أخيرا، رفع الستار وزالت مخاوف فئة كبيرة من التونسيين المتخوفين من وصول نبيل القروي المتهم بالفساد المالي والتهرب الضريبي من الوصول إلى قصر قرطاج وحكم البلاد لـ 5 سنوات مقبلة، قد يحدث فيها تغييرا جوهريا سلبيا على جميع المستويات، ناسفا بذلك ما تبقى من بصيص أمل إقامة دولة العدل والمساواة والديمقراطية التشاركية الحقيقة في تونس الجريحة.
فبعد جدل واسع وانقسام واسع عاشه التونسيون خلال الأسابيع الثلاث الأخيرة، واصطفافهم وراء مترشحين اثنين لا ثالث لهما في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، كشفت النتائج الأولية التي نشرتها مراكز سبر الآراء الآراء في تونس، فوز المترشح المستقل قيس سعيد بنسبة تفوق الـ70 في المائة على خصمه نبيل القروي، الذي تلقى ضربة قاصمة لم يكد وأنصاره يستوعبانها بعد، وسط فرحة عارمة لأنصار سعيد، الذين خرجوا بالآلاف إلى الشوارع للاحتفال بهذا الانتصار الكبير، لأحد الساسة الجدد الذين دخلوا معترك الحياة السياسية من دون أي تاريخ سياسي أو نضالي كان.
فعلها الرجل المفاجأة.. تعرف على قيس بن سعيد المتصدر في #الانتخابات_التونسية
Posted by NoonPost نون بوست on Sunday, October 13, 2019
قيس سعيد، الرئيس التونسي الثالث بعد ثورة 14 من يناير، وصاحب الـ 61 ربيعا، لم يكن واحدا من السياسيين الكلاسيكيين المعروفين على الساحة السياسية في تونس، بقدر ما كان ظاهرة تستحق الدرس والوقوف عندها وتحليلها وتفكيك مضمون خطابها الشعبي البسيط، القائم على ثنائية الشباب ومناوئة الأحزاب، والتركيز على المحافظة على الهوية العربية الإسلامية لشعب عانى ويلات التغريب منذ نحو قرن ونصف.
أكثر من 70 في المائة من نسبب المصوتين، ونحو 3 ملايين صوت أو يزيدون قليلا، كانت هي النتيجة التي وصل بها قيس سعيد إلى قصر قرطاج، متفوقا بذلك على الرئيسين الذين سبقاه بعد 14 يناير، الأول وهو منصف المرزوقي، بفضل التحالف الحزبي بقيادة حركة النهضة، والثاني الراحل الباجي قائد السبسي، بأكثر من نصف عدد الأصوات التي تحصل عليها أستاذ القانون الدستوري.
من هو قيس سعيد وكيف وصل إلى قصر قرطاج وما هي الأساليب والطرق التي انتهجها الرجل للفوز بهذه النتيجة التاريخية، ولماذا انتخبه 90 في المائة من الشباب وفضّلوه على غيره، وهل يمتلك الرجل كاريزما الرئاسة وقالب السياسي المحنك أم لا، وهل يستطيع أن ينجح في تخطي الألغام المزروعة في كل شبر من التراب التونسي ومحيطها الإقليمي أم لا، كل هذه الأسئلة وأكثر، ستكون محو اهتمام المتخصصين في الاتصال السياسي، ومراكز البحث الدولية المرموقة، التي لم تستطع إلى حد اللحظة، مثلما لم يستطع التونسيون بأسرهم، أن يجمعوا على انتماء الرجل ولا هويته ولا أيديولوجيته، بين من يراه إسلاميا أصوليا، ومن يزعم أنه يساري متطرف، يظهر ما لا يبطن، خوفا من انفضاض مسانديه من حوله.
شركة “سيغما كونساي“ المتخصصة في استطلاعات الرأي والمتحكمة في التلاعب بالنتائج وتوجيه اهتمامات الرأي العام المحلي والدولي خلال السنوات الأخيرة، كانت أول من أشار في نتائج استطلاعات الرأي إلى الصعود الصاروخي لأستاذ القانون الدستوري مند نحو عام
لن نطيل الحديث في العموميات كثيرا، فالرجل سبق وأن كتبنا عنه في وقت سابق وأبدينا رأينا حوله وحول برنامجه الانتخابي، لكن في هذه العجالة، سنحاول أن نتحدث عن أبرز النقاط التي ساهمت في الصعود الصاروخي للرجل واكتسابه شعبية جارفة من دون أية ماكينات حزبية أو مالية أو أجنبية تدعمه، وفق ما يؤكد هو ذلك، ووفق ما تؤكده جميع المعطيات المتوفرة لدينا.
“1- سيغما كونساي “وأخواتها
وهنا يكمن مربط الفرس الذي لم ينتبه إليه كثيرون من المنشغلين بمتابعة المشهد السياسي في تونس، فشركة “سيغما كونساي“ المتخصصة في استطلاعات الرأي والمتحكمة في التلاعب بالنتائج وتوجيه اهتمامات الرأي العام المحلي والدولي خلال السنوات الأخيرة، كانت أول من أشار في نتائج استطلاعات الرأي إلى الصعود الصاروخي لأستاذ القانون الدستوري مند نحو عام، يشاركه في التنافس على المركزين الأول والثاني نبيل القروي خصمه في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
تزامنا مع هذه النتائج الشهرية المنشورة على عدد هام من وسائل الإعلام التونسية المختلفة، كانت الأحزاب السياسية والشخصيات السياسية الوازنة في البلاد تكذّب الزرقوني وشركته، متهمة إياه بخدمة أجندات مشبوهة ومحاولة التأثير على الرأي العام –ولهم حق في ذلك-، مقللين من احتمالية وصول الرجلين وخاصة سعيّد إلى الدور الثاني من الانتخابات خاصة بعد ترشيح حركة النهضة لعبد الفتاح مورو أحد قيادييها التاريخيين للمشاركة في الدور الأول، كما كانت جميع المؤشرات والدلائل على الأرض، تؤكد استحالة أن يكون لسعيد مكان في الدور الثاني.
2- “الخلايا الافتراضية اليقظة“
لم نشأ أن نطلق عليها شبكات التواصل الاجتماعي، ففي الحالة الراهنة، كان لأنصار قيس سعيد شبه الغائب عن الإعلام والشوارع والمدن الكبرى خلال حملته الانتخابية، دولة منظمة على شبكات التواصل الاجتماعي، تقودها خلية نحل تعمل بانتظام بلا هوادة ولا توقف، ولكن ينقصها التنظم والاتقان، وتتميز بالعشوائية والشعبوية وخاصة إتقان فن التشهير ومهاجمة الطبقة السياسية بمختلف مشاربها بلا استثناء، مستعينة بعدد كبير من الصفحات الكبرى والمؤثرة، خاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك“ والتي تصل منشوراتها إلى ملايين التونسيين.
صحيح أن قيس سعيد لم يكن لوجوده تأثير على الأرض، فتنقلات الرجل التي لا تكاد تذكر بالمقارنة بخصومه المتحزبين، لم تؤت أكلها بالنظر لعدم جماهيريتها واتسامها بالتسرع وعد التنظم والتحضير، ولكن صولاته وجولاته وتصريحاته وحواراته بعد 14 من يناير إلى حين دخول يوم الصمت الانتخابي، وصلت للسواد الأعظم من التونسيين المتواجدين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشهر هذه التصريحات، موقفه من قانون المساواة في الميراث، والذي أعرب فيه الرجل عن تمسكه بالنص القرآني قطعي الدلالة، ورفضه لكل محاولة للعبث بقانون الميراث في تونس، ومناقشته لمخالفيه بحجج عقلية أقنع في مجملها التونسيين المتشبثين بهويتهم العربية الإسلامية، والرافضين لهذا القانون الذي من شأنه تقسيم المجتمع وإثارة أزمات اجتماعية لن تنتهي.
حوار مسرب لعميل سابق بالموساد يكشف علاقته بـ #نبيل_القروي ورغبته في إدخال #تونس تحت دائرة السيطرة الأمريكية! شاهد التفاصيل في الفيديو#TnElec2019 #تونس_تنتخب pic.twitter.com/HIXJr6MSEF
— نون بوست (@NoonPost) October 12, 2019
خلال الشهر ونصف الأخير، كان للصفحات الكبرى الدور الأبرز في نحت اسم ورقم قيس سعيد على ورقة الانتخابات في أذهان الشباب الثائر بمختلف مشاربه، شباب كان له الدور الأبرز في اختيار ساكن قرطاج الجديد، فكل منشور يتحدث عن الرجل كان محل إعجاب وتعاليق ومشاركة الآلاف، كما غيّر الآلاف من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، صورهم بصور سعيد، معلنين دعمهم له في الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية.
في ذات السياق، كان لهذه الحملات الافتراضية غير الممولة في مجملها على عكس خصوم سعيد، الوقع والأثر البالغ على الميدان، فهذه العدوى النافعة، أصابت المترددين في انتخاب الرجل، وأجبرتهم على التصويت لفائدته، بفعل الضغط الإلكتروني أو الميداني، حيث أن أنصاره غير المنظمين، أخذوا بزمام المبادرة ودعوا كل من يعترضهم لانتخاب أستاذ القانون الدستوري وقطع الطريق أمام خصمه “المافيوزي“ وفق نص عبارتهم.
3- نبذ الطبقة السياسية الكلاسيكية
منذ انهيار نظام بن علي وهروبه إلى السعودية، وعلى مدار نحو 9 سنوات متتالية، سئم عدد كبير من التونسيين لاسيما الشباب منهم، من الخطاب السياسي الكلاسيكي كما نبذوا السواد الأعظم من السياسيين المعارضين الغارقين في تخوين بعضهم والفاشلين في إدارة حكم البلاد، لذلك، كان لخطاب قيس سعيد البسيط القائم على دغدغة المشاعر والاعتزاز بالثورة والانتساب لها –وهو حق لا جدال فيه-، صدى بالغا في صفوف الفئة الثائرة على النخبة السياسية، وهي الفئة التي صنعت الفارق في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، وصعدت بسعيد لمنافسة نبيل القروي في الدور الثاني.
كان لخطاب ساكن قرطاج الجديد أثرا بالغا على غالبية محبيه ومناصريه، فالرجل لم يغيّر خطابه ولم يطوره منذ نحو 9 سنوات، بل حافظ عليه وعلى المفردات التي يستعملها، مظهرا في كل ظهور إعلامي له، انتصارا لشهداء وجرحى الثورة، ونقدا بالغا للفساد الإداري والمالي المستشري في البلاد، ومشددا في ذات السياق، على استقلاليته السياسية عن كل الأطراف المشاركة في صنع المشهد السياسي في تونس.
أمام هذا الكره الكبير الذي أصبح يكنه الشباب خاصة للطبقة السياسية الراهنة، وبفضل استقلاليته ووقوفه على نفس المسافة من جميع الأطراف، استطاع خطاب قيس سعيد وبرنامجه الانتخابي القائم على إعادة رسم الخارطة السياسية والنظام السياسي في البلاد، أن يجذب مئات الآلاف من الشباب، الذي رأى في الوقت نفسه، في خطاب وبرنامج المترشح الآخر، وسيلة للتندر، سرعان ما بلورها إلى محتوى بصري ومكتوب، أطاح بالإمبراطوريات الإعلامية والمليارات التي صرفت في الداخل والخارج، لإيصال نبيل القروي إلى رئاسة تونس.