في الساعات الأولى من تنصيبه كرئيس للولايات المتحدة لفترة جديدة، وقّع دونالد ترامب سلسة من الأوامر التنفيذية بلغت 46 أمرًا تنفيذيًا بما يشبه الانقلاب الأبيض، ذلك أنها شملت إلغاء أوامر تنفيذية كان قد اتخذها سلفه جو بايدن في أيامه الأخيرة مثل قرار إزالة كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب حيث أعادها ترامب إلى القائمة بعد أقل من أسبوع من إزالتها بواسطة الرئيس السابق.
وكان أكثر الأوامر التنفيذية إثارة للجدل أمر ترامب بتعليق كل أشكال المساعدات الخارجية لمدة 90 يومًا (باستثناء تلك المخصّصة لكل من “إسرائيل” ومصر)، إلى جانب الأمر الذي قضى بإنهاء حق الحصول على الجنسية الأميركية بالولادة من مهاجرين غير قانونيين، رغم أنه حق أصيل يضمنه الدستور الأمريكي، وهو ما سهّل قرار نقضه من قبل قاضٍ فيدرالي في وقت لاحق.
كما أصدر ترامب عفوًا شاملًا عن 1500 شخص من أنصاره كانوا على صلة بقضية اقتحام مبنى الكابيتول عام 2021، وخفف قرار العفو الأحكام الصادرة بحق 14 عضوًا من منظمتي “براود بويز” و”أوت كيبرز” من أقصى اليمين، بما في ذلك بعض الأعضاء الذين أدينوا بالتآمر للتحريض على العنف.
ووقع أوامر أخرى بإعلان انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية وآخر بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وجاء في الأمر الأول أن سبب الانسحاب هو “سوء تعامل المنظمة مع وباء كورونا (كوفيد-19)، وأزمات صحية عالمية أخرى، وفشلها في تبني إصلاحات عاجلة ضرورية”.
وأمر بإرسال خطاب إلى الأمم المتحدة يشرح أسباب الانسحاب من اتفاقية المناخ، قائلًا: “سياسة إدارتي هي وضع مصالح الولايات المتحدة والشعب الأميركي في المقام الأول”.
أما القضية التي حظيت بأكثر الأوامر التنفيذية فهي قضية الهجرة واللجوء، حيث أعلن ترامب في سلسلة من الأوامر التنفيذية حالة الطوارئ الوطنية على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لوقف تدفق المهاجرين غير النظاميين، الذين وصفهم في خطابه بعد أدائه القسم بـ”المجرمين”، معلنا أنه سيرسل جنودًا إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
يذكر ترامب في أحد أوامره، أنّ الولايات الأميركية اتفقت على الاتحاد وتنازلت عن سيادتها مقابل وعد الحكومة الفيدرالية في المادة الرابعة من دستور البلاد بـ”حمايتها ضد الغزو”، ويضيف أن ذلك “لم يحصل بعد أن فشلت الحكومة الفيدرالية في وقف الغزو القادم من الحدود الجنوبية”.
مشهد قاتم
فور الإعلان عن فوز ترامب مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدا المشهد قاتمًا أمام المهاجرين غير النظاميين، ذلك أن الرئيس الجمهوري عُرف بتبنيه خطابًا معاديًا للمهاجرين منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2015، وصرّح آنذاك بأنّ المهاجرين الذين يدخلون الولايات المتحدة “يسمّمون دماء بلادنا”، واصفًا المهاجرين غير النظاميين بأنّ لديهم”جينات سيّئة”، في تصريحات عنصرية فجّة.
وبعد توليه المنصب قبل نحو أسبوعين بدأ ترامب في تنفيذ ما وعد به “أكبر عملية ترحيل جماعي للمهاجرين غير النظاميين”، حيث تقدر صحيفة نيويورك تايمز أعدادهم ب 11 مليون شخص، موضحةً أنّ المهاجرين غير النظاميين تعود أصولهم إلى جميع دول العالم، لكن أكثرهم جاء من المكسيك (حوالي 4 ملايين وحدها)، ثم فنزويلا، والهند، وهندوراس، وغواتيمالا، والسلفادور، وكولومبيا، وجمهورية الدومينيكان، وغيرها.
وقالت الصحيفة في تقرير لها إنّ الأمر الأكثر إثارة للدهشة أو ربما المضلل فيما يتعلق بمصطلحات مثل “غير الموثقين” و”غير المصرح لهم”، هو أن ما يصل إلى 40% من الأشخاص المصنفين في هذه الفئة لديهم تصريح سارٍ، وفق تقديرات “إف دبليو دي. يو إس”، (FWD.us)، وهي منظمة مناصرة لإصلاح نظام الهجرة والعدالة الجنائية مقرها في واشنطن العاصمة.
ومن بين هؤلاء الـ11 مليون مهاجر غير نظامي الذين قدرتهم نيويورك تايمز، نشرت إدارة الهجرة والجنسية الأمريكية قائمةً تشمل 1.4 مليون مهاجر على جداول الترحيل تم تصنيفهم طبقًا لدولهم الأصلية، بينهم أكثر من 13 ألف مهاجر عربي غير نظامي يخشون الترحيل إلى بلدانهم الأصلية بسبب السياسات الجديدة والأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس دونالد ترامب، بحسب الجزيرة نت.
الصومال يتصدر
وفقًا للإحصائية التي أوردتها الجزيرة، تضم قائمة مواطني الدول العربية المشمولة بقرارات الإبعاد الأعداد التالية:
الصومال 4090، موريتانيا 3822، الأردن 1660، مصر 1461، العراق 1299، لبنان 1055، السودان 1012، سوريا 741، اليمن 558، المغرب 495، السعودية 337، الجزائر 306، تونس 160، الكويت 146، ليبيا 89، جيبوتي 29، الإمارات 21، البحرين 17، قطر 10، عمان 6.
ومن اللافت أن تقديرات معهد سياسات الهجرة تشير إلى وجود 45 ألف مهاجر غير شرعي من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعيشون في الولايات المتحدة اعتبارًا من عام 2019، مما يلفت إلى أنّ القائمة التي تم نشرها حديثًا لا تمثل سوى ثلث المهاجرين غير النظاميين الذي قدِموا مؤخرًا إلى الولايات المتحدة.
وفي شأن طريقة دخول المهاجرين العرب إلى الولايات المتحدة يذكر المعهد أن قناة “فوكس نيوز” الأمريكية، نقلت عن بيانات داخلية لهيئة الجمارك وحماية الحدود، قولها في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن السلطات الأميركية، وعلى مدار عامين قبل التاريخ المذكور، ألقت القبض على آلاف الأشخاص، بينهم عرب، يحاولون دخول الولايات المتحدة عبر الحدود الجنوبية.
وجاء في تقرير القناة، التي تدعم الحزب الجمهوري، إن بين هؤلاء 15 ألفًا و594 من موريتانيا، و3153 من مصر و538 من سوريا، و164 من لبنان، و185 من الأردن، و139 من اليمن، و123 من العراق.
لكن ليس كل المهاجرين العرب وصلوا بطريقة غير شرعية عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، فالكثير منهم حاصل على تأشيرة دخول رسمية وقدِم بطريقة نظامية سواء للسياحة، أو الدراسة، أو للعلاج، أو للمشاركة في معرض أو أي فعالية محددة، غير أنه ظل في الأراضي الأميركية بعد انتهاء مدة تأشيرة الدخول ولم يقم بتوفيق أوضاعه.
مناطق التمركز
بشكل عام ووفقًا للمعهد العربي الأمريكي تنتشر الجالية العربية على امتداد الولايات الخمسين، ولكن ما يزيد على ثلثيهم يعيش في ولايات نيويورك ونيوجيرسي، وميشيغان وإلينوي وكاليفورنيا، أما أكبر تجمع للعرب فيقع في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغان، حيث يشكل العرب ما يقرب من 30% من سكان المدينة، ومن المراكز المهمة الأخرى مدينة لوس أنجلوس ومنطقة بروكلين بمدينة نيويورك، وشمال ولاية فرجينا، كما يلاحظ أن أغلب العرب الأمريكيين يفضلون الإقامة في المناطق الحضرية وفي المدن.
لا توجد إحصائيات موثوقة بشأن أماكن تمركز المهاجرين العرب غير النظاميين، ولكن يعتقد أن معظمهم يعيشون في الولايات المذكورة أعلاه خاصة نيويورك وكاليفورنيا بالإضافة إلى ولاية تكساس التي تمتلك حدودًا كبيرةً مع الولايات المكسيكية تشيواوا، كواهويلا، نويفو ليون، تاماوليباس من الجنوب الغربي كما يحدها خليج المكسيك من الجنوب الشرقي، ذلك أنها الولاية المفضلة لمن يصل إلى الولايات المتحدة عبر الحدود الجنوبية ومن بينهم الجاليات العربية.
قال أحمد وهو أحد المقيمين العرب في مدينة نيويورك إنه جاء إلى الولايات المتحدة بتأشيرة دراسة عام 2018 لكنّه لم يعد إلى بلده الأم بعد انتهاء دراسته في أحد معاهد التكنولوجيا الشهيرة بالمدينة، موضحًا أنّه تقدم بطلب لجوء العام الماضي لتوفيق أوضاعه وأتاحت له المحكمة إقامة مؤقتة لحين البت في طلبه.
وأضاف في حديث مع “نون بوست” إنه تعرّف خلال السنوات الماضية على عدد كبير من رفاقه العرب الذين يعيشون في المدينة بشكل غير نظامي مبينًا أن معظمهم يعمل في المصانع وقطاع التجزئة خاصة محلات البقالة والمطاعم المتنقلة “عربات الطعام”، فضلًا عن تطبيقات سيارات الأجرة.
ومع أنّ أحمد -رفض ذكر اسم كاملًا- قام بتوفيق أوضاعه منذ العام الماضي فإنه متخوف من الهجمات التي تشنها شرطة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك (U.S. Immigration and Customs Enforcement) المعروفة اختصارًا بـ(ICE) مشيرًا إلى أنّ بعض منفذي المداهمات من موظفي الوكالة لا يقتنعون بالإفادة التي يحملها الحاصلين على تصريح مؤقت فيقومون بإيقافه في مراكز الاحتجاز ليوم أو اثنين حتى يتم التحقق من سلامة موقفه.
هل هناك مجال لتوفيق الأوضاع؟
ترى المحامية المختصة في شؤون الهجرة فدوى مالك أن فلسفة ترامب بشأن الهجرة قائمة على شعاره “Lets make America greatagain” (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) موضحة أنه نجح في إقناع قطاع عريض من الأمريكيين بأن الهجرة الشرعية سبب أساسي من أسباب التضخم وتدهور الاقتصاد، بالرغم من عنصرية حديثه عن المهاجرين ووصفه لهم بأوصاف مسيئة.
أضافت فدوى في حديث لـ”نون بوست” أن الأمريكيين يلاحظون بالفعل وجود ملايين من المقيمين غير النظاميين وأغلبهم من المكسيك وهاييتي وغواتيمالا وبقية دول أمريكا الجنوبية، لافتةً في هذا الصدد إلى أن أعداد المهاجرين العرب بشكل عام قليلة للغاية لذا هم غير مرئيين في أغلب الأحيان، قبل أن تستدرك أنه من الواجب عليهم الحذر من حملات شرطة الهجرة لأنها مُنحت سلطات واسعة هذه المرة تخول لعناصرها الدخول إلى المستشفيات والمدارس ودور العبادة.
وردًا على سؤال من “نون بوست” حول إمكانية توفيق أوضاع الـ13 ألف عربي الذين ظهروا في قائمة الأشخاص المهددين بالإبعاد من الولايات المتحدة، قالت المحامية المختصة في قضايا الهجرة، إنّ ذلك كان أسهل قبل أداء ترامب اليمين الدستورية وإصداره الأوامر التنفيذية، مشيرة إلى أنّ مكاتب المحامين قدمت آلاف الطلبات لممثليات إدارة الهجرة بهدف تعديل الأوضاع للمخالفين، أما حاليًا فتقتصر خيارات توفيق الأوضاع إما على الزواج من أمريكي أو أمريكية، أو مغادرة البلد بشكل طوعي إلى بلد ثالث لتجنب الاعتقال في ظروف قاسية لفترة غير معروفة المدة.
مضيفة أنه لا يزال من الممكن حتى الآن تقديم طلب لجوء لدى السلطات المختصة لكن إجراءات تسجيل الطلب ووصوله إلى المحكمة قد يستغرق بعض الوقت وخلال تلك الفترة قد يتعرض الشخص المعنى للاعتقال من قبل شرطة الهجرة (ICE).
كما شككت فدوى في قدرة إدارة ترامب على ترحيل كل من وردت أسمائهم في القائمة التي تضم 1.4 مليون مهاجر غير نظامي، لافتةً إلى أن ذلك يتطلب إرسال ما لا يقل عن 1000 مهاجر كل يوم على مدى 4 سنوات ما يعني الحاجة إلى 3 رحلات جوية يومية على الأقل وموافقة دول هؤلاء المهاجرين على استقبالهم.
واختتمت حديثها ل”نون بوست” بأنها تجزم بعدم قدرة ترامب على تنفيذ نحو 50% من أوامره الخاصة بالهجرة، أشارت في هذا الخصوص إلى الأمر التنفيذي الخاص بمنع حق المواطنة بالولادة الذي تم إيقافه بشكل فوري من قبل القضاة الفيدراليين لمخالفته الدستور، ولفتت إلى أن الولايات التي يحكمها ديمقراطيون مثل نيويورك وكاليفورنيا ترفض التعاون مع السلطات الفدرالية في اعتقال المهاجرين غير المتهمين بجرائم، ما يشكل تحديًا أمام إدارة ترامب.
نهاية الحلم الأمريكي؟
يرى الكاتب التركي قدير أوستون أن الرئيس دونالد ترامب حوّل “الحلم الأمريكي” -الذي جذب المهاجرين نحو الولايات المتحدة على مدى عقود وأسهم في استقطاب الخبرات والكفاءات من مختلف أنحاء العالم- إلى كابوس حقيقي عقب قرار إغلاق الحدود وترحيل المهاجرين بشكل جماعي.
في مقاله الذي نشرته صحيفة “يني شفق” التركية، قال أوستون إن “الحلم الأمريكي” كان قائمًا على فكرة أن أبواب الولايات المتحدة مفتوحة للجميع بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنسية، مما جعلها بالنسبة لملايين الناس حول العالم “أرض الفرص” التي يمكن لأي شخص أن يحقق فيها النجاح إذا عمل بجد.
ووفقًا للكاتب التركي، فإن نجاح المهاجرين الذين تسلقوا سلم النجاح حتى قادوا شركات بمليارات الدولارات، كان دليلًا حيًا على تحقق هذا الوعد. إلا أن الخطاب المناهض للهجرة، الذي شكّل حجر الزاوية في حملتي ترامب الانتخابيتين عامي 2016 و2024، وبلغ ذروته اليوم مع بدء عمليات الترحيل الجماعي، يوجه رسالة واضحة: “الحلم الأمريكي لم يعد مفتوحًا للجميع”.
خلاصة الأمر أنّ التهديد بإبعاد المهاجرين غير النظاميين إلى خارج أمريكا ومن بينهم 13 ألف عربي يعكس السياسات الشعوبية التي يتبعها دونالد ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض مثل فرضه رسومًا جمركيةً بنسبة كبيرة على الواردات من كندا والمكسيك والصين وغيرها من الدول، إلى جانب قراراته المثيرة للجدل مثل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية ومن مجلس حقوق الإنسان ومن اتفاقية المناخ.
ويرى خبراء أن استهداف ترامب للمهاجرين نابع من توجهاته العنصرية واعتناقه لنظرية تفوق العرق الأبيض. وحسب شبكة CNN فإنّ المهاجرين غير النظاميين يمثلون نحو 6% من سوق العمل خاصة العمالة غير الماهرة، وقد وصلت مساهماتهم في إيرادات الضمان الاجتماعي الذين لا يجنون فوائده إلى 100 مليار دولار أمريكي خلال 10 سنوات.
وفيما يتعلق بمصير الـ13 ألف مهاجر عربي المهددون بالإبعاد فإنه وعلى الرغم من التطمينات التي بثها محامو الهجرة من أنّ السلطات الأمريكية لا تستطيع طرد كل المهاجرين غير النظاميين فإنه من الأفضل توخي الحذر والعمل على توفيق الأوضاع أو مغادرة البلاد بشكل طوعي لتجنب الاعتقال لفترة غير محددة أو مواجهة قرار الترحيل إلى البلد الأصل الذي ربما تشكل العودة إليه خطورة على المهاجر.