كان لفوز الكاتب السوداني حمور زيادة بجائزة نجيب محفوظ عن روايته “شوق الدرويش” عام 2015، أثر في إظهار الأدب السوداني من جديد للواجهة، فبتدقيق صغير على مجمل حركة الأدب العربي يمكن للقارئ المتابع ملاحظة فتور الاهتمام بالأدب السوداني باستثناء ثلة من الأدباء السودانيين المعروفين الذين نالهم من الاستحسان ما لم ينل غيرهم من الكتاب أمثال الطيب صالح في الرواية والبشير التيجاني في الشعر وعلي المك في التدوين والبحث.
وكما رأى الأديب الراحل أحمد خالد توفيق حول أثر شهرة عمل واحد على مسيرة الكاتب، حيث يأخذ بهم إلى النجومية ثم يصبح كل ما يكتبونه بعد ذلك خاضعًا لسلطة النقد والتنحية مما يجعل المؤلف حبيسًا لعمله الشهير، فعاد كل ما يكتب بعده فرصة للمقارنة المكررة، كانت تلك واحدة من مشكلات الأدب السوداني كما غيره.
ولكن ليس هذا العائق الوحيد أمام الفتور الذي يعيشه الأدب السوداني، إذ تأتي صعوبة نشر الكتاب السودانيين لأعمالهم ومؤلفاتهم بسبب ما يمر به السودان من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية صعبة تقف حاجزًا كبيرًا أمام إمكاناتهم وبالأخص في الوقت الراهن، إلا أن هذه التغيرات الحاليّة هي أيضًا ما يحرك شريحة واسعة من الشباب السوداني نحو أبواب الفن والكتابة وحتى التدوين في محاولة للتعبير عن أنفسهم وطموحاتهم مما يدفعنا لإلقاء الضوء على أبرز مراحل الأدب السوداني وتطوراته وأعماله.
تحولات
إن كان علينا الحديث عن أبرز تحولات الأدب السوداني، فلا بد من الحديث عن فترات متقطعة ومتباعدة نسبيًا شكلت أساس الأدب السوداني وأخرجت أشهر مؤلفيه وكتابه، فقد كانت فترة الخمسينيات حتى أواسط الستينيات من القرن الماضي منطلق بداية متعثرة أحيانًا ومندفعة أحيانًا أخرى في حقل الكتابة والتدوين السوداني، معتمدة على مجموعة من روايات الأدباء الراحلين كرواية “إنهم بشر” لخليل صالح و”الفراغ العريض” لملكة الدار أحمد و”الحائط القصير” لأبو بكر خالد الذين كانوا حجر الأساس للفترة التي ستأتي بعدهم بأفضل محاصيل الأدب السوداني، متأثرين بالأدب العربي في محيطهم وعلى وجه الخصوص الأدب المصري الذين كانوا يتابعون تطوراته باستمرار في الصحف للعقاد والمازني وطه حسين الأمر الذي أكسبها شكلًا أشبه للرواية الرومانسية والشعبية.
أما ما جاء بعدها فقد كانت مرحلة برزت فيها كتب النقد والنثر والكتابة الموضوعية التي لم تكتسب شكًلا كاملًا فبقيت متفرقة عن بعضها البعض الأمر الذي ما زال حتى الآن يعطي الأدب السوداني حالة من الضياع بين رفوف الرواية والنقد العربي، ما أدى إلى جهل الكثير من القراء المبتدئين والمتمكنين – أحيانًا – بثراء الأدب السوداني، ومن أبرز كتّاب هذه الحقبة عبقري الرواية العربية الطيب صالح وعيسى الحلو وإبراهيم إسحاق.
من أبرز مميزات هذه الفترة أن كل ما أنتج فيها من مؤلفات كانت مختلفة تمامًا عما اعتاد الأدب السوداني الظهور فيه
وفي الفترة الثالثة التي تعد من أكثر الفترات التي أظهرت قدرات الأدباء السودانيين على منافسة عظماء الأدب العربي وأكثرهم شهرة، ظهر خلالها عدد كبير من المؤلفين الذين برزت أعمالهم ونالت جوائز على مستوى الوطن العربي والأجنبي مما أكسب الرواية والشعر السوداني مكانة واسمًا منفردًا عند القارئ العربي، ومن أبرز مميزات هذه الفترة أن كل ما أنتج فيها من مؤلفات كانت مختلفة تمامًا عما اعتاد الأدب السوداني الظهور فيه، فلم تكن تشبه مقالات الصحف وتدوينات المجلات الأدبية، بل انفردت بقضايا تخص السودان وحده كوصف أحوال المجتمع السوداني وتحليل اتجاهات السياسة السودانية والتعقيب عليها كرواية “المجالس” لكاتبها عبد الماجد عليش، الذي تناول فيها التفكك الذي يعيشه المجتمع السوداني قبل صدور الرواية بما يقارب 19 سنة.
أهم الأعمال
رغم سيطرة الرواية المصرية والسورية وحتى الأجنبية على اهتمامات الكاتب العربي، فإن هناك الكثير من التجارب السودانية التي تستحق الإشادة بإمكانيات الأدب السوداني وتميزه بقربه من نقل صورة المجتمع السوداني والخروج عن النطاق المعروف من أدب سجون وسرد طويل، وهنا محاولة لإعادة النظر في بعض هذه المؤلفات.
أعمال الطبيب الروائي أمير تاج السر أجملها رواية “366” المنفردة بخفة سردها وطابعها الرومانسي الغائب عن الرواية الرومانسية العربية، فيما يقوم أساس الرواية على مجموعة من الرسائل يكتبها أستاذ عاشق من الطبقة الفقيرة لمحبوبة لا يعرف عنها إلا اسمها، فيشرح فيها – على عكس ما تقدمه الرواية الرومانسية – حلاوة ومتاهات الحب من طرف واحد بأسلوب إبداعي مميز.
الرواية صادرة عن دار العربية للعلوم ناشرون” في بيروت، كما حازت على لقب النسخة العربية لجائزة “بوكر” العالمية للرواية.
كان القلم النسائي في الأدب السوداني منطويًا لفترة طويلة استمرت طيلة سنوات الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي
“إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء”، هي قطعة فنية للكاتب الطيب صالح من روايته المعروفة “موسم الهجرة للشمال” التي شرح فيها العلاقة بين الشرق والغرب من خلال قصة شاب سوداني يذهب للتدريس في إحدى جامعات بريطانيا ويلتقي هناك بزوجته المتمردة على العرف العربي، ليعود لاحقًا إلى أرض السودان ويكتشف مفاجأة تدور حولها الأحداث.
نشرت هذه الرواية بداية في مجلة حوار عدد سبتمبر/أيلول 1966، ثم نشرت بعد ذلك في كتاب مستقل عن دار العودة في بيروت في نفس العام، بالإضافة إلى أنها واحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين على مستوى الوطن العربي، وتم تحويلها لاحقًا إلى فيلم سينمائي.
كان القلم النسائي في الأدب السوداني منطويًا لفترة طويلة استمرت طيلة سنوات الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنه كان هناك بعض الأسماء البارزة في الأدب النسائي أمثال الكاتبة ملكة الدار عبد الله التي صدر لها رواية “الفراغ العريض” في خمسينيات القرن الماضي وأوغلت من خلالها في سبر أغوار سيكولوجية المرأة السودانية وشرح مشاعرها تجاه الهيمنة الذكورية على العديد من جوانب حياتها، بالإضافة إلى وجود كتابات تنتمي إلى القصة القصيرة مثل كتابات القاصة آمال عباس العجيب، وآمنة أحمد المعروفة بآمنة بنت وهب، والقاصة سلمى أحمد البشير.
إبداعات مستمرة
حقق الجيل الأخير من الكتّاب السودانيين إنجازات كبيرة وواضحة وصلت بهم إلى القوائم العالمية المعروفة كروايات القاص أمير تاج السر في 2017 و2018، ووصول رواية شوق الدرويش لكاتبها الشاب حمور لقائمة جائزة البوكر العربية عام 2016، بالإضافة إلى فوز رواية “مسيح دارفور” للكاتب بركة ساكن بجائزة سين الأدبية بسويسرا، كما حدثت الكثير من التحولات النوعية في الرواية والشعر، إذ اتسمت بالعمل على نقد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع والحكومة السودانية مثل روايات حمور زيادة والحسن البكري وأحمد المك.
الأوضاع التي تمر بها البلاد حاليًّا تشكل فرصة ذهبية للاطلاع على حركة الأدب والنقد العربي والعالمي
لكن، ما زال هناك حتى الآن ما ينقص الأدب السوداني وهو غياب النقد والبحوث السودانية التي تجعل كتّاب المنطقة منطويين على ذاتهم وغير مطلعين على النقد العالمي، ففي محاضرة للباحث والمؤرخ للحركة الأدبية السودانية البروفيسور عبد الله حمدنا الله، أرجع فيها تراجع قراءة الأدب السوداني عما يجب أن يكون عليه في الحقيقة – نظرًا لعراقة الأدب السوداني على مر التاريخ – لأسباب تتعلق بضعف حركة النقد مقارنة بحجم الإنتاج.
إلا أن الأوضاع التي يمر بها السودان حاليًّا تشكل فرصة ذهبية للاطلاع على حركة الأدب والنقد العربي والعالمي بالإضافة إلى اتساع سقف الحرية أكثر مما كان عليه في الماضي، وانتشار شبكات الإنترنت التي ستمكن من الاطلاع والمعرفة على الآداب العالمية والعربية مما سينعكس بالتالي على تطور نافذة الكتابة الإبداعية والنقد وحتى الصحافة وزيادة الإقبال عليها من العامة والقراء.