مع سقوط نظام الأسد واستلام الإدارة الجديدة زمام الأمور في دمشق، شهدت بعض مؤسسات الدولة الرسمية حالة من الارتباك، لا سيما الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، هذا الاضطراب أثار تساؤلات عديدة حول طريقة عمل المؤسسات الإعلامية السورية، وعلى رأسها التلفزيون الرسمي.
في الأيام الأولى، كان التلفزيون الرسمي يعرض أناشيد ومقاطع جهادية قبل أن يتوقف عن ذلك ويقتصر بثه على عرض صور ثابتة للقرارات وبيانات القيادة العسكرية.
هذا التوقف شمل أيضًا القنوات التابعة للتلفزيون ومواقع الصحف الرسمية، إلى جانب الموقع الرسمي لوكالة الأنباء السورية “سانا”، التي تأسست عام 1965 وتقدم أكثر من 500 خبر يوميًا باللغة العربية، إلى جانب نشرات بلغات أخرى تشمل الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، التركية، الروسية، الفارسية، والعبرية، فضلاً عن توزيع 150 صورة فوتوغرافية يوميًا.
ورغم توقف موقع الوكالة، لم يُعيق ذلك إعادة تنشيط حسابات الوكالة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تحت إدارة جديدة، وبدأت في نشر الأخبار المتعلقة بالبيانات الرسمية، وملاحقة الفلول، إلى جانب أخبار محلية أخرى. في الوقت نفسه، كانت وسائل الإعلام العربية والعالمية تواصل تغطيتها المكثفة لأبرز الأحداث الجارية في المنطقة.
غياب البث التلفزيوني
كان التلفزيون الوطني أحد أبرز أدوات النظام السابق في نشر الدعاية وتوجيه الرأي العام، حيث لعب دورًا محوريًا في حملاته ضد ثورة السوريين، ومع سقوط النظام وتوقف بث التلفزيون الوطني، ظهر فراغ إعلامي كبير بسبب الاعتماد عليه كمصدر أساسي للمعلومات، مما حال دون وصول الأخبار المضللة والمتناقضة التي كانت تثير البلبلة والتشويش على حياة المواطنين، وتؤدي بالتالي إلى اضطراب المشهد العام.
هذا الوضع فتح المجال أمام وسائل إعلام بديلة ومنصات أخرى لصناعة المحتوى، إلا أن هذه الجهات اعتمدت غالباً على روايات متضاربة، وفي بلد يمر بمرحلة حساسة تتطلب الوضوح والمصداقية، بات غياب مصدر موثوق للأخبار تحدياً إضافياً أمام المواطنين الباحثين عن المعلومة الصحيحة.
سرعان ما ظهرت الآثار السلبية لتوقف بث التلفزيون الرسمي، إذ انتشرت أخبار مضللة في أواخر ديسمبر الماضي، مما أجج التوتر في البلاد. وأدى ذلك إلى خروج مظاهرات منظمة من قبل فلول النظام السابق في بعض أحياء مدن مثل اللاذقية وطرطوس وحمص وجبلة والقرداحة، حيث ردد المتظاهرون شعارات ذات طابع طائفي، كردّ فعل على مقطع فيديو قديم متداول يظهر اعتداء مجموعات مسلحة مجهولة على مقام ديني علوي للشيخ “أبي عبد الله الخصيبي” في منطقة ميسلون بحلب شمال سوريا.
ولم تظهر الصور والمقاطع المصورة للمقام المضاء بالكامل دون أي علامات أو آثار للتخريب، كما رُوّج سابقاً، إلا بعد ساعات من التوتر والاستنفار. هذا التوتر كلّف إدارة العمليات العسكرية خسائر كبيرة، حيث قتل 14 عنصراً وأصيب 10 آخرون، مما دفع إلى استقدام تعزيزات عسكرية إضافية إلى بعض أحياء اللاذقية وطرطوس وحمص.
ولا شك أنه كان بإمكان التلفزيون المغلق، بوظيفته الأساسية في التواصل مع الجمهور، أن يزور الموقع ويوثقه بشكل واضح. فلو قام بعرض صور ومقاطع للمقام دون أي تخريب، مصحوبة بلقاء مع المشايخ العلويين المشرفين عليه، لكان ذلك كافياً لدحض كل المزاعم التي أُثيرت بشأن الحرق أو الاعتداء عليه.
منذ العاشر من كانون الثاني/يناير الماضي، أشار معاون المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، محمد السخني، في حديث له، إلى أن التلفزيون السوري يستعد لاستئناف بثه قريبًا، وأن الانطلاقة الجديدة ستكون “مختلفة شكلًا ومضمونًا” وتهدف إلى “مواكبة نصر الثورة السورية”.
كما أعلن رجل أعمال السوري غسان عبود، مالك قناة “أورينت” السورية، عرض استعداده للتبرع بجميع أجهزة واستديوهات القناة التلفزيونية والإذاعية الإخبارية المجهزة بأحدث التقنيات، واستديوهاتها البرامجية الحديثة التي لم يتم تشغيلها أبداً بكلفة ٢٠ مليون دولار أميركي، إضافة إلى التبرع بالأرشيف الوطني السوري وكامل حقوق مؤسسات أورينت الإعلامية، والهوية البصرية، وأرشيفها، (رقمي وأشرطة، نحو 45 ألف ساعة بث) والتكفل بأجور فكها ونقلها الى سوريا.
بالمقابل، فإن الآراء تتباين حول هذا التأخر، بين من يرى أن بناء الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون مهترئٌ والبنية التقنية من معدات البث التلفزيوني والإذاعي قديمة جداً، وأن العمل جارٍ في خطة تحديث شاملة، وبين من يرى عدم وجود خطة لتغطية ساعات البث، أما الرأي الأخير فيتمثل في غياب الكفاءات الإعلامية والتقنية القادرة على تسريع عملية البث.
يعتبر الصحفي السوري، عبد العزيز العذاب، أن المشهد الإعلامي الرسمي السوري مشهد متخبط نتيجة الفراغ الحاصل، فبعد سقوط النظام وتحرير دمشق لوحظ عدم ثقة الإدارة الحالية بالكوادر التي كانت موجودة في عهد نظام.
موضحاً أن عملية استبدال هذه الكوادر ليست بالعملية السهلة، لأن الإعلاميين الموجودين بالشمال السوري هم إعلاميون متمرسون ميدانيًّا لا مكتبياً أو تقنياً للعمل في وكالة “سانا” أو تشغيل التلفزيون الوطني.
ويضيف العذاب لـ”نون بوست”، أن ثقة الإدارة الحالية معدومة أيضاً في الكوادر القديمة، لذلك وجدنا تخبطًا كبيرًا وفوضى في إدارة الملف الإعلامي، ما خلق بلبلة حتى في طريقة التعاطي مع الأخبار وباتت تقدّم وكأنها “بوست” على صفحة فيسبوك وليست أخبارًا رسمية، لها قواعدها الرصينة والتي تحتاج تدريبًا وخبرات، والأهم إرادة حقيقية وجدية أكبر من وزارة الإعلام.
ارتباك بالتعاطي مع الأحداث
مع انتظار السوريين تلك اللحظة التاريخية التي تمثلت بـ “خطاب النصر” الذي ألقاه الرئيس السوري أحمد الشرع، والمفترض أن يكون حدثًا عالميًا تهتم به وسائل الإعلام الوطنية والعربية والعالمية لما يمثله من أهمية يليق بثورة السوريين ويتناسب مع أعظم حدث سياسي في تاريخ سوريا، غاب البث التلفزيوني المباشر للخطاب.
فيما اقتصر رصده الخجول ضمن قنوات على تطبيق تلغرام مثل قناة رئاسة الجمهورية العربية السورية، إذ تمّ تناوله على شكل أخبار عاجلة بين الحين والآخر لدرجة أن مقربين من القصر الرئاسي قد تناولوا ماهية الخطاب عبر صفحاتهم الشخصية، في حين أن “سانا” لم تكن بعد قد انتهت من وضع نص الخطاب كله على صفحاتها، ثم ليتم نشر فيديو الخطاب مسجلاً بعد إنتاجه، وهو ما أثار موجة جدل واسعة.
موجة الجدل هذه عادت بعد نشر وكالة “سانا” على صفحتها في فيسبوك خبرًا عن مغادرة الرئيس السوري “الشرع” المملكة العربية السعودية قبل أن تعدّل الخبر بعد ساعتين بمغادرته العاصمة الرياض فقط، عدا عن اعتمادها على وكالة الأنباء السعودية “واس” في نقل أخبارها المتعلقة بالشأن السوري، دون الحصرية كونها وكالة أنباء وطنية، وهو ما أثار حفيظة كثير من الصحفيين أيضاً.
وكان وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية الجديدة، محمد العمر، أشار إلى أن الوزارة أعادت تفعيل وكالة الأنباء السورية “سانا” لتكون مرجعًا موثوقًا للحصول على الأخبار الرسمية، وكذلك الصفحات الرسمية للجهات العامة.
يقول سعد السعد، مسؤول العلاقات في رابطة إعلاميي سوريا، “إن من تسلّم العمل الصحفي في الإدارة الجديدة هي المؤسسةَ الإعلامية التابعة لجماعة هيئة تحرير الشام التي وصلت لسدة الحكم، وهم بطبيعة الحال يفتقرون للخبرة والإدارة والعمل المؤسساتي، رغم أنهم عاشوا تجربة متواضعة في إدلب”.
ويضيف السعد أن تجربة إدارة الإعلام للبلاد هي تجربة أعقد، وهذا ما أوقعهم في أخطاء إعلامية جسيمة، كموضوع خطاب الرئيس الشرع وبروتوكولات التصوير الحساسة لشخصيات رسمية وموضوع النشر الإلكتروني وغير ذلك، الأمر الذي أدى لخلق ردة فعل سلبية لدى الإعلام الثوري والنشطاء الذين ساهموا بإيصال سوريا للوضع الحالي.
ويشير السعد خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن موضوع الاعتماد على الكفاءات قادم لا محالة، لكن هل سيأتي بعد فوات الأوان فهذا هو السؤال الأهم”.
معتبراً أن الاعتماد في هذه المرحلة الحساسة على الأكثر ولاء دون الكفاءة هي حالة طبيعية لا سيما أن جماعة “تحرير الشام” هي من تحكم في هذا الوضع المؤقت، إلا أن بقاء الاعتماد على هذه الفئة مستقبلًا سيسبب إشكالًا كبيرًا، لأن سوريا ليست إدلب أو الشمال، فسوريا لديها كفاءات وخبرات من مجالات كثيرة من شأنها أن تساعد وتقوم بالعمل.
من جهته، يرى الصحفي العذاب أنه يمكن الاستعانة بوزارة الإعلام التي تتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة عن هذه العملية بكوادر خارجية أو كوادر كفاءات سورية عملت في الإعلام المتلفز خارج سورية، أو الاستعانة بالكوادر القديمة في تيسير أمور بسيطة “خدمية و إخبارية”، لكن يبدو أن الثقة معدومة فيهم.
“ويبدو أن الإشكال الحقيقي الآخر يكمن في أن أغلب الكوادر مرتبط بعمل في مؤسسات عريقة ويتقاضى رواتب عالية فلا يمكن أن يعمل في الإعلام الوطني ضئيل الأجور، أما غير المرتبط فهو موجود بأوروبا وهؤلاء من الصعب أن يعودوا لظروف مختلفة أو أن يديروا مؤسسة إعلامية من الخارج، والتي تتطلب أن يكونوا على أرض الواقع”، حسب الصحفي العذاب.
الأولوية لصناع المحتوى
مع دخول صناع المحتوى والمؤثرين وهواة البث للمناطق السورية وإفساح المجال لنشاطهم وتقديم تسهيلات كبيرة لهم في ظل غياب الإعلام الوطني، تحوّل المشهد الإعلامي لرهينة بيد هؤلاء.
إذ صار توجّه الصحفيين إلى صناع محتوى مقربين من السلطة ينقلون أخبار الدولة وآخر المستجدات وأهم الأخبار الحصرية، في ظل تأخر المنصات الرسمية عن نشرها، وهو ما صعّب المهمة على أغلب الصحفيين ولا سيما في عملية التحقق واستقاء المعلومات الصحيحة الموضوعية، خاصة أن كل ما يكتب على شبكات التواصل الاجتماعي من مدونين ومؤثرين، يندرج في أغلبه تحت حرية التعبير وليست الصحافة، على الرغم من قربهم من السلطة.
حسب حديث الصحفي العذاب، فإن صناع المحتوى كانوا حاجة ضرورية في البداية لإيصال الصورة والحالة السورية الجديدة للعالم باعتبار أن لديهم متابعين كثر، في ظل غياب إعلام رسمي سواء وكالة سانا أو التلفزيون الوطني الذي شكّل إغلاقه غير المبرر خطأً كبيرًا.
مضيفاً، أن الإدارة كانت محتاجة لجلب مشاهير كمرحلة مؤقتة فقط لم تستغرق أكثر من أسبوعين حتى تُظهر للعالم ماذا جرى في سوريا وخاصة أن كثيرًا من المشاهدين حول العالم ولا سيما العرب كانوا يظنون أن الثورة انتهت من العام 2018.
بالمقابل، يرى الصحفي السعد، أن هيئة تحرير الشام عملت على تصدير شخصيات وصناع محتوى والترويج لهم سابقاً، وهذا صنع حالة من الشعبوية لكسب الحاضنة، باعتبار أن “السوشال ميديا” أصبحت أكثر وصولاً من الإعلام لدى شرائح مجتمعية واسعة.
“وعندما انتقلت تحرير الشام إلى السلطة نقلت معها هذه العقلية، حتى تكسب حاضنة وقبولًا أكبر مع تقديمها لهم التسهيلات على عكس الإعلامي الذي ربما يحمل صفة مشبوهة أو أجندات محددة بالنسبة للسلطة”، حسب السعد الذي اعتبر أنه “حالة مؤقتة لأن الناس تعيش زهوة النصر المؤقت، وبعد ذلك ستطفو المشاكل المجتمعية مجدداَ والتي لن تجد إلا الإعلامي الحقيقي ليسلط الضوء عليها”.
ختاماً، رغم غياب الإعلام الرسمي المبالغ في مدته، إلا أن السوريين ما زالوا يترقبون بفارغ الصبر أن يُكافؤوا بعد طول انتظار بإعلام وطني متحضر يقوم على المعلومات الحقيقية ويكون أكثر قرباً من حاجاتهم، ويتجه بشكل أكبر للعب دور الرقيب والسلطة الرابعة، والأهم ألا يكون مُفصّلاً على مقاسات أي جهة.