ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد نددنا جميعًا بدور الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في القيام بدور ضابط الإمداد لحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، وهذا صحيح.
ولكن بايدن لم يكتفِ بتمكين الحرب من الاستمرار لمدة 15 شهرًا، بل وضع الأساس لشيء أسوأ بكثير قادم. ولم يكن الأمر مجرد حالة من العجز، بل كان نية خبيثة مسبقة.
وقد عبّر خليفته، دونالد ترامب، عن ذلك الآن بالكلمات والسياسات.
لقد انخدع البعض، ولا سيما أولئك الذين صوتوا لترامب في الولايات المتأرجحة، في الاعتقاد بأنه بعد الفظائع الكبرى التي حدثت في عهد بايدن، لا يمكن لترامب أن يفعل سوى ما هو أفضل.
لقد انخدعوا بالاعتقاد بأن ترامب كان صادقًا في رغبته في إيقاف الحرب على غزة، حتى وإن كان ذلك لأسباب خاطئة.
ففي حفل تنصيبه الشهر الماضي، أحاط ترامب نفسه بعائلات الرهائن. وكان مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قد دفع اتفاق وقف إطلاق النار إلى الأمام منذ البداية، لذا افترضوا أن ترامب سيمارس الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمواصلة عملية تبادل الرهائن والأسرى.
كم كانوا جميعًا مخطئين
لم يأخذ العديد ممن صوتوا لترامب على محمل الجد تداعيات الإبادة الجماعية لرغبته في تحويل غزة إلى “ريفييرا البحر الأبيض المتوسط الشرقي”، ولا حتى تأملات صهره جاريد كوشنر حول كل تلك “الممتلكات الساحلية القيمة“. كما أنهم لم يدركوا أن ترامب يشكل سياساته على أساس آخر شخص يتحدث إليه.
تفويض واضح
عندما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن فكرة ترامب للاستيلاء على غزة فاجأت حتى أقرب مساعديه المقربين، فهذا هو المعنى الحقيقي لارتجاله في السياسة الخارجية.
لا بد أن ارتجال ترامب يثير الحيرة حتى لدى أقرب مؤيديه. فقد خاض الانتخابات على وعد بوقف جميع الحروب التي خاضها بايدن. وبعد أسابيع فقط من توليه المنصب، لا يقتصر الأمر على أنه منح إسرائيل تفويضًا لمواصلة حربها على غزة، بل إنه يتبنى ذلك أيضًا.
فبعد اجتماع واحد فقط مع نتنياهو، تعهد الرئيس المطور العقاري بأن يستولي على غزة كملكية أمريكية، ليحول “موقع الركام” إلى جنة.
وقال إنه سيطورها من أجل “شعوب الشرق الأوسط”؛ وبعبارة أخرى، للمستوطنين الإسرائيليين أيضًا.
ولم يستطع الرجل الذي دمر غزة وهو جالس على بعد ثلاثة أقدام، أن يخفي ابتسامته. فقد منحه ترامب للتو كل ما لم تستطع حتى صهيونية بايدن الغريزية أن تمنحه إياه.
لقد غادر نتنياهو واشنطن بتفويض واضح. وهو ليس، كما اعتقدنا جميعًا، وقف الحرب – بل حثه على العودة إلى الحرب. وهذه هي النتيجة الحتمية لكلمات ترامب، إذا ما نفذها.
إن صور الإذلال الذي خلفته كل تلك الصور التي التقطت لعمليات إطلاق سراح الرهائن مع مقاتلي حماس – بزي جديد وسيارات جيب لم يمسها أحد، وكانوا يسيطرون بشكل كامل – أصبحت وراء الزعيم الإسرائيلي. وكذلك الأمر بالنسبة للقوى العسكرية والسياسية الكبيرة لليمين الديني المتطرف في إسرائيل التي انساقت وراءه.
وكان اندفاع إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي السابق والزعيم الفعلي لليمين الصهيوني الديني، إلى الانضمام مجددًا إلى الحكومة الإسرائيلية في أعقاب المؤتمر الصحفي لترامب بمثابة رسالة قوية. فقد قال بن غفير إنه إذا بدأ ترامب في تنفيذ خطته، فإن حزبه سينضم مجددًا إلى الائتلاف الحكومي.
ولم يسبق أن كان حلم العمر، حلم إسرائيل الكبرى الممتدة من النهر إلى البحر، قريبًا من التحقيق بالنسبة لهم كما هو الآن.
قال ترامب وفعل الكثير بخلاف ذلك. ففي يوم واحد، مزّق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التفاوض عليه على مدى 15 شهرًا. ولم يقتصر الأمر على أنه ألغى من جانب واحد المرحلة الثالثة، التي كانت تشمل إعادة جميع الجثث والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة، بل إنه أيضًا أثار شكوكًا كبيرة حول المرحلة الثانية، التي كانت تنص على إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء المتبقين.
وقال ترامب إنه “غير واثق” بشأن آفاق وقف إطلاق النار في غزة على المدى الطويل. وفي يوم الثلاثاء، أكّد ويتكوف أنه بينما كانت الإدارة “تأمل” في المرحلة الثانية، فإن المرحلة الثالثة غير مطروحة على الطاولة.
خطر الانهيار
إذا كانت هذه التغيرات المفاجئة في مواقف الولايات المتحدة بشأن الاتفاق الموقع في الدوحة ثابتة، فما الحافز الذي يدفع حماس لمواصلة إطلاق سراح الرهائن، حتى في ظل المرحلة الحالية من الاتفاق؟
نحن في منتصف الطريق فقط خلال المرحلة الأولى من الصفقة، التي تنص على إطلاق سراح 33 رهينة مقابل مئات من الأسرى الفلسطينيين.
لماذا ستستمر حماس في الإفراج عن المزيد من الرهائن، وهي تعلم أن الإبادة ستلاحقها بعد ذلك؟ ما قيمة الوثائق التي توقعها الولايات المتحدة الآن؟
وهذا هو المغزى الواضح من رد فعل باسم نعيم، عضو المكتب السياسي لحماس، الذي قال إن حماس ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار طالما كانت إسرائيل كذلك، ولكن “أي تلاعب في تنفيذ الاتفاق قد يؤدي إلى انهياره”.
وماذا وضع نتنياهو في ذهن ترامب بشأن الضفة الغربية المحتلة؟ لن نعرف ذلك إلا بعد بضعة أسابيع أخرى، ولكن الإشارات تبدو مقلقة.
وردًا على سؤال حول ما إذا كان ترامب يدعم السيادة الإسرائيلية على “يهودا والسامرة” – ما يعني ضم المنطقتين “ب” و”ج” اللتين تشكلان أكثر من ثلثي الضفة الغربية المحتلة بشكل غير قانوني – كانت كلمات ترامب دافئة.
وقال ترامب “إنكم مُمَثلون بشكل جيد للغاية، والناس يحبون الفكرة، لكننا لم نتخذ موقفًا بشأنها بعد، لكننا على الأرجح سنصدر بيانًا حول هذا الموضوع بالتحديد خلال الأسابيع الأربعة المقبلة”.
من الواضح الآن أن المسألة في غزة لم تعد تتعلق بمعركة بين مجموعة مقاومة فلسطينية وإسرائيل، بل إن الأمر لم يعد يتعلق حتى بغزة.
ففي هذه اللحظة التاريخية التي بلغت فيها الهوية الفلسطينية والمطالبة بتقرير المصير الفلسطيني ذروتها – وهذا يحدث كليًا نتيجة لما تعانيه غزة والضفة الغربية المحتلة – يضع ترامب ونتنياهو خططًا لتهجير جماعي قسري للشعب الفلسطيني من شأنه أن يطغى على كل ما حدث منذ عام 1948.
تهديد وجودي
تمثل الولاية الثانية لترامب تهديدًا وجوديًا لجميع الفلسطينيين، أينما كانوا، ولغالبية السكان الذين يعيشون الآن بين النهر والبحر، ويجب أن يكون من الواضح أيضًا أن خطط ترامب تمثل تهديدًا أمنيًا كبيرًا لأوروبا نفسها.
فإذا كان قدوم مليون سوري قد قضى على حكومة يمين الوسط بزعامة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ودشّن لفترة جديدة من تاريخ ألمانيا يهدد اليمين المتطرف فيها الديمقراطية مرة أخرى، فكيف يمكن لملايين الفلسطينيين أن يعكروا صفو السلام في أوروبا الحصينة؟
ربما أدرك القادة الأوروبيون أخيرًا مدى غبائهم وسذاجتهم في دعمهم غير المحدود لإسرائيل في حربها ضد غزة، وإلى أين تقودهم هذه السياسة الآن، فلقد أدركت أوروبا أخيرًا ما كان يعرفه كل عربي وفلسطيني منذ اليوم الأول، وهو أن الهدف الحقيقي لهذه الحرب هو التهجير القسري لملايين الفلسطينيين من فلسطين.
لقد ضرب ترامب عرض الحائط بكل وقاحة وغطرسة بالتحذيرات السعودية والأردنية والمصرية من اتباع هذه السياسة مع إسرائيل، وكان من الحماقة أن يفعل ذلك.
ففي غضون ساعات من قول ترامب إن “السعودية ستكون متعاونة جدًا، وقد كانوا متعاونين للغاية. إنهم يريدون السلام في الشرق الأوسط، الأمر بسيط للغاية”، أصدرت المملكة أقوى بيان لها حتى الآن، وشددت وزارة الخارجية السعودية على موقف المملكة “الثابت والراسخ” من إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يتناقض مع ادعاء ترامب بأن السعودية لم تكن تطالب بمثل هذا الأمر.
وتابع البيان: “كما تؤكد المملكة العربية السعودية مجددا رفضها القاطع لأي مساس بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلية أو ضم الأراضي أو محاولات تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه”، ووصفت موقفها بأنه “غير قابل للتفاوض”.
هذا هو أقوى وأسرع رد فعل للمملكة على تصريح لرئيس أمريكي في الذاكرة الحية، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر هذا البيان.
دعوة للحرب
يوشك العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني على التوجه إلى واشنطن برسالة مماثلة، فوفقًا لمصادر رفيعة المستوى تحدثت مع موقع ميدل إيست آي، فإن الأردن سيعتبر فتح إسرائيل لحدودها الشرقية وإجبارها للفلسطينيين على النزوح الجماعي من الضفة الغربية المحتلة ”سبباً للحرب“.
الأردن واضح الرؤية في هذا الشأن، وقد بدأت العديد من الحروب الكبرى بذرائع أصغر.
يتلقى الأردن 1.45 مليار دولار من المساعدات الأمريكية والمساعدات العسكرية سنويًا، وبحسب تفسير “ميدل إيست آي” فإنه على استعداد تام للتخلي عن هذه المساعدات الحاسمة إذا كان ثمن استمرار المساعدات المالية هو قبول مليون لاجئ فلسطيني آخر.
كما أن الجيش المصري مصمم بنفس القدر على عدم قبول أي فلسطيني أُجبر على الخروج من غزة، ويدرك كل من الأردن ومصر أن هذا الأمر قد يسدل الستار على نظاميهما إذا حدث.
لقد وصلنا الآن إلى مرحلة من الصراع تنكشف فيها بوضوح أهداف الحرب التي تسعى إليها إسرائيل والصهيونية الدينية الداعمة لترامب.
لم يعد هناك ذرائع يمكن الاختباء وراءها، ولم يعد من الممكن تسميتها حربًا للدفاع عن إسرائيل، هذا إذا كان من الممكن أن تكون كذلك بالأساس، ولم يعد الأمر يتعلق بهزيمة حماس.
الهدف الواضح والمعلن لهذه الحرب هو فرض التهجير الجماعي للسكان الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية المحتلة، وتوجيه ضربة قاضية للدولة الفلسطينية وتغيير التوازن الديموغرافي للأراضي التي تدعي إسرائيل أنها ملكها إلى الأبد.
الغطرسة العمياء
قد تسمي إسرائيل هذا “نقلًا طوعيًا”، وقد يسميه ترامب وكوشنر “إعادة تطوير”، ولكن لا يمكن تسميته بغير اسمه الحقيقي: تطهير عرقي على نطاق لم يسبق له مثيل منذ احتلال النازية لأوروبا.
يدرك كل فلسطيني هذا الأمر، ولهذا السبب لن يتحركوا، يجب على العالم الآن أن يكون على يقين من أنه إذا ما استؤنفت هذه الحرب في غزة، فإن الفلسطينيين سيموتون واقفين على أرضهم.
إن يوم عمل واحد في مكتب ترامب ينذر بمعاناة وقتل على نطاق لا يمكن تصوره حتى بمعايير الأشهر الخمسة عشر الماضية، وهذا على وشك الحدوث في الوقت الفعلي أمام أعيننا.
![إذا حاول ترامب الاستيلاء على غزة.. سيموت الفلسطينيون حيث هم 3 نون بوست](https://www.noonpost.com/wp-content/uploads/2025/02/noonpost-6488154-jpg.webp)
لقد حاولت إسرائيل فعل ما اقترحه ترامب يوم الثلاثاء عدة مرات من قبل؛ فقد حاولت الميليشيات الصهيونية إجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة عام 1948، وحاولت إسرائيل مرة أخرى خلال أزمة السويس وبعد حرب 1967، وفشلت في كل مرة، وستفشل مرة أخرى.
اختتم نتنياهو مؤتمره الصحفي بالقول: “يقول الكتاب المقدس إن شعب إسرائيل سينهض كالأسود. وقد نهضنا بالفعل. واليوم، يُسمع زئير أسد يهوذا بصوت عالٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط”.
لقد أعمته غطرسته، وإذا لم يتم إيقافه، فإن أسود الشرق الأوسط توشك أن تنقض على دولة إسرائيل الصغيرة بشكل لم يسبق له مثيل، وسيشعر كل إسرائيلي بذلك.
المصدر: ميدل إيست آي