عندما يلتقي الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين لا يقتصر الأمر على القضايا الثنائية بالضرورة، ولا يجد الرجلان بُدًا من الحديث عن الوضع في سوريا عامةً، ومحافظة إدلب ومحيطها بصورة خاصة، هناك حيث 4 ملايين مدني كثير منهم نازحون ومعنيون مباشرة بآخر قمة جرت بين بوتين وأردوغان في موسكو، لما قد يكون لها من تأثير على مصيرهم، فضلاً عن ذلك، لتركيا ورسيا ملفات أخرى، ومراكز اهتمام عديدة، بينها السلاح وصفقاته المغرية.
تقارب في مجال صناعة الدفاع
للمرة الأولى تُفتح قُمرة طائرة “سوخوي 57” العسكرية السرية حتى الآن أمام رئيس أجنبي، ليكون الرئيس التركي أول رئيس يتعرف على الطائرة عن قرب، في دلالة لافتة على المستوى الذي وصل إليه التعاون العسكري بين تركيا وروسيا.
لم يخف على عدسات الكاميرات الحاضرة في موسكو مدى الحفاوة التي لاقاها الرئيس التركي من نظيره الروسي بوصفه الضيف الأهم في افتتاح معرض “ماكس-2019” الدولي للطيران والفضاء، الذي يُقام كل عامين في مطار جوكفسكي بضواحي العاصمة الروسية، وهو أكبر معرض للطائرات في أوروبا الشرقية.
جذب الضيف التركي، العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، نحو الاعتماد أكثر فأكثر على الصناعات العسكرية الروسية، ودفع أنقرة للاقتراب من موسكو على حساب واشنطن قد لا يعني بالضرورة تطابق وجهات النظر تجاه الملف الأكثر تشابكًا بين الدولتين
استغل بوتين وأردوغان هذه المناسبة ليستعرضا أحدث الطائرات الحربية الروسية الموجودة في المعرض بنسخته الـ14، وتلقى أردوغان معلومات عن الطائرات المعروضة من بوتين والمسؤولين الروس، على أمل عقد صفقة مماثلة لصفقة “إس 400” التي تسلمت أنقرة الدفعة الثانية منها بالتزامن مع هذه القمة، في خطوة أخرى قد تزيد من توتر العلاقات مع الولايات المتحدة التي سبق أن هددت بفرض عقوبات على عملية الشراء.
لم تتصرف واشنطن بعد بناء على هذا التهديد، لكنها بدأت الشهر الماضي بإزالة تركيا من برنامجها لتصنيع الطائرات من طراز F-35، التي تخطط تركيا أيضًا لشرائها، وردًا على ذلك، قال أردوغان إن تركيا ستتجه إلى أماكن أخرى لتلبي احتياجاتها.
وبالفعل، لم يخف الرئيس التركي رغبته في الحصول على هذه الطائرة وغيرها من النماذج المتطورة، ليؤكد له نظيره الروسي وجود هذه الإمكانية، بما فيها مقاتلة الجيل الخامس التي تشارك في قصف منطقة خفض التصعيد في إدلب الخاضعة لاتفاق البلدين.
بوتين وأردوغان يستعرضات أحدث الطائرات الروسية الموجودة في معرض “ماكس 2019”
خلال المؤتمر الصحفي المشترك، كشف قادة روسيا وتركيا مناقشات جرت بشأن توسع محتمل في التعاون بمجال صناعة الدفاع، ولفت بوتين إلى مشاريع مشتركة باتت في الطريق، وقال: “تحدثنا عن التعاون بشأن مقاتلة “سوخوي 35″، وأيضًا عن إمكانية العمل بشأن المقاتلة الجديدة “سوخوي 57″، وأعتقد أنها حازت اهتمام شركائنا الأتراك، وليس من حيث الشراء فحسب، بل من حيث الإنتاج المشترك، ونحن مستعدون لذلك، وسنناقش هذا الأمر بنشاط فيما يتعلق باتجاهات محددة”.
لكن جذب الضيف التركي، العضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، نحو الاعتماد أكثر فأكثر على الصناعات العسكرية الروسية، ودفع أنقرة للاقتراب من موسكو على حساب واشنطن قد لا يعني بالضرورة تطابق وجهات النظر تجاه الملف الأكثر تشابكًا بين الدولتين، المتمثل في التطورات العسكرية في محافظة إدلب، المعقل الأخير للمعارضة السورية المسلحة والملجأ الأخير أيضًا لملايين السوريين النازحين من شتى أرجاء البلاد هربًا من جيش بلادهم والميليشيات الموالية له.
تباعد بشأن إدلب
مع اختتام القمة التي جمعت الرئيسين الروسي والتركي، بدا واضحًا أنها أخذت شقين مختلفين: الأول بدا توافقيًا وحمل رسائل إقليمية ودولية على متن الطائرة الأحدث روسيًا على الرغم من استمرار الخلافات بشأن الوضع في شمال غرب سوريا، حيث يستمر الهجوم الحكومي المدعوم من موسكو منذ أواخرأبريل/نيسان، والثاني ظهر واضحًا في اللقاء الصحفي بلا أي تقدم أو اتفاق بشأن ملف إدلب.
في الساعات الأولى للمعرض الروسي، طلت السياسة بأبعاد إقليمية عبر قمة روسية – تركية جمعت الرئيسين الروسي والتركي، ومن جديد، خيَّم الوضع المتدهور في سوريا على مباحثات لم تُفض إلى اتفاق يُنقذ اتفاق إدلب بين الدولتين، وهو الاتفاق الذي أصبح تنفيذه مهمة معقدة باعتراف الرئيسين.
الملاحظ خلال المؤتمر الصحفي هو محاولة الرئيس التركي حصر اللوم فيما يجري هناك على النظام السوري، فيما تجنب الحديث عن الدور الروسي بخرق اتفاق سوتشي في إدلب، والتركيز على قوات النظام السوري
خلال حديثهما، تمسك بوتين وأردوغان بمواقف بلديهما المتضادان تقريبًا تجاه التطورات الميدانية في إدلب، إلا أن تصريحاتهما لم تحمل جديدًا، فالقراءات المختلفة للمشهد الميداني في إدلب تركزت حول وجود مجموعات تصفها موسكو بـ”الإرهابية”، وترى أنقرة ضرورة عدم اتخاذها ذريعة لتعميق معاناة المدنيين.
وجهة النظر الأولى عبَّر عنها بوتين، بقوله إنه اتفق مع نظيره التركي بالقضاء على من وصفهم بـ”الإرهابيين” في إدلب، الذين يهاجمون بحسب قوله القوات والمواقع الروسية وقوات النظام السوري بشكل مستمر، كما اتفقا بحسب قوله على “خطوات مشتركة إضافية” من أجل “تطبيع” الوضع في إدلب، لكنه لم يقدم أي تفاصيل، مشيرًا إلى القيام بما يلزم بهذا الخصوص ودعم جهود خفض التصعيد شمال غرب سوريا.
تصريحات بوتين ركزت أيضًا على تنشيط تفاهمات سوتشي بما “يحفظ الأرض السورية وإنجاز لجنة الدستور مع وجوب تأمين الحدود بين أنقرة ودمشق”، وقال في إشارة الى اتفاق سبتمبر 2018 بين البلدين الذي منع هجومًا سوريًا كبيرًا على الجيب في ذلك الوقت: “الوضع في منطقة التصعيد بإدلب يثير قلقنا الشديد وشركائنا الأتراك”، مؤكدًا عزم موسكو المضي في التسوية وفقًا لمخرجات أستانة.
صعدت سوريا وروسيا قصف إدلب، مما أدى إلى مقتل 500 شخص على الأقل، وفقًا للأمم المتحدة
تصريحات بوتين بما فيها زعمه دعم جهور خفض التصعيد في إدلب قابلها أردوغان بتصريحات مختلفة تمامًا لم تتغير خلالها نظرة أنقرة تجاه إدلب، فقد اعتبر أن عمليات النظام السوري تعطل الهدوء الذي حدث بعد أن وافقت تركيا وروسيا – اللتان تدعمان الأطراف المتصارعة في الحرب السورية – في العام الماضي على تحويل محافظة إدلب إلى منطقة لخفض التصعيد، وفق ما يسمى تفاهم سوتشي.
وقال أردوغان في حديث مع الصحفيين إلى جانب بوتين، إنه من غير المقبول أن تمطر القوات السورية “الموت على المدنيين برًا وجوًا بدعوى محاربة الإرهاب”، وأضاف “لا نريد أن يستمر هذا. سيتم اتخاذ جميع الخطوات اللازمة هنا حسب الحاجة، أصبح الوضع في إدلب معقدًا لدرجة أن قواتنا في هذه اللحظة في خطر”.
رغم التوافق الظاهري في الحديث عن استئصال الإرهابيين وحماية المدنيين، وحديث الرئيس الروسي عن حق تركيا في اتخاذ كل الإجراءات التي تحمي بها حدودها الجنوبية، فإن ذلك قد لا يعني أبدًا وقف موسكو دعمها اللامحدود لقوات الأسد
الملاحظ خلال المؤتمر الصحفي هو محاولة الرئيس التركي حصر اللوم فيما يجري هناك على النظام السوري، فيما تجنب الحديث عن الدور الروسي بخرق اتفاق سوتشي في إدلب، والتركيز على قوات النظام السوري، وهو ما يشير وفق الكثيرين عدم وضوح السياسة التركية بخصوص إدلب شمال سوريا منذ البداية، فيما ردَّه آخرون بمصالح تركيا المتشابكة في سوريا بما فيها شرق الفرات والمنطقة الآمنة التي أخذت حيزًا في المؤتمر الصحفي، أو ما وُصف بحسب ناشطين بضوء أخضر روسي.
أمَّا ذِكر أردوغان لاتفاقية سوتشي المبرمة مع روسيا في سبتمبر/أيلول 2018، واشتراطه وقف هجمات قوات النظام السوري ضد المدنيين لاستمرارها، فقد أشارت بشأنه وسائل إعلام تركية إلى حجم اختلاف وجهات النظر مع روسيا، وربما التهديد بإعلان فشلها رسميًا قريبًا، لا سيما مع تكرار أردوغان حديثه باستضافة أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري.
باستثناء تلك التصريحات التركية التي استثنت القوات الروسية الداعمة للأسد من المعادلة الروسية، لم يُظهر هذا اللقاء على ما يبدو أي مؤشر يدل على عظم حجم الخلاف بين تركيا وروسيا فيما يتعلق بإدلب، فالزيارة شهدت بحسب متابعين توسيعًا ملموسًا لآفاق العلاقات الثنائية وتضمنت فعاليات ومشاهد تعكس ارتياحًا بين الطرفين.
علاقات في مرحلة الاختبار
رغم التوافق الظاهري في الحديث عن استئصال الإرهابيين وحماية المدنيين، وحديث الرئيس الروسي عن حق تركيا في اتخاذ كل الإجراءات التي تحمي بها حدودها الجنوبية، فإن ذلك قد لا يعني أبدًا وقف موسكو دعمها اللامحدود لقوات الأسد، رغم تداعياته الإنسانية والأمنية الكبيرة على أنقرة باعتبار أن حدودها مع إدلب ستكون المقصد الأول والأخير لأي موجة لجوء جديدة للسوريين يمكنها أن تعمل على تهديد أمن تركيا القومي.
مع إصرار روسيا والنظام السوري على حسم معركة إدلب عسكريًا وتمسك تركيا بحقها في حماية أمنها القومي، تضيق المسافة بين موسكو وأنقرة في التقارب بشأن الملف السوري
لكن لا يبدو أن روسيا – التي دخلت في معارك إدلب وحماة بقوات برية وسلاح الجو – مكترثة بأمن تركيا، خصوصًا مع استمرار عملية قضم مناطق محررة – مثل منطقة خان شيخون الإستراتيجية – تعدها أنقرة خسارة مدوية لنفوذها في الشمال السوري، وذلك بحجة وجود إرهابيين، علمًا أن هذه هي الجحة ذاتها التي جرى تطبيقهافي مناطق سيطرة قوات المعارضة السورية والفصائل المقاتلة كجيش العزة والجبهة الوطنية جنوب إدلب وشمال حماة، فضلاً عن الغوطة الشرقية ودرعا وحمص وغيرها من المناطق سابقًا.
يأتي ذلك في وقت شهدت فيه المنطقة خسائر بشرية هائلة، ونجح النظام السوري في السيطرة على مناطق واسعة وإستراتيجية، وصولاً إلى محاصرة نقاط مراقبة عسكرية تركية كما حدث في ريف حماة الشمالي، ومهاجمة قوات النظام السوري قافلة عسكرية في حادثين منفصلين، رغم أن كل تلك المناطق مشمولة باتفاق خفض التصعيد، ورغم ضمان روسيا وتركيا الاتفاق الذي رُسمت معالمه أكثر من مرة في أستانة وسوتشي، وهو ما يطرح تساؤلات من جديد عن تماسك التفاهمات الروسية التركية بشأن إدلب، وربما القضية السورية بشكل عام.
ومع إصرار روسيا والنظام السوري على حسم معركة إدلب عسكريًا وتمسك تركيا بحقها في حماية أمنها القومي، تضيق المسافة بين موسكو وأنقرة في التقارب بشأن الملف السوري، إلا أن هذا لا يبدو عائقًا أمام آفاق واسعة يسعى الجانبان لفتحها في مجال التعاون التقني والعسكري، وهو ما يرى فيه البعض فرصة تشير إلى أن كلا الزعيمين لا يزالان على الطاولة ومستعدين للتفاوض وعلى استعداد للتحدث بشأن كيف يمكنهم الوصول إلى أرضية مشتركة فيما يتعلق بسوريا وإدلب.
في المقابل، لم تحجب هذه النقطة على وجه التحديد التساؤلات، وربما حتى الاتهامات، التي باتت توجهها أطراف سورية معارضة لتركيا بالعجز عن أداء الدور المُنتظر منها كضامن رئيسي لمناطق خفض التصعيد وتفضيل تطوير العلاقات مع موسكو على حساب التزاماتها مع الفصائل السورية المعارضة والحاضنة الشعبية لهم.
وعلى ما يبدو فإن خيارات تركيا في المشهد السوري أصبحت تخضع لتوازنات دقيقة، فوصول أجزاء جديدة من منظومة الدفاع الروسي “إس 400” إلى أنقرة يتزامن مع بدء التنفيذ الفعلي لإقامة المنطقة الآمنة شرق نهر الفرات وفق الاتفاق الأمريكي – التركي.
كانت تركيا قد اتهمت الولايات المتحدة من قبل بالتوقف وتطالب واشنطن بقطع علاقاتها مع وحدات حماية الشعب الكردية
تنفيذًا لهذا الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الإدارة الذاتية التابعة لوحدات حماية الشعب الكردية شمال شرقي سوريا أنها شرعت في تنفيذ أولى مراحل ذلك الاتفاق، وأزالت بعض السواتر الترابية وسحبت تشكيلات مسلحة لها مع أسلحتهم الثقيلة من المواقع الأمامية على طول الحدود التركية إلى مناطق جديدة.
كل ذلك يصب مبدئيًا في مصلحة أنقرة التي تضغط من أجل المنطقة الممتدة شرق نهر الفرات باتجاه الحدود العراقية لدفع قوات سوريا الديمقراطية المتحالفة مع الولايات المتحدة التي يغلب على سكانها الأكراد بعيدًا عن حدودها.
في 7 من أغسطس/آب الحاليّ، وافقت أنقرة وواشنطن على إنشاء مركز عمليات مشترك لتنسيق وإدارة وإنشاء المنطقة المخططة، لكنهما لم يعطيا إلا القليل من التفاصيل عن الصفقة التي تشمل دوريات مشتركة، وستدخل حيز التنفيذ على مراحل.