قرية “البوعكاش” في مدينة الصقلاوية التابعة لمحافظة الأنبار العراقية ، باتت خالية اليوم من الرجال وأصبحت منطقة يقتصر سكنتها على النساء والأطفال ، بسبب عمليات التغييب التي تعرض لها الرجال هناك خلال عمليات استعادة المدينة من سيطرة داعش الإرهابي منذ ثلاث سنوات، على يد فصائل مسلحة شاركت في عمليات تحريرها إلى جانب الجيش العراقي والقوات المحلية.
ذوو المفقودين دون مستوى خط الفقر
يعاني ذوو المفقودين من واقع مترد ومأساوي نتيجة غياب المعيل، إذ ينفق الحاج ناجي إبراهيم ذو السبعين سنة، وهو أحد سكان منطقة الصقلاوية في محافظة الأنبار العراقية راتبه التقاعدي على نحو ثلاثين فرداً، من عوائل أولاده الأربعة المغيبين خلال عمليات التحرير.
أما أم شاكر فهي ليست أحسن حالاً إذ غيب زوجها في مدينة الصقلاوية أيضاً بسيناريو مشابه لأكثر من سبعمئة شخص ، تعيش الآن في مخيم، بعد أن تعرض منزلها إلى الدمار نتيجة العمليات العسكرية ، وتعيل اليوم أكثر من 14 شخصاً جلّهم من الأطفال، وتشكو غياب الدعم الحكومي ومساعدات المنظمات المعنية، وتقول إن تجاهل السلطات العراقية لقضيتهم حوّل حياتهم إلى “جحيم حقيقي”.
النكبة ثانية.. منازل ذوي المفقودين مدمرة
لم تقتصر معاناة ذوي المغيبين على هذا النحو، فالمصائب لا تأتي فرادى ، منازلهم التي دمرت خلال العمليات العسكرية، وعدم جدية السلطات العراقية في صرف تعويضهم وبيروقراطية الدوائر الحكومية في العراق أخّر ملف تعويضهم، وهذه المشكلة، ليست في مدينة الصقلاوية فحسب، بل في أغلب المناطق المحررة ، مئات العوائل المفجوعة تعيش اليوم إمّا في مخيمات كرفانية أو في هياكل لا تقي حراً ولا بردا.
وتتهم منظمات إنسانية الحكومة العراقية بعدم احترام حقوق الإنسان وتؤشر عليها إهمال المناطق المحررة بصورة عامة والصقلاوية بصورة خاصة أيضاً ، رغم مصادقتها على الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان إلا أنها لم تقم بأي دور يتناغم مع هذه الاتفاقيات والالتزامات.
مصير المغيبين مرتبط بقرار سياسي
على الرغم من كونه ملفا إنسانيا بالدرجة الأولى، فإنه لا قدرة لأي جهة حكومية على إعادة فتح ملف المغيبيين وكشف مصيرهم، وإعادته إلى الواجهة بحاجة إلى قرار سياسي تدعمه جهة متنفذة.
الحكومة المحلية في الأنبار باتت عاجزة وتخشى الحديث عن أوضاعهم، وكذلك نواب المحافظة الذين رفض أغلبهم الحديث عن الموضوع، والحكومة الاتحادية هي الأخرى تعاطت مع ملف المغيبين بشكل خجول، واكتفت بتشيكل اللجان دون أي نتائج تثلج صدور ذويهم.
وأكد عضو مجلس محافظة الأنبار عيد عماش في تصريح لــ”نون بوست” أن “الحكومة المحلية حصرت أعداد المغيبين من الصقلاوية وفاتحت الحكومة المركزية في بغداد للكشف عن مصيرهم”، وأن هناك مباحثات مستمرة بشأن المفقودين خلال عمليات تحرير المدينة.
وقال المسؤول المحلي إن “معاناة المغيبين وذويهم مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات” خصوصاً أنهم “لا يعرفون مصير المفقودين إن كانوا أحياء أم أموات وأوضح أن العوائل تفترش الأرض وتلتحف السماء، وعلى الحكومة توفير بيئة أفضل لهم.
كما طالب عماش السلطات العراقية بكشف مصيرهم، وأوضح أن الحكومة المحلية “لا تعرف أين هم الآن ولا تستطيع اتهام أي جهة لا سيما بعد نفي القوات الأمنية وجود معتقلين لديها”.
المناطق المحررة.. جرائم حرب وإبادة
نائب رئيس مفوضية حقوق الإنسان في العراق علي ميزر أكد في مقابلة مع “نون بوست” أن “المناطق المحررة من سيطرة داعش بعد سنة 2014 تعرضت إلى “جرائم حرب وإبادة جماعية “ضد الإنسانية ” وكشف عن تسلم المفوضية ” لأكثر من 7 آلاف بلاغ يتحدث عن عملية تغييب، وأوضح أنّ “الشكاوى تنوّعت من حيث الجهة المتّهمة بالخطف والتغييب، فمنها ما قُدِّمَ ضدّ الحشد الشعبي، وقوات البيشمركة الكردية، والقوات العراقية بصورة عامة” فهذه الجهات هي المتهمة بتغييب ذويهم كما يدّعي ذوو المختطفين.
ترويج المعاملات.. سنة كاملة ومبالغ باهظة
وحملت مفوضية حقوق الإنسان الحكومة العراقية مسؤولية إهمال قضية المغيبين، وأكدت أن ذويهم لم تنجز معاملاتهم التحقيقية في المحاكم المحلية بسبب الإجراءات الشكلية من قبل السلطات القضائية، وأن ترويج معاملة واحدة تصل فترة إنجازها لأكثر من سنة، وبذلك يتحمل الأهالي عبئاً مالياً كبيراً جداً على مدى هذه الفترة الزمنية الطويلة، ناهيك عن الأثر النفسي المترتب على هذه الإجراءات.
ملف المغيبين.. قراره “خارج” أسوار الوطن
وقال رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون في تصريح لــ “نون بوست” إن إنهاء ملف المغيبين بحاجة لقرار من خارج الحدود العراقية، وإن الحكومة غير قادرة على كشف مصيرهم، كما أشار إلى أنه نقل معاناة ذويهم في جميع المحافل والمؤتمرات الدولية من ضمنها جنيف.
وأكد رئيس المرصد أن “ملف المغيبين أثر على الوضع الاجتماعي لذوي المفقودين وتسبب بتسول أطفالهم، وساهم بزيادة نسبة الفقر في المناطق التي ينتمون إليها، وترك آلاف العوائل بلا آباء، وزاد نسبة الأرامل والأيتام، رغم أنهم سُجّلوا مفقودين لا متوفين.
ومع انتهاء الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، وإسدال الستار على العمليات العسكرية في المناطق المحررة بالأنبار والموصل وصلاح الدين ، إلا أن ملف المختفين قسراً بات يتضخم مع اكتشاف أعداد جديدة من المختطفين الذين صنفوا “مغيبين” بعد مرور سنوات عدة على اختطافهم.
العراق يتصدر العالم بعدد المفقودين
إحصائيات دولية مرعبة ، عن أعداد المغيبين في العراق ، إذ تكشف اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، أن “أعدادهم تتراوح بين 250 ألفاً والمليون شخص، بعد عقود من الصراع وانتهاكات حقوق الإنسان” ، فيما تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن “العراق يتصدر العالم في عدد المفقودين” وتشير إلى أن الملايين من ذويهم يعانون من عدم اليقين الذي يحيط بمصير أحد أفراد أسرهم.
“يعرّف القانون الدولي الإخفاء القسري على أنه توقيف شخص ما على يد مسؤولين في الدولة أو وكلاء للدولة أو على يد أشخاص أو مجموعات تعمل بإذن من السلطات أو دعمها أو قبولها غير المعلن” هيومن رايتس ووتش