في سابقة بتاريخ السودان، فازت المرأة السودانية اليوم بزعامة دبلوماسية البلاد، عقب تعيين أسماء عبد الله في منصب وزيرة الخارجية، وهي دبلوماسية سابقة تدرجت في العمل بالوزارة حتى بلغت درجة وزير مفوض، بعد أن عملت في سفارات الرباط وستوكهولم وشغلت منصب سفير السودان في النرويج، كما شغلت منصب نائب مدير دائرة الأمريكتين في وزارة الخارجية، وهي مناصب شغلتها قبل حكم الرئيس المعزول عمر البشير الذي عزلها عقب تسلمه السلطة، لتعيدها حكومة عبد الله حمدوك التي أعلن عن تشكيلها في وقت متأخر من مساء الخميس، بعد تأخير طفيف، عزاه رئيس الوزراء إلى “البحث عن تمثيل عادل للنساء في الحكومة الانتقالية”، وهو ما انعكس بتسليم 4 وزارات مهمة لنساء من أصل 18 حقيبة.
ويمثل تعيين أربع نساء في أول حكومة بعد الثورة السودانية وعزل عمر البشير، وهنّ بالإضافة لأسماء عبد الله التي شغلت أرفع منصب دبلوماسي في البلاد: ولاء البوشي وزيرة للشباب والرياضة وانتصار صغيرون وزية للتعليم العالي، ولينا الشيخ وزيرة للتنمية الاجتماعية والعمل؛ انعطافة في قضية تمكين المرأة في السودان، وانتصارًا رمزيًا لكفاحها المتواصل لنيل مكانها في مواقع سياسية وقيادية مهمة، بعد رحلة مريرة من التجاهل في عهد البشير. وفي هذا التقرير نلقي نظرة على واقع المرأة السودانية فترة حكم الرئيس المعزول، ومسيرة كفاح السودانيات لنيل حقّوقهن السياسية.
فلعقودٍ طويلة، وتحديدًا في عهد عمر البشير الذي دام 30 عامًا، اقترف النظام العنف والقمع بشتى أنواعه تجاه المرأة، إذ ضيق الخناق عليها من جميع النواحي وحاصرها داخل منظومة أخلاقية صارمة، ما منعها من ممارسة حياتها اليومية والسياسية والحقوقية بشكل اعتيادي، خوفًا من التعذيب الشديد والاعتقالات المهينة وغيرها الكثير من العقوبات التي تسحق الكرامة وتقتل الحرية والروح باسم القانون والعرف الاجتماعي الذكوري.
على سبيل المثال، سن البشير عام 1996 قانون رقم 152 يُعرض النساء للضرب والسجن لارتدائهن ما تعتبره الدولة “ملابس فاضحة”، وذلك بحسب معايير الشرطة أو الجهة المختصة، ودون توضيح ماهية الملابس المقصودة، وهو ما اعتبرته المنظمات الحقوقية تكريسًا للكراهية والتمييز ضد المرأة في البلاد، لا سيما أن البعض أشار إلى استغلال السلطات هذا القانون من أجل الكسب المادي الذي تجمعه من الغرامات، يضاف إلى ذلك قوانين قمعية أخرى مثل قانون الأمن الوطني وقوانين النظام العام والآداب التي تكرس التمييز.
أنواع القمع والتعذيب الذي تتعرضه له الناشطات الحقوقيات
من جانب آخر، قد يعتقد البعض أن الحديث عن حرية اللباس ليس سوى أمرًا سطحيًا ولن يقود المرأة لتولي أعلى المناصب في البلاد، ولكن يرى آخرون أن مجرد سلب المرأة السودانية هذه الحرية هو اعتداء على حقوقها وهويتها الشخصية، كما أنها محاولة تمهيدية للحد من دورها الاجتماعي والسياسي وترويضها على عدم التفكير خارج نطاق أسوار السلطة الأبوية التي تحدد وتراقب أبسط تحركاتها وتصرفاتها.
لكن، في نهاية المطاف، قلبت موازين القوى وتبدلت الأحوال، فلقد هيمنت النساء على ساحات الاعتصام والاحتجاج التي أدت إلى الإطاحة بالبشير وأصبحت صورهن شعارات ورموز للانتفاضة، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 70% من المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع كانوا من النساء، وذلك بعد مسيرة مريرة من الاستضعاف والإقصاء، فلقد استخدم نظام البشير المضايقات والانتهاكات الجنسية كأداة لتخويف النساء وإبقاءهن حبيسات المنزل بعيدًا عن المشاركة في الاحتجاجات والحملات الحقوقية ومجالات النشاط الأخرى، وبالتالي لم يعد أمام الكثير من النساء خيار سوى التخلي عن نشاطهن أو مغادرة البلاد وترك حياتهن الأسرية والمهنية خلفهن، خوفًا من الاغتصاب ومحاولات تشويه السمعة، وذلك بحسب ما ذكرته منظمة “هيومن ووتش رايتس”.
مثل الناشطة الشبابية، صفية إسحق، التي هربت إلى فرنسا بعدما اعتقلها رجال الأمن واعتدوا بالضرب عليها ثم اغتصبوها، كما تروي قصتها قائلةً: “عندما استعدت الوعي وجدت رجلين يمسكان بقدميّ والثالث يغتصبني. تناوب الثلاثة على اغتصابي. كنت أشعر بآلام مبرحة. كانت يداي مقيدتان بغطاء الرأس الذي كنت ارتديه.” ولم يكن في حيلتها سوى الفرار من تهديدات الأجهزة الأمنية بتكرار هذه التجربة المهينة، ومن الضغوط الاجتماعية التي لاحقتها من جانب آخر بعدما أصبح جسدها ساحة من ساحات المعركة لمن هم في السلطة.
في هذا التقرير، نتستعرض تجربة المرأة السودانية في العمل السياسي ونتساءل عن مستقبلها في هذه الساحة بعد عزل البشير وإقرار الإعلان الدستوري الموقع بين الجيش وقادة الاحتجاجات بإلغاء كافة القوانين التمييزية ضد النساء ومنحها فرصة الاندماج والتمثيل السياسي في المجلس التشريعي الانتقالي بنسبة لا تقل عن 40%، حيث أن المعدل الحالي هو 30%.
أولى خطوات المرأة السودانية في الحياة السياسية
إذا عدنا إلى قصص التاريخ القديمة، فسنجد أن المرأة في تاريخ السودان كانت حاكمة أيام الممالك النوبية والمروية قبل المسيحية والإسلام، ومنذ ذاك الزمن كانت عاقدة العزم على تأمين مكانها في المجتمع ولعب أدوار قيادية في الحياة الخاصة والعامة، إذ عرفها التاريخ باسم الكنداكة (الملكة العظيمة أو القوية) أو الميرم (الأميرة)، وهي الألقاب التي شاع استخدامها اليوم عقب الثورة السودانية.
بكلمات أخرى، لم تكن مشاركة المرأة السودانية في الانتفاضة الأخيرة ظاهرة جديدة أو حادثة استثنائية في تاريخ البلاد، فلقد بدأت مشاركتها السياسية بالكفاح ضد الحكم المصري الذي كان تابعًا للإمبراطورية العثمانية، وبرز حينذاك اسم مهيرة بنت عبود كواحدة من مقاتلات، واستمر لمعان اسمها مع محاربتها للاستعمار البريطاني.
فاطمة أحمد إبراهيم، أول امرأة سودانية وعربية تدخل البرلمان السوداني في انتخابات ديمقراطية عام 1965
أما في تاريخنا الحديث، أظهرت الفترة بين 1946-1955 مشاركة أوسع للمرأة فمع زيادة تعليم الفتيات وتكوين الجمعيات النسائية ازداد الوعي المجتمعي بدورها في الساحة السياسية وخاصةً عندما تم تأسيس الاتحاد النسائي السوداني في عام 1952 برئاسة ثريا الدرديري، وتبع ذلك افتتاح الحزب الشيوعي السوداني عضويته أمام النساء للانضمام وكان أول حزب سياسي يقر هذه الخطوة. يضاف إلى ذلك، إصدار أول صحيفة نسوية باسم “بنت الوادي” في عام 1964 وانتخاب الدكتورة خالدة زاهر عام 1948 عضوًا في اتحاد الطلاب المناهض للاستعمار.
في عام 1954، حصلت المرأة السودانية على حقها في التصويت في الانتخابات اللجنة التشريعية، إلا أن التصويت كان حصرًا على خريجات المدارس الثانوية وكان العدد آنذاك لا يتعدى الـ 20 امرأة فقط، ولكن مع بدء عام 1964 نالت المرأة السودانية حقها السياسي الكامل في الترشح والاقتراع وذلك بعد أثبتت حضورها في إسقاط أول حكم عسكري في السودان. ونتيجة لذلك، دخلت المرأة إلى الميادين السياسية جميعها، وكانت فاطمة أحمد إبراهيم رائدة البدايات حين دخلت البرلمان كمرشحة مستقلة في دوائر الخريجين.
وتدريجيًا، توالت النجاحات وطغت مشاركة المرأة في كل الانتخابات، فغالبًا ما كانت تتراوح نسبة مشاركتهن ما بين 60% إلى 65% من أصوات الناخبين، يضاف إلى ذلك أن الدستور منحها نحو 30% من عضوية البرلمان، وخلال فترة قصيرة استحوذت المرأة السودانية على العديد من المناصب الدستورية والقضائية في البلاد، إذ تم تعيين إحسان فخري كأول قاضية في عام 1965، حيث احتلت السودان المرتبة الرابعة في مشاركة المرأة في القضاء بنسبة وصلت إلى 17٪ لعام 1970. كما جاءت جوى فريد لتستحوذ على هذا المنصب، ثم بدأت النساء بالتدفق في مجال القضاء حتى وصلن إلى 67 قاضية بحلول عام 2002.
خلال فترة الألفينيات، رفعت المرأة السودانية نسبة تمثيلها داخل البرلمان إلى 25% في عام 2010 بعد أن خُفضت إلى 10% في الثمانينيات.
وفي بداية السبعينيات، بين عامي 1937-1970، عينت السيدة فاطمة عبد المحمود وزيرة الرعاية الاجتماعية كأول وزيرة سودانية في تاريخ البلاد، وبعد ذلك تولت وزارة الصحة وهي شخصية ذات تاريخ سياسي طويل، إذ ترأست حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي وبذلك كانت أول امرأة سودانية تقود حزبًا، جدير بالذكر أنه بعد 40 عامًا من الخبرة في المجال السياسي، رشحت نفسها للانتخابات الرئاسية في عام 2015، وقالت حينها: “أتطلع لأن أصبح رئيسة للسودان، لأؤكد أن الرئاسة ليست محصورة على الرجال”. ومع ذلك لم تحكم امرأة السودان بعد.
أما فيما يتعلق في فترة الثمانينات، لم يحالف المرأة الكثير من الحظ، فلقد أدى الانقلاب العسكري الثالث الذي نفذته الجبهة الإسلامية إلى حظر جميع الأحزاب من ممارسة أي نشاطات سياسية، لكن خلال فترة التسعينيات انتهت هذه القيود وكان هناك نحو 21 امرأة تشغل مقاعد في البرلمان، وذلك تطبيقًا لنص دستور السودان الانتقالي لعام 1905.
في عام 2007، سارت المرأة بخطوات أوسع حين أسست تجمع يهتم في تمكين المرأة بالمجال السياسي وتحديدًا في فرض مشاركتها في جميع الهيئات التشريعية والقضايا السياسية العامة، ما مهد الطريق لرفع نسبة تمثيلها داخل البرلمان إلى 25% في عام 2010 بعد أن خُفضت إلى 10% في الثمانينيات.
أيقونة الثورة تطالب بنصف السلطة، فهل تنالها؟
منذ البداية كانت المرأة السودانية واضحة في متطلباتها، إذ أطلقت حملة باسم “نساء السودان للتغيير” في محاولة منها لفرض حضورها في أجهزة المرحلة الانتقالية، وطالبت بالتحديد بحصول المرأة على نصف المقاعد في كل أجهزة السلطة الانتقالية، ولا سيما أنها شاركت بشكل فعال في إنجاح الثورة وتحملت تبعات هذا النشاط. فعلى الرغم من تشديد النسويات على هذه الحصة إلا أن السلطة الانتقالية خفضت النسبة المطلوبة بمعدل 10% ورأت أن 40% أكثر معقولية.
في هذا الخصوص قالت ممثلة المجتمع المدني في تحالف “إعلان الحرية والتغيير”، ناهد جبر الله، لوكالة “الأناضول”، إن “الحركة النسائية شاركت منذ 1989 بفعالية في مناهضة نظام البشير البائد، رغم طبيعته القمعية، وقدمت تضحيات كبيرة، ولا تنظر إلى مطالبها العادلة كمنحة تطلبها من أحد”. وأضافت بأن “السودانيات شاركن في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات وإيواء الثوار والاعتصام والدعم الاجتماعي، ولم يكن دورهن في دعم الرجال فقط، بل في قيادة العمل اليومي المقاوم”. مشيرةً إلى سعيهن في تحقيق شعارات الثورة ورفض أي مساومة أو تلاعب في هذا.
وبعد جولات من التفاوض والضغط، يرى البعض أن المشاركة النسائية المتفق عليها غابت عن لجان صنع القرار الخاص بالتغيير، ما يعني أن السلطة لم تلتزم بالاتفاق بالشكل المأمول والمطلوب لأنه حتى نسبة 40% لم تتحقق، وعلى ذلك تشعر النساء اللواتي خرجن إلى الشوارع منذ شهر كانون الأول/ديسمبر بخيبة الأمل على أساس أن الحكومة الانتقالية لم تنظر لوجودهن وقضاياهن كأولوية في المرحلة المقبلة. وذلك بحسب تصريح ناشطة نسوية وممثلة الجمعية المهنية السودانية، هيفاء فاروق.
إذ تسأل الناشطات بصوت واحد “أين النساء؟”، ولا سيما أن كل أعضاء الفريقين المتفاوضين على المرحلة المستقبلية في السودان، سواء كانوا من المدنيين أو العسكريين، هم من الرجال، ولكن مع استثناء وحيد وهي ميرفت حمد النيل التي كانت المرأة الوحيدة ضمن الوفد المفاوض بعد أن رشحتها كتلة تجمع القوى المدنية لتكون ضمن فريق ائتلاف المعارضة للتفاوض مع المجلس العسكري.
نقص القيادات النسائية في الحركة الديمقراطية في السودان ليس مجرد مسألة مساواة من أجل المساواة فقط، بل مؤشر على جودة المرحلة الانتقالية ونجاح الثورة
وفيما يخص هذه الفجوة، تقول هالة الخير، المديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية للنساء في القرن الإفريقي: “إن فقر التنوع الجندري يجعل فريق التفاوض محدود الفكر وضيق الأفق”، مشيرةً إلى عدم تمثيل نتائج اجتماعاتهم للقوى الثورية المشاركة في الاحتجاجات، على أساس أن “معظم الأحزاب السياسية التي تتفاوض حاليًا نيابة عن الشعب السوداني لم تتناول التحديات التي تواجهها المرأة، ولذلك لا تهتم المرأة للانضمام إليها”.
أسماء عبد الله، أول وزيرة خارجية في تاريخ السودان
كما ترى ناشطات أخريات أن نقص القيادات النسائية في الحركة الديمقراطية في السودان ليس مجرد مسألة مساواة من أجل المساواة فقط، بل مؤشر على جودة المرحلة الانتقالية ونجاح الثورة. ومع ذلك يرى البعض الآخر أن وجود رجاء نقولا في المجلس السيادي وتعيين أسماء عبد الله على رأس الدبلوماسية السودانية يبرهن على نية السودان في عدم الرجوع إلى الوراء والاعتراف بحقوق المرأة ليس فقط في اللوائح والقوانين المكتوبة وإنما على أرض الواقع أيضًا.