام الأسد. وفي هذا السياق، أكدت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فايزر، هذا التوجه في أول بيان لها عقب سقوط الأسد، حيث صرحت بأن “نهاية الطغيان الوحشي للأسد تمثل راحة كبيرة لكثير من اللاجئين، الذين لديهم الآن فرصة للعودة إلى وطنهم والمشاركة في إعادة بنائه.” موقف عززته لاحقًا شخصيات سياسية بارزة، مثل ينس شبان من الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU)، الذي اقترح تنظيم رحلات جوية لإعادة السوريين، مع تقديم حوافز مالية تصل إلى 1000 يورو لمن يختار العودة الطوعية.

مظاهرة حاشدة في برلين نددت بتعاون أحزاب الوسط الديمقراطي مع حزب البديل اليميني الشعبوي.

على النقيض، يواصل الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU) الدفع باتجاه إعادة تقييم أوضاع اللاجئين، وتقليص الحماية الممنوحة لهم، مع تشديد الضوابط على لمّ الشمل والحدّ من الامتيازات الاجتماعية. إذ لا يُخفي الحزب تأييده لنموذج رواندا، الذي يقضي بترحيل طالبي اللجوء إلى دولة ثالثة، وهو مقترح يلقى دعمًا متزايدًا في بعض الأوساط المحافظة.

لكن التأثير الأكثر جذرية جاء من حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الذي شهد صعودًا غير مسبوق، مستغلًا تزايد الخطاب المناهض للهجرة في أوساط الناخبين الألمان. الحزب يذهب إلى أبعد من مجرد الدعوة إلى تقليل أعداد اللاجئين، إذ يدفع علنًا نحو إيقاف تجنيسهم، وإلغاء حق الإقامة الدائمة، وتسريع عمليات الترحيل. كما يستغل سقوط الأسد مؤخرًا لتبرير مطالباته بضرورة إعادة السوريين إلى بلادهم، بحجة أن السبب الرئيسي لقبول طلبات اللجوء قد زال.

في ظل هذه المعادلات السياسية المتغيرة، لم يعد دعم اللاجئين مسألة محسومة كما كان في السنوات السابقة، بل باتت السياسات المتعلقة بهم محورًا للصراعات الحزبية، حيث لم تعد الأحزاب التقدمية قادرة على تمرير قرارات داعمة للمهاجرين بسهولة، وسط ضغط متزايد من القوى المحافظة واليمينية المتطرفة.

صعود اليمين وتأثيره

يبرز الصعود المتسارع لحزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) كأحد التحولات السياسية الأكثر إثارة للجدل، إذ تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تقدم الاتحاد الديمقراطي المسيحي بنسبة 30%، يليه حزب البديل من أجل ألمانيا بنسبة 20%، حيث يُتوقع أن يصوت واحد من كل خمسة ألمان لصالحه في الانتخابات المقبلة خلال أيام، حسب صحيفة “الإندبندنت” الإسبانية. مما يعني أن (AfD) سيكون ثاني أقوى حزب في البلاد حال تحقق هذا التوقع، وهو ما يعكس تحولًا جوهريًا في المزاج السياسي الألماني نحو توجهات أكثر تشددًا تجاه قضايا اللجوء والهجرة.

فالحزب، الذي استند منذ تأسيسه عام 2013 إلى خطاب شعبوي، بات اليوم أحد أبرز القوى السياسية التي تستثمر في تأجيج المخاوف من الهجرة، والتشكيك في اندماج المهاجرين، والترويج لسياسات أكثر صرامة تجاه اللاجئين، وعلى رأسهم السوريون. مستغلًا في ذلك أزمات سياسية واقتصادية تساهم في دفع الناخب الألماني نحو خيارات أكثر تطرفًا.

وقد وافق البرلمان الألماني في 29 يناير/ كانون الثاني 2025، على طلبين قدمهما الاتحاد المسيحي يتعلقان بتشديد سياسات اللجوء وتعزيز الرقابة الأمنية، بعدما تم تمرير الإجراء بفارق ثلاثة أصوات، بفضل دعم حزب “البديل من أجل ألمانيا”.

ركّز الطلب الأول على زيادة عمليات إعادة طالبي اللجوء من الحدود الألمانية، حيث نصّ على فرض حظر فعلي على دخول الأراضي الألمانية للأشخاص الذين لا يحملون وثائق سفر سارية ولا تشملهم حرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشمل أيضًا الأفراد الذين يسعون لتقديم طلبات لجوء داخل البلاد. كما دعا الطلب إلى احتجاز الملزمين قانونيًا بمغادرة ألمانيا وتعزيز دور الشرطة الاتحادية في تنفيذ عمليات الإعادة، بهدف الحد من تدفق اللاجئين.

أما الطلب الثاني، فقد تناول وقف لمّ شمل الأسر بالنسبة للاجئين الحاصلين على وضع الحماية المؤقتة، وتعليق جميع برامج الإيواء الطوعية وزيادة عدد عناصر الأمن على الحدود الألمانية لتعزيز السيطرة على المعابر الحدودية.

كما أكد فريدريش ميرتس، زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU)، أن هناك حاجة إلى تغيير جذري في السياسات الألمانية، خاصة في ما يتعلق بالاقتصاد واللجوء، متوعدًا الناخبين بأنه سيكون هناك تحول حقيقي في سياسة اللجوء في حال توليه منصب المستشار. مضيفًا أن هذا التغيير سيشمل تشديد القيود على الهجرة والحد بشكل صارم من تدفق طالبي اللجوء. 

لا تقتصر خطورة صعود اليمين المتطرف على القرارات الحكومية وحدها، بل تمتد إلى الأجواء الاجتماعية، حيث يؤدي تنامي هذا التيار إلى تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين، مما يعزز مشاعر الرفض والتمييز ضدهم. وفي ظل هذا المناخ السياسي المشحون، قد يواجه السوريون تحديات متصاعدة يمكن الحد منها في قلب الموزاين السياسية، إذ تشكل هذه الانتخابات فرصة لإثبات مدى قدرتهم على المشاركة السياسية الفاعلة والدفاع عن مكتسباتهم القانونية والاجتماعية في ألمانيا.