ثلاث سنوات على انطلاق حراك الريف، فترة زمنية شهد خلالها الحراك الاحتجاجي الأهم في المغرب خلال العقد الأخير تطورات كبرى، جعلته يحتل صدارة الاهتمام المحلي والعالمي في العديد من الأحيان، الأمر الذي أقلق السلطات كثيرًا، حتى إنها عجزت عن مجاراته.
عجزها عن مجاراة الحراك والسيطرة عليه، حتم على السلطات المغربية اعتقال العشرات من نشطاء الريف الفاعلين على رأسهم ناصر الزفزافي، واستغلال ملفهم للمساومة، فمواصلة اعتقالهم أو العفو عن بعضهم يمكّن النظام من التحكم في سير الحراك وفق عديد من المغاربة.
حيثيات الحراك
في الـ28 من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2016، صادرت السلطات المحلية في مدينة الحسيمة (شمالًا) كميات كبيرة من سمك اشتراه شاب يدعى محسن فكري، وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة لثني الشاب عن مواصلة طريقه، إلا أنه قفز داخل الشاحنة لمحاولة جمع سمكه المصادر فهو مصدر رزقه الوحيد، غير أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت.
حادثة مروعة أثارت حفيظة أغلب سكان المدينة التي تعيش تحت وطئ التهميش الممنهج وفق وصف أبنائها، فخرجوا فرادى وجماعات إلى الشارع بطريقة عفوية احتجاجًا واستنكارًا على هول الحادثة، ليبدأ بذلك ما أصبح يعرف فيما بعد بـ”حراك الريف”.
طالب المحتجون حينها، بالإسراع بكشف مآل التحقيق في ملف وفاة الشاب محسن فكري، إلى جانب الإفراج عن المعتقلين على خلفية الأحداث الأليمة التي أعقبت احتجاجات “إمزورن” و”بني بوعياش” وإعطاء الأولوية للمطالب ذات الطبيعة الاجتماعية المتعلقة بالصحة والتعليم والتشغيل عبر خلق مؤسسة جامعية ومستشفى للسرطان، وخلق فرص للشغل عبر تقديم تحفيزات وامتيازات ضريبية للمستثمرين، حسب المحتجين.
فضلاً عن ذلك، طالب سكان الجهة برفع الطابع العسكري المفروض على منطقة الريف، وتجدر الإشارة إلى أن عسكرة الريف فُرضت على المنطقة إثر ثورة الريف خلال سنة 1959، وقد استغل الملك الحسن الثاني تلك الانتفاضة كذريعة لفرض قواعد عسكرية في هذه المنطقة المتمردة وتحييد الريف.
يرى مغاربة أن السلطات يمكن لها أن تطلق سراح بعض المعتقلين بين الفينة والأخرى حتى تنفس الأزمة الحاصلة
يرى أهالي الريف أن منطقتهم مهمشة بإرادة سياسية، كما يعتبرون أنفسهم من أكثر المنبوذين بين المغاربة، ويعود الاحتقار الذي يعاني منه هؤلاء إلى عهد الحسن الثاني ليتواصل اليوم مع الملك محمد السادس الذي كانت محاولته في تحسين وضعية سكان المنطقة والوعود بالاستثمار مجرد حديث لا أكثر، وفقًا لعدد من الأهالي.
ويؤكّد العديد من سكان ريف المغرب أن هذا التهميش نتيجة الهوة الكبيرة بينهم وبين السلطة، وقد تكرست هذه الهوة بفعل ردود الفعل العنيفة من الحكم المركزي “المخزن” في المغرب على انتفاضات واحتجاجات شهدتها منطقة الريف مباشرة إثر استقلال المملكة نهاية الخمسينيات وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
هذا التهميش جعل المنطقة تعيش أزمة كبيرة مست الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فكل القطاعات الاقتصادية بالإقليم مفلسة بالكامل أو على حافة الإفلاس بدءًا بقطاع الصيد البحري (الشريان الحيوي الذي يغذي سكان الجهة) الذي انهار بشكل شبه كلي خاصة بعد هجرة البحارة ومراكبهم إلى الموانئ الأخرى، وكذلك قطاع التجارة الذي يشهد ركودًا إلى جانب القطاع السياحي الذي لم يتحسن بعد.
محاولات السيطرة على الحراك
كل هذه العوامل جعلت حراك الريف يمتد إلى أكثر من منطقة، فقد خرج من حدوده الجغرافية وامتد إلى مدن عدة في المملكة منها العاصمة الرباط والدار البيضاء ومراكش، ووصل أيضًا عواصم عالمية كبرى كباريس وغيرها.
هذا الانتشار الجغرافي رافقه امتداد زمني، فرغم مرور ثلاث سنوات على بداية الحراك لم يتوقف الريفيون عن الخروج إلى الشوارع وإن كانت أعدادهم غير مستقرة، ما جعل السلطات الحاكمة في حيرة من أمرها في خصوص كيفية السيطرة على هذا الحراك والحد من انتشاره الجغرافي والزماني.
اعتمدت السلطات المغربية وسائل عدة للسيطرة على الحراك الشعبي في منطقة الريف، فشلت بعضها ونجح بعضها الآخر، وإن كان نجاحًا نسبيًا، بدأت بالتجاهل، ثم الخيار الأمني، فالوعود، فاستعمال القضاء والتخوين، اختلفت الوسائل إلا أن الهدف واحد وهو إخماد لهيب الاحتجاجات.
ورقة بيد النظام
أمام فشله في معظم الأساليب، رأى النظام أن يلجأ إلى استعمال ورقة معتقلي الحراك، وفق العديد من المغاربة، وذلك عوض أن ينتهج طريق الحكمة ويفتح الباب للمصالحة مع الريفيين والمجال لتجاوز أحقاد الماضي التي ميزت العلاقة بين الطرفين، كما هو معمول به في كل بلدان العالم التي تحترم المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان.
“ملف معتقلي الريف لم يخرج من يد النظام يومًا، فمنذ بداية الحراك عفويًا إلى أن أصبح حراكًا حقيقيًا، حاولت السلطة توقيفه بأي طريقة كانت فالدولة بما أن الحراك قائم وواقع على الأرض وممتد على التاريخ حاولت التعامل معه بطريقتين، أي بمنطق الدولة المغربية العصرية، هنا رأينا الحراك يرفع مطالبه دون تدخل، إلا أن نفس الحراك الطويل الذي فاجأ المؤسسات الموكول لها تدبير هذه القضية جعلها تتعامل معه بمنطق المخزن وتتصيد العثرات وتصنعها إن لزم الأمر ذلك”.
تسعى سلطات المغرب للسيطرة على حراك الريف مهما كلفها الأمر
من جهته، يقول الباحث المغربي عبد الوهاب السحيمي: “معتقلو حراك الريف ورقة في يد الدولة، ورقة يمكن استعمالها في أي احتقان مستقبلي كما تم استعمال سابقًا أوراق عدة منها معتقلي السلفية ومعتقلي ملف بلعيرج وغيرهم”، أضاف السحيمي في تصريح لنون بوست “الدولة تريد الاحتفاظ بالمعتقلين في السجون تحسبًا لأي احتقان مستقبلي خاصة في ظل الردة الحقوقية والأزمة الاجتماعية التي تعيشها البلاد”.
ويرى مغاربة أن السلطات يمكن لها أن تطلق سراح بعض المعتقلين بين الفينة والأخرى حتى تنفس الأزمة الحاصلة، حينها سيشيد أنصارها والمتمعشين من خيراتها بهذا القرار وسيتصدرون الإعلام للتصفيق للقرار، كونه قرارًا تاريخيًا وفق تصورهم.
بدوره يقول الصحفي المغربي رشيد العزوزي لنون بوست: “السنوات الطويلة غير المفهومة التي سيقضيها معتقلو الحراك في السجن هي رسالة ذات أبعاد إستراتيجية للسيطرة على حراك الريف وأي حراك مفترض يمكن أن يظهر، فالهامش الديمقراطي الذي يسمح بالاحتجاج مرتبط بمدى تغول العقلية المخزنية”.
“حل هذا الملف لن يكون إلا من خلال اعتماد مقاربة شاملة أساسها التصالحية التي يكون مدخلها تنمويًا بعيدًا عن تحكيم منطق فرض السيطرة على معتقلي الحراك”
يذكر أن الدستور المغربي في فصله الـ58، يمنح الملك الحق في العفو، فالملك له حق العفو الخاص باعتباره رئيس الدولة، وحق العفو العام باعتباره الممثل الأسمى للأمة، ويكون إما بإسقاط العقوبة كليًا أو جزئيًا أو استبدالها بعقوبة أخف منها، ويعني ذلك أن له أن يتدخل دستوريًا ويأمر بإطلاق سراح معتقلي حراك الريف متى أراد.
نهاية يونيو/حزيران الماضي، وزعت إحدى محاكم الاستئناف المغربية أكثر من 300 سنة سجن على 54 معتقلًا من نشطاء “حراك الريف”، كان النصيب الأعلى منها لزعيم الحراك وأيقونته ناصر الزفزافي، وتفاوتت التهم التي وجهتها النيابة العامة للمعتقلين بين المشاركة في تظاهرات غير مرخصة والمس بأمن الدولة التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
على الحكومة تحمّل مسؤوليتها
“الوضع الذي وصل إليه ملف حراك الريف، يستوجب على الحكومة تحمل مسؤوليتها الكاملة لحله والحيلولة دون تطوره سلبيًا، عوض استعمال بعض الملفات للسيطرة عليه وإخماده دون تحقيق مطالب الريفيين”، تقول الباحثة المغربية في المجال السياسي شريفة لومير.
تواصل اعتقال نشطاء الريف يؤجج الوضع أكثر
تضيف لومير لنون بوست “كان من المفروض على الحكومة تحمل مسؤوليتها في هذا الوضع المتأزم عوض الدخول في تحد مع هذا الحراك الذي كانت مطالبه واضحة بدلاً من تخوين أبناء الوطن ونشر خطاب الكراهية عبر التعاطي مع هذا الملف على أساس عرقي”.
وترى الباحثة المغربية أنه كان من الأجدر بالحكومة تحقيق وتنزيل المشاريع التنموية التي كانت مخططة للمنطقة على أرض الواقع ودعم المنطقة اقتصاديًا وتنمويًا، فذلك السبيل الوحيد لفض هذا الحراك المتواصل منذ قرابة الثلاث سنوات، مؤكدة “حل هذا الملف لن يكون إلا من خلال اعتماد مقاربة شاملة أساسها التصالحية التي يكون مدخلها تنمويًا بعيدًا عن تحكيم منطق فرض السيطرة على معتقلي الحراك والتحكم في مصيرهم خدمة للنظام”.