سلّم اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية الأسبق في النظام السوري، نفسه إلى السلطات السورية الجديدة، الثلاثاء 4 فبراير/ شباط، في خطوة أثارت العديد من التساؤلات حول دوافعها، وما إذا كانت محاولة استباقية للنجاة من المحاسبة، أم نتيجة لضغوط متزايدة.
الشعار، الذي يُعتبر أحد أبرز الشخصيات الأمنية في نظام الأسد، ارتبط اسمه بسجل طويل من الجرائم والانتهاكات القمعية، سواء خلال فترة خدمته في لبنان، حيث لُقب بـ”سفاح طرابلس”، أو بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين تولى مسؤولية وزارة الداخلية في مرحلة شهدت قمعًا واسعًا بحق المتظاهرين وعمليات تصفية واعتقالات ممنهجة.
وتداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر فيه الشعار داخل سيارة في أثناء تسليم نفسه، وفي أول تصريح له عقب التسليم، قال الشعار في مقابلة مع قناة “الحدث” إنه سلّم نفسه طواعية، مشددًا على أن وزارة الداخلية لم تكن مسؤولة عن السجون غير الرسمية والأمنية، بل فقط عن السجون الرسمية.
كما أكد أنه “يضع نفسه تحت القانون، وأنه مستعد للخضوع للتحقيقات”، متوقعًا أن يكون هناك “رد فعل مناسب” من السلطات الجديدة، خصوصًا أن “ضميره مرتاح”، وفق تعبيره.
صعوده في هرم الأجهزة القمعية
وُلد محمد إبراهيم الشعار عام 1950 في مدينة اللاذقية الساحلية لعائلة سنية المذهب، حيث نشأ في بيئة عسكرية أمنية، أهلته لاحقًا للانضمام إلى المنظومة القمعية لنظام الأسد.
بدأ مسيرته العسكرية في القوات المسلحة السورية عام 1971، بعد تخرجه من الكلية الحربية، ليتدرج سريعًا في المناصب الأمنية، حتى أصبح أحد أبرز رجال الأمن في عهد حافظ الأسد، قبل أن يعزز مكانته أكثر مع تولي بشار الأسد السلطة.
في عام 2004، تولى الشعار رئاسة قسم المخابرات الجوية في درعا برتبة مقدم، وقائد الشرطة العسكرية، ورئيس فرع المنطقة 227 في دمشق 2006، ورئيس فرع الأمن العسكري في حلب ورئيس فرع الأمن العسكري في طرطوس.
يعتبر الشعار أحد المتورطين في مجزرة سجن صيدنايا في عام 2008، حيث جاء في موقع الذاكرة السورية تقارير تتهمه بالمسؤولية المباشرة عن المجزرة التي قُتل فيها 25 سجينًا سياسيًا، بالإضافة إلى دوره في تعذيب المعتقلين في الفروع الأمنية.
وتدرج في الرتب والمناصب، ليصبح في عام 2011 رئيسًا لفرع المخابرات الجوية في المنطقة الجنوبية، وهو الفرع المسؤول عن محافظات دمشق وريفها، درعا، القنيطرة، والسويداء، والذي كان يُعرف باسم “فرع الموت” نظرًا لسجله الحافل بالتعذيب والإعدامات الميدانية.
مع تصاعد الاحتجاجات عام 2011، منح النظام الشعار مزيدًا من النفوذ، فعُيّن في نيسان/أبريل 2011 وزيرًا للداخلية، رغم بلوغه سن التقاعد. كان هذا التعيين جزءًا من استراتيجية النظام لإحكام القبضة الأمنية على البلاد، حيث أشرف الشعار بشكل مباشر على قمع التظاهرات، وقاد حملات اعتقال جماعي، حصار مدن، وإدارة السجون السرية.
وحسب موقع “مع العدالة” فإن الشعار “جعل من بعض المخافر ومراكز شعبة الأمن السياسي أهدافاً لأعمال تخريبية مفتعلة تم إلصاقها بالمتظاهرين السلميين، وخاصة في مدينة حماة، حيث نسق مع أجهزة المخابرات تلك الاعتداءات التي تسببت في مقتل عناصر من قوى الأمن الداخلي بهدف إظهار المحتجين السلميين على أنهم قتلة”
وشملت مسؤولياته المباشرة إدارة عمليات الاعتقال الجماعي، تفريق المظاهرات بالرصاص الحي، وإعطاء الغطاء القانوني لعمليات القتل والتعذيب في السجون السورية. كما أشرف على استخدام قوات حفظ النظام، وشعبة الأمن السياسي، والمخابرات الداخلية التابعة للوزارة، في حملة قمعية ممنهجة ضد المدن الثائرة.
ورغم نجاته من محاولة الاغتيال في تفجير خلية الأزمة عام 2012، ظل الشعار في منصبه حتى 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، حين تمت إقالته، وعُيّن بدلاً من ذلك نائبًا لرئيس الجبهة الوطنية التقدمية، في خطوة اعتبرها البعض محاولة لإبعاده عن المشهد السياسي بعد سنوات من التورط في القمع الدموي.
“سفاح طرابلس”
في إطار الهيمنة العسكرية والأمنية التي فرضها النظام السوري خلال فترة الاحتلال السوري للبنان (1976-2005)، كان الشعار جزءًا من آلة القمع التي عملت على إخماد أي معارضة لنفوذ دمشق، ولعب دورًا رئيسيًا في الاغتيالات السياسية والاعتقالات القسرية.
لكن أكثر جرائمه وحشية وقسوة كانت في مدينة طرابلس شمال لبنان، حيث أصبح يُعرف باسم “سفاح طرابلس”، بعد أن أشرف على مجزرة باب التبانة في كانون الأول/ديسمبر 1986.
بالتنسيق مع الضباط غازي كنعان، وعلي حيدر، وعلي عيد، قاد الشعار القوات السورية بالتعاون مع الميليشيات العلوية في جبل محسن لتنفيذ حملة إبادة ممنهجة ضد سكان باب التبانة. وخلال هذه المجزرة، قُتل نحو 700 مدني، بينهم أطفال ونساء، في واحدة من أبشع الفظائع التي ارتكبتها القوات السورية خارج حدودها.
لم يكن الاقتتال الطائفي في طرابلس مجرد صراع محلي، بل كان امتدادًا لنهج النظام السوري في زرع الفتنة وإذكاء الانقسامات الطائفية، سواء داخل سوريا أو في لبنان.
وبدأ التوتر بين السنة والعلويين في المدينة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تحالف الحزب العربي الديمقراطي العلوي مع الجيش السوري ضد حركة التوحيد الإسلامي السنية، التي كانت تسيطر على مناطق واسعة من طرابلس.
ورغم اتفاقيات السلام التي حاولت تهدئة الوضع، استغل النظام السوري أي فرصة لإشعال الصراع، متذرعًا بملاحقة “المتطرفين”، بينما كان الهدف الحقيقي إحكام السيطرة على لبنان وإخماد أي مقاومة لوجوده العسكري.
في عام 1986، وبعد اعتقال قائد الجناح العسكري لحركة التوحيد سمير حسن، انتقمت قوات الحركة بقتل 15 جنديًا سوريًا، الأمر الذي استغله النظام لتنفيذ حملته الانتقامية الدموية ضد باب التبانة، حيث قتل واعتقل الآلاف، فيما زُج بمئات اللبنانيين في السجون السورية، ولم يُعرف مصير الكثير منهم حتى بعد سقوط النظام وفتح السجون.
بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، عاد الشعار إلى دمشق، لكنه لم يتراجع عن دوره الأمني، بل استمر في تنفيذ سياسات القمع داخل سوريا، بذات النهج الوحشي.
نجاته من تصفية “خلية الأزمة”
الحدث الأبرز كان تفجير مكتب الأمن القومي في دمشق في 18 يوليو/تموز 2012، وهو التفجير الذي استهدف كبار القادة الأمنيين لنظام الأسد خلال اجتماعهم في مقر خلية الأزمة. أسفر الهجوم عن مقتل وزير الدفاع داوود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ورئيس خلية إدارة الأزمة حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، فيما أصيب الشعار بجروح طفيفة.
نجاته من التفجير أثارت الكثير من التساؤلات، حيث أشارت بعض التقارير حينها إلى احتمال أن يكون التفجير مدبرًا من داخل النظام نفسه، بهدف التخلص من بعض الشخصيات الأمنية التي باتت عبئًا على الأسد أو كانت متورطة في جرائم جسيمة من الصعب التستر عليها. دعم هذه الفرضية غياب أي أثر واضح على المبنى بعد التفجير، والتقارير التي أفادت بأن أحد منفذي العملية كان حارسًا أمنياً ضمن الدائرة المقربة للقيادات.
بعد الحادث، نقل الشعار إلى لبنان لتلقي العلاج، وسط تكتم شديد حول مدى إصابته. لكن ظهوره لاحقًا وهو يستأنف مهامه عزز الشكوك حول مدى خطورة إصابته الحقيقية، وإن كان التفجير محاولة فاشلة لتصفيته، أم أنه كان مدركًا لما سيحدث، وتمت حمايته بأمر من دوائر عليا داخل النظام.
رغم بقاء الشعار في منصبه لعدة سنوات بعد الحادثة، إلا أن هذا التفجير مثّل نقطة تحول في مسيرته الأمنية، قبل أن يتم إبعاده نهائيًا عن المشهد السياسي عام 2018.
العقوبات الدولية
لم تمر الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها محمد الشعار دون أن تثير انتباه المجتمع الدولي، حيث كان اسمه حاضرًا في قوائم العقوبات الغربية منذ وقت مبكر من اندلاع الثورة السورية. ومع تصاعد القمع الوحشي بحق المتظاهرين، فرضت كل من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، وكندا عقوبات صارمة عليه، نظرًا لدوره المحوري في إدارة عمليات القمع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وتضمنت العقوبات تجميد أصوله المالية وحظر السفر وتصنيفه كمسؤول عسكري بارز تورط في العنف ضد المحتجين، وخاصة في مدينة حمص، التي شهدت واحدة من أعنف الحملات القمعية للنظام السوري، وتحميله المسؤولية عن عمليات الاعتقال الجماعي، التعذيب الممنهج، والقتل خارج نطاق القانون داخل المعتقلات التي كانت تتبع لوزارة الداخلية.
على الرغم من العقوبات التي طالت محمد الشعار، ظل حصن السلطة يحميه، متكئًا على منظومة أمنية مكّنته من الإفلات من المحاسبة لعقود. لكن مع سقوط النظام تغير الوضع وأصبح تحت سقف العدالة.
وبينما قال الشعار إنه سلم نفسه لأنه “ضميره مرتاح” أكدت وزارة الداخلية السورية أن الشعار، سلم نفسه لإدارة الأمن العام، بعد ملاحقات من قبل إدارة الأمن ومداهمة مواقع اختبأ بها خلال الأيام الماضية.
في الختام، يترقب السوريون ما ستؤول إليه قضية الشعار، في ظل سعي الملايين لتحقيق العدالة لأبنائهم وبناتهم، إلى جانب كشف تفاصيل العديد من الأحداث التي شهدها الشعار وظلت طي الكتمان، وعلى رأسها تفجير “خلية الأزمة”.