لم يمض أسبوعان بعد على إقرار البرلمان العراقي قانون العفو العام حتى جاء قرار المحكمة الاتحادية العليا في البلاد التي أصدرت “أمرًا ولائيًا” بإيقاف العمل بهذا القانون رفقة قانونين آخرين كانا قد أقرا أيضًا ضمن الجلسة البرلمانية ذاتها التي كانت قد انعقدت في 21 كانون الثاني/ يناير الماضي.
الأمر الولائي الذي أصدرته المحكمة جاء عقب تقديم مجموعة من النواب طعونا بالقوانين الثلاثة لدى المحكمة، ليفتح القرار الولائي الباب على مصراعيه أمام العديد من السيناريوهات السياسية والشعبية التي قد لا تقل خطورة عمّا مرت به البلاد سابقًا، لا سيما بعد التصعيد السياسي الذي تبنته أكبر الكتل السياسية السنية في البرلمان.
أمر ولائي وإيقاف التنفيذ
ويأتي قرار المحكمة الاتحادية بعد أن تقدم عدد من النواب الشيعة بطعون ضد الجلسة التي صوت فيها البرلمان على القوانين الثلاثة من أجل إيقاف العمل بقانون العفو العام الذي جاء التصويت عليه بطلب من النواب السنة مقابل التصويت على قانون الأحوال الشخصية للشيعة وقانون تعويض الملكيات العقارية الذي طالب به أكراد العراق.
وكان إقرار قانون العفو العام شرطًا رئيسيًا للسنة من أجل الدخول ضمن تحالف إدارة الدولة عام 2022 الذي أفضى إلى تشكيل حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني بعد أن تعطل تشكيل الحكومة أكثر من عام كامل بعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
وقانون العفو العام هو قانون قديم كان العراق قد أقر نسختين منه فيما سبق دون أن تنفذا بالشكل الذي يطالب به المكون السنيّ، حيث يؤكد ساسة السنة ونوابهم في البرلمان أن الآلاف من أبناءهم قابعين في السجون بتهم الإرهاب وعن طريق المخبر السري دون وجود أي دليل على إدانتهم، فضلًا عن أن السنوات الماضية شهدت إعدام المئات منهم دون أن تكون هناك شفافية في محاكماتهم التي اعتمدت على شهود سريين ومخبرين مجهولين أو أن الاعترافات التي أدلى بها السجناء كانت قد انتزعت تحت وطأة التعذيب، وفق قولهم.
في غضون ذلك، يقول الخبير القانوني علي التميمي إن قانون العفو العام الجديد هو تعديل ثانٍ لقانون العفو العام الصادر على 2016، مبينًا أن العراق شهد بعد عام 2003 تشريع قانونين للعفو العام، الأول رقم 19 لعام 2008، والثاني رقم 27 لعام 2016.
وعن التعديل الأخير، بيّن التميمي أنه تضمن 8 مواد، منها أن العفو يتحقق شريطة أن يتنازل المشتكي عن الدعوة، أما فيما يتعلق باختلاس وسرقة أموال الدولة فإن القانون يشملهم في حال تسديد ما بذمتهم، مؤكدًا أن التعديل شَمِل كل شيء بما فيها دعاوى الإرهاب، إلا أنه أكد في هذه القضية أن القانون ليس عفوًا بمعناه الحرفي، بل هو مراجعة الأحكام أو إعادة النظر فيها، اعتمادًا على أدلة حقيقية واستبعادًا لدور المخبر السري.
وفي محاولة لامتصاص الصدمة وردّ الفعل السياسي من قبل الكتل السياسية السنيّة، علّقت اللجنة القانونية البرلمانية على الأمر الولائي للمحكمة الاتحادية، حيث أكد عضو اللجنة محمد عنوز أن “صدور الأمر الولائي من قبل المحكمة الاتحادية العليا، بخصوص القوانين الثلاثة (الأحوال الشخصية، العفو العام، إعادة العقارات) أمر طبيعي” وأنه لا يعني إلغاء التصويت أو الغاء تشريع تلك القوانين بقدر ما يعني إيقاف المضي في تنفيذها لحين دراسة المحكمة لتفاصيل القوانين والنظر بها ثم تبتّ المحكمة فيها، وفق قوله.
واستدل النائب في حديثه بالكثير من الدعاوى التي صدرت فيها أوامر ولائية، لكن سرعان ما ردتها المحكمة بعد التحقق منها، مبينًا أن اللجنة القانونية ستنتظر قرار المحكمة الاتحادية الذي سيكون ملزمًا وباتًا، حيث من المتوقع أن يستغرق الأمر أسبوعين، بحسبه.
تصعيد سياسي
وفور إعلان المحكمة الاتحادية عن قرارها توالت ردود الأفعال السياسية من قبل الكتل السياسية السنيّة، حيث أعلنت 3 محافظات سنيّة (نينوى والأنبار وصلاح الدين) عن تعطيل الدوام الرسمي في جميع مؤسساتها احتجاجًا على إجراءات الاتحادية.
أما عن أقوى ردود الأفعال السياسية فكانت على لسان رئيس البرلمان السابق ورئيس حزب تقدم محمد الحلبوسي حيث هاجم المحكمة الاتحادية ودعا إلى “مظاهرات عارمة تهز أركان الظلم” مع تعهده بمقاطعة شاملة لجميع المؤسسات.
وقال الحلبوسي في منشور له على موقع X: “قلناها سابقًا ونؤكدها مرارًا وتكرارًا، إن قانون العفو الذي تم إقراره هو لإنصاف الأبرياء المظلومين حصرًا، ولا نقبل بخروج الإرهاب الذي اكتوينا به قبل غيرنا وأكثر. ولكن لا نقبل أن تُسيَّس المحكمة الاتحادية (غير الدستورية) وتضرب القوانين والتشريعات عرض الحائط وتصدر أمرها الولائي المجحف بحق الأبرياء والمظلومين.
سنواجه ونتصدَّى لقرار إيقاف تنفيذ قانون العفو بكل الوسائل القانونية والشعبية، وندعو إلى مظاهرات عارمة تهزُّ أركان الظلم وتعلن رفضها لولاية محكمة جاسم عبود العميري على السلطات، وسنعمل على مقاطعة شاملة وكاملة لكل المؤسسات والفعاليات التي لا تحترم إرادة الشعب والاتفاقات بين مكوناته”.
قلناها سابقًا ونؤكدها مرارًا وتكرارًا، إن قانون العفو الذي تم إقراره هو لإنصاف الأبرياء المظلومين حصرًا، ولا نقبل بخروج الإرهاب الذي اكتوينا به قبل غيرنا وأكثر. ولكن لا نقبل أن تُسيَّس المحكمة الاتحادية (غير الدستورية) وتضرب القوانين والتشريعات عرض الحائط وتصدر أمرها الولائي…
— محمد الحلبوسي (@AlHaLboosii) February 4, 2025
في السياق، قال الأمين العام للمشروع الوطني العراقي جمال الضاري إن الخلافات السياسية والتهرب من الاتفاقات بين قادة الأحزاب والكتل، ومحاولات جرّ المحكمة الاتحادية، إلى إصدار أوامر تُعرقل تنفيذ القرارات النيابية، ستجر العراق إلى أزمات جديدة وسط مرحلة حرجة تمر بها المنطقة.
وتابع في منشور له على منصة X تأكيده على ضرورة عدم استغلال ملف العفو العام لتصفية الحسابات السياسية، والإسراع بعقد اجتماع طارئ لقادة البلد، لتصحيح المسار الخاطئ عبر تنفيذ بنود ورقة الإتفاق السياسي.
الخلافات السياسية والتهرب من الإتفاقات بين قادة الأحزاب والكتل، ومحاولات جر المحكمة الاتحادية، إلى إصدار أوامر تُعرقل تنفيذ القرارات النيابية، ستجر العراق إلى أزمات جديدة وسط مرحلة حرجة تمر بها المنطقة.
نؤكد ضرورة عدم إستغلال ملف العفو العام لتصفية الحسابات السياسية، والإسراع…
— Jamal Al Dhari جمال الضاري (@AldhariJamal) February 4, 2025
أما السياسي المثير للجدل مشعان الجبوري فقد أكد أن الدولة العميقة لا تزال تتحكم بالتوجهات العامة للدولة العراقية، وقال في تغريدة على منصة X: “قبل يومين، قال نوري المالكي إنه يعارض شمول المدانين بقضايا الإرهاب “وهم جميعًا من السنة” بقانون العفو كاشفًا أن المحكمة الاتحادية ستنقض القانون، وها هي اليوم تصدر أمرًا ولائيًا بإيقاف تطبيقه! هذا يؤكد أن الدولة العميقة لا تزال فوق كل السلطات، تفرض إرادتها كما تشاء، وأن محنة أهل السنة المستمرة منذ 2003 ليست وهمًا، بل واقع لا يتغير، العراق بحاجة إلى تحقيق العدالة والمساواة بين أبنائه، لا قرارات تُعيد إنتاج الظلم باسم الدستور والقضاء، ولا يجوز أن يُستخدم القانون لاستهداف مكون دون آخر”.
قبل يومين، قال ألرئيس نوري المالكي إنه يعارض شمول المدانين بقضايا الإرهاب “وهم جميعًا من السنة” بقانون العفو كاشفًا أن المحكمة الاتحادية ستنقض القانون، وها هي اليوم تصدر أمرًا ولائيًا بإيقاف تطبيقه!
هذا يؤكد أن الدولة العميقة لا تزال فوق كل السلطات، تفرض إرادتها كما تشاء، وأن… pic.twitter.com/YrDhJJkff8
— مشعان الجبوري (@mashanaljabouri) February 4, 2025
ويبدو أن الأمر الولائي بإيقاف تنفيذ قانون العفو العام سيكون القشة التي ستكسر الانسجام الهش في حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فضلًا عن كونها الحلقة الأخيرة في عمر البرلمان الحالي الذي لم يتبق من عمره رسميًا سوى 8 أشهر، وبالتالي وفي خضم الواقع السياسي الهش الذي تعيشه البلاد، فمن غير المستبعد أن نشهد تعطل العمل الحكومي والبرلماني مع عودة التجييش الطائفي الذي بدأه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي قبل أيام.
ليس هذا فحسب، إذ يبدو أن توقيت إصدار الأمر الولائي جاء بعد دراسة مستفيضة لإبعاد أنظار العراقيين عن المستقبل القريب، حيث يترقب العراقيون تداعيات ما سيصدره الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن العراق، بعد تهديده باستهداف كل من يساعد إيران في بيع نفطها أو تهريب الدولار إليها، فضلًا عن امتناع الحكومة العراقية أو عدم مقدرتها -على أقل تقدير- على حلّ الفصائل المسلحة والحشد الشعبي ونزع أسلحة الفصائل التي تتهمها واشنطن بأنها أداة موالية لإيران ومنفذة لأجندتها الخارجية.
أيام عصيبة قد يشهدها العراق في الفترة المقبلة، فالحكومة التي لم تستطع تنفيذ ما وعدت به فضلًا عن تحكم الدولة العميقة بمجريات الأحداث فيها يجعل العراقيين يترقبون ما ستؤول إليه قابل الأيام وسط تخوف من تدهور اقتصادي أو أمني لا يرغب به أحد.