“الزوجة المكسيكية” هي رواية صدرت حديثًا وربما ذاع صيتها بعد ترشحها لجائزة الرواية العربية “البوكر” في القائمة الطويلة، في البداية إذا عرفنا فكرة الرواية الرئيسية ومحورها ربما تبدو قصة عادية ومكررة أو كما نقول بتعبير آخر “مهروسة ألف مرة”، وهذا لم يمنع ترشحها لجائزة كبيرة مثل البوكر واستحواذها على إعجاب قطاع كبير من القراء، وقد نختلف هنا عن مصدر هذا الإعجاب، هل هو القصة أم أسلوب الكاتب أم الحالة التي تضعنا فيها معلومة أن القصة حقيقية ورغم علمنا الكامل بنهايتها فإننا نكملها للنهاية.
القصة الحقيقية
“الزوجة المكسيكية” مبنية في الأساس على قصة حقيقية لزواج الكاتب يوسف إدريس من المعمارية روث ريفيرا ابنة أحد أهم فناني الجداريات في العالم دييجو ريفيرا، رغم أن زواجهم لم يدم طويلًا ولكن أظن معلومة مثل هذه كانت لتجذب أنظارًا كثيرة إلى يوسف إدريس وكل الحكايات والعوامل في تلك الفترة التي كتب عنها يوسف إدريس نفسه في رواية “البيضاء” ونشرها على حلقات في جريدة الأهرام قبل نشرها بشكل كامل، لكنه أبدًا لم يصرح بهذا الزواج إلا للمقربين منه، ولم يصرح أن أحداث الرواية مبنية على قصة زواجه الحقيقية، فقد استخدم بدلًا من الجنسية المكسيكية لزوجته الجنسية الإيطالية، ربما يظن القراء لأول وهلة أن عدم ذكر يوسف إدريس لهذا الزواج أو التصريح به قد ينفي مصداقية القصة ولكنها لم تبدأ بعد.
يوجد تصريح ولكن في الجزء الآخر من العالم
أول ما لفت نظر كاتب العمل الدكتور إيمان يحيى هو كتاب لمستشرقة روسية تدعى فاليريا كاربتشينكا – التي بالمناسبة كانت صديقة لعدد من الأدباء المصريين مثل نجيب محفوظ وترجمت أعمالهم إلى اللغة الروسية -، مع هذه المعلومة لن يجد القارئ استغربًا في معرفة أن يوسف إدريس صرح لفاليريا كاربتشينكا بهذا الزواج في واحد من تسجيلاته ودونتها السيدة في الكتاب الذي يترجمه الدكتور إيمان يحيى.
قال الكاتب إنه منذ هذه اللحظة استغرق سبع سنوات للوصول إلى تفاصيل هذه الزيجة التي لم يتم تغطيتها، فنحن نتحدث عن زواج في الخمسينيات استمر لبضعه أشهر ولم يتم إعلانه لأسباب “غالبًا” سياسية وسوف نعرف تحديدًا لماذا.
العبقرية في سرد العمل
إذا كنا سنبدأ في الحديث عن العمل نفسه، فيجب التنبيه إلى عامل من أهم عوامل نجاح هذا العمل وهو تعدد الرواية، حيث اعتمد السرد على ثلاثة خطوط رئيسية وهي:
الخط الأول: الأستاذ الجامعي والطالبة
من المفترض أن يكون هذا المحور هو الرئيسي في العمل، ولكن الكاتب كان أذكى من أن يحدثنا عن الواقعة غيبيًا، فالأبطال هم أستاذ جامعي وطالبته الأمريكية اللذان يبحثان عن أسرار رواية “البيضاء” ليوسف إدريس ويحاولان تجميع إشارات تدل على حدوثها وهي تقريبًا نفس الطرق التي بحث بها كاتب العمل الأصلي.
الخط الثاني: يحيى (يوسف إدريس)
ترك الكاتب اسم يوسف إدريس الذي استخدمه لنفسه داخل رواية “البيضاء”، وخلال الفصول المخصصة له يسرد الأمور من وجهه نظره كطبيب وكاتب ورجل منخرط بالعمل السياسي وأيضًا زوج شرقي له بعض الطباع الصعبة.
الخط الثالث: روث ريفيرا
في الفصول المخصصة لروث أيضًا نرى الحياة من وجهة نظرها سواء في قصة الحب أم الحياة في مصر وخلافتها مع زوجها، ولكن من منظور سيدة مثقفة ومتعلمة تعودت على الحياة وتكوين شخصية مستقلة لا تقوم بالاعتماد على جانب واحد فقط من حياتها حتى لو كان هذا الجانب هو الحب.
في البداية قد لا يكون أسلوب السرد جذابًا، بل ربما حدث بعض التشويش لتغير الراوي في كل فصل، لكن بعد فترة ندرك أن الرواية لن تكون بشكل أفضل من هذا خاصة لأننا نتحدث عن اختلاف ثقافتين هما مصر والمكسيك وأيضًا جنسين هما الذكر والأنثى، وإظهار هذا الخلاف ظهر في لحظات الحب ولحظات الانفصال، فطبيعة الحب مختلفة ونظرة الرجل مختلفة عن الأنثى في تقرير اللحظات المصيرية، وكذلك تفكيرهم النابع من ثقافات مختلفة تكرر عدة مرات في الرواية سواء على لسان الزوجة روث في قولها: “لست ضعيفة أقبل منك ما تقبله نساؤكم الشرقيات من الرجال” أو بتفكير الزوج يحيى عندما قال: “ولم يغادرني الفلاح القروي الذي يعيش تحت جلدي، أكتشف تدريجيًا الفرق بيننا وبينهم..”.
رواية الثورة والمستقبل والعالم الذي كان!
هذه الجملة هي آخر جملة مكتوبة في غلاف الرواية التي قد تفتح لنا آفاقًا أخرى مختلفة عن القصة الحالمة الرئيسية، فلم تكتف الرواية بتقصي أخبار حياة الزوجين الخاصة بل تسرد الفترة ما بين عامي 1953 و1954 على المستوى السياسي، فكما أسلفنا هناك فصول على لسان البطل يحيى، وكان في هذه الفترة منخرطًا في السياسة ومنضمًا لأحزاب شيوعية، لذا هذه الطريقة في السرد توفر لنا العديد من المعلومات عن الاعتقالات والتشويش الذي حدث للشعب بل وللسياسين بسبب التحول من الملكية إلى الجمهورية.
وكما ذكر الكاتب إيمان يحيى قد يكون هذا هو السبب في عدم ذكر يوسف إدريس لزواجه من روث ريفيرا، فهي ابنه أحد أكبر المناصريين للشيوعية في العالم، وفي هذا التوقيت اشتدت المراقبة على الشعب وكثرت حركة الاعتقالات.
رواية كـ”الزوجة المكسيكية” كانت تستحق بالفعل الترشح لجائزة الرواية العربية لأنها لا تخلو من سحر القصة الحقيقية، بالإضافة لأسلوب الكاتب الذي يقنعك بخروج فصول الرواية بمشاعر منفصلة بين الذكر والأنثى بكل براعة
وعلى الجانب الآخر فالفصول بسرد شخصية روث مختلفة تمامًا، فهي تحكي عن أجنبية تزور مصر لأول مرة ومندهشة بالحضارة والشوارع وبياع العرقسوس، هذا الجزء كان أشبه بوصف مصر وصفًا جماليًا خاليًا من السياسة، عكس فصول يحيى التي تتمحور حياته حول الجريدة وأعضاء الحزب والاجتماعات السرية.
رواية كـ”الزوجة المكسيكية” كانت تستحق بالفعل الترشح لجائزة الرواية العربية لأنها لا تخلو من سحر القصة الحقيقية، بالإضافة لأسلوب الكاتب الذي يقنعك بخروج فصول الرواية بمشاعر منفصلة بين الذكر والأنثى بكل براعة، وهذا قد يفتح أيضًا للقراء فرصة تجديد نظرتهم في حياة يوسف إدريس ليس فقط الكاتب بل والمناضل والطبيب والمحب.