بعد 24 عامًا في سجون الاحتلال، أُفرج عن وائل الجاغوب، القيادي في الحركة الأسيرة، ضمن صفقة تبادل الأسرى التي أبرمتها المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي في إطار معركة طوفان الأقصى.
طوال سنوات اعتقاله، كان الجاغوب أحد رموز النضال داخل السجون، حيث خاض معارك الحركة الأسيرة ضد سياسات القمع والتنكيل، وشارك في محطات نضالية جعلته شاهدًا على التحولات الكبرى داخل المعتقلات الإسرائيلية، وتأثيرها على مسار القضية الفلسطينية.
في هذا الحوار مع “نون بوست”، يتحدث الجاغوب عن تجربته داخل الأسر، وواقع الحركة الأسيرة بعد السابع من أكتوبر، وتأثير صفقة التبادل على المشهد الفلسطيني الداخلي، كما يناقش التغيرات داخل المجتمع الإسرائيلي عقب الضربة التي تعرضت لها “إسرائيل” خلال طوفان الأقصى.
كيف تلقيتم نبأ إطلاق سراحكم؟ وكيف كان وقع خبر صفقة التبادل على الأسرى داخل السجون؟
لم نعرف بالنبأ مباشرة، حيث تم إخراجنا قبل إطلاق سراحنا بثلاثة أيام وإبلاغنا بأنه سيتم نقلنا إلى سجن آخر. في البداية، قيل لنا إن ما يجري هو مجرد عملية نقل عادية بين السجون، لكننا كنا نشعر بأن الأمر قد يكون مرتبطًا بصفقة تبادل، خاصة بعد تداول أخبار عن وقف لإطلاق النار واتفاق على عملية تبادل يُفترض أن تتم خلال 42 يومًا.
عند إخراجنا من الأقسام، حيث كنت متواجدًا في قسم 2 في سجن نفحة، فوجئنا بوجود عدد كبير من ضباط مصلحة السجون الإسرائيلية، وكانت هناك عملية نقل واسعة شملت عشرات الأسرى، بمن فيهم أسرى محكومون بالسجن المؤبد، وكنت واحدًا منهم. هذا المشهد عزز لدينا الإحساس بأن الصفقة قد بدأت بالفعل، لكن مع الاحتلال الإسرائيلي، دائمًا ما تساورنا الشكوك والمخاوف. لم يكن بالإمكان الوثوق بالعدو، لكن الثقة المطلقة كانت في المقاومة.
في اليوم التالي، تم نقلنا إلى سجن عوفر، وهناك تم اقتيادنا إلى مقر تابع للمخابرات الإسرائيلية، حيث حضر مسؤولو المخابرات عن مختلف المناطق. في ذلك المكان، تم إبلاغنا رسميًا بأنه سيتم إطلاق سراحنا خلال أيام، وتم استدعاؤنا لمقابلات في تواريخ مختلفة، تأكد لنا حينها أن الصفقة باتت أمرًا واقعًا.
أما بخصوص تلقي الأسرى عمومًا لنبأ الصفقة، فقد كان الشعور العام أن انتصارًا بدأ يتشكل، وأن الصمود الأسطوري الذي أبداه شعبنا في غزة، إلى جانب ثبات الأسرى داخل السجون، سيؤتي ثماره عبر الحرية. كانت هناك قناعة أن الأمل الذي رافقنا طوال سنوات الأسر، كما قال الشاعر محمود درويش: “نحن نربي الأمل”، قد بدأ يتحقق على أرض الواقع.
لكن وسط هذه المشاعر، كان الهم الأكبر لدى الأسرى هو وقف العدوان الوحشي على شعبنا، وخاصة في قطاع غزة. كان هناك إجماع بين الأسرى بأن الأولوية ليست فقط تحريرهم، بل إنهاء المعاناة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، فقد رأى الجميع أن وقف العدوان هو المطلب الأساسي، حتى قبل إطلاق سراح الأسرى، لأنه يشكل المدخل الحقيقي لتحقيق الحرية للجميع.
كيف تصفون أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال في ظل الإجراءات الإجرامية الإسرائيلية الأخيرة؟
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يواجه الأسرى أوضاعًا مأساوية غير مسبوقة، حيث أعلنت سلطات الاحتلال حربًا مفتوحة ضدهم، تمثلت في إجراءات قمعية أعادتهم إلى نقطة الصفر. ويمكن تلخيصها في أربع سياسات رئيسية:
التجويع الممنهج: فرضت إدارة السجون سياسة حرمان قاسية، حيث خُفضت كميات الطعام إلى الحد الذي لا يكفي للحفاظ على الحياة، إذ لم يعد الأسرى يحصلون على الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، مثل السكر والملح، وباتت وجباتهم لا تكفي حتى للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يتجلى في وجوههم الهزيلة وأجسادهم التي تحولت إلى هياكل عظمية.
القتل الطبي المتعمد: تحوّل الإهمال الطبي في السجون إلى أداة قتل بطيء، حيث تم قطع جميع أشكال العلاج عن الأسرى المرضى، وامتنعت إدارة السجون عن تقديم أي رعاية، حتى للحالات المزمنة والخطيرة. ونتيجة لذلك، استشهد عدد من الأسرى، بينما يواجه البقية خطر الموت في أي لحظة، في ظل إصرار الاحتلال على تركهم فريسة للمرض دون علاج.
ترهيب يومي وتنكيل مستمر: يعيش الأسرى في دوامة لا تنتهي من العنف والقمع، حيث يتعرضون لاعتداءات متكررة بشكل شبه يومي، تشمل الضرب الوحشي، والتفتيشات العنيفة، والإذلال الممنهج. تُنفَّذ هذه الممارسات بوحشية تهدف إلى خلق حالة دائمة من عدم الاستقرار والخوف داخل السجون. لم يعد هناك أسير لم تطله جروح وكدمات، أو حتى كسور، نتيجة عمليات القمع المتكررة التي تنفذها وحدات الاحتلال الخاصة داخل المعتقلات.
الإهانة والتحطيم النفسي: لا يقتصر القمع على الجسد، بل يمتد إلى محاولات ممنهجة لكسر الأسرى نفسيًا، حيث يواجهون إهانات متواصلة، وشتائم عنصرية، واعتداءات جسدية تهدف إلى إذلالهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وهذه الانتهاكات ليست ممارسات فردية، بل سياسة مدروسة تسعى لزرع الخوف والانكسار في نفوس الأسرى، لكنهم يواجهونها بالصمود والتحدي.
السياسات الأربع تعكس حربًا ممنهجة ضد الأسرى، وهي جريمة حرب مكتملة الأركان. وإذا كان هذا هو حال الأسرى المعتقلين قبل السابع من أكتوبر، فإن أوضاع الأسرى الذين تم اعتقالهم بعد هذا التاريخ، لا سيما من غزة، أشد سوءًا بمراحل، إذ يخضعون لطبقة إضافية من القمع الوحشي، دون أي تحسينات تذكر في ظروف احتجازهم.
لقد أصبح واضحًا أن من لم يمر بتجربة الاعتقال بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يخض تجربة اعتقالية حقيقية، نظرًا لحجم القمع والتنكيل الذي فاق كل ما شهدته الحركة الأسيرة الفلسطينية على مدار تاريخها، فإدارة مصلحة السجون أعلنت الحرب على الأسرى، حيث أصبح لكل سجان قانونه الخاص، يُمارس بموجبه كل أشكال القمع دون أي ضوابط، ما جعل حياة الأسرى داخل المعتقلات أقرب إلى جحيم يومي، لا يملكون أمامه سوى خيار الصمود والمواجهة.
ما يؤلم في هذا السياق، أنه لم يتم حتى الآن توثيق هذه الجرائم بالشكل الكافي، رغم أنها تشكل ملفًا هامًا يمكن أن يُستخدم لمحاكمة الاحتلال في المحافل الدولية. من الضروري تسجيل شهادات الأسرى وتوثيق تجربتهم، لأن ما تعرضوا له يُعد جريمة حرب، تتطلب مساءلة قانونية وجنائية على المستوى العالمي.
من أخطر جوانب هذه المأساة أن الأسرى، خاصة من غزة، انقطعوا تمامًا عن عائلاتهم، مما زاد من معاناتهم النفسية، إذ كان هناك أكثر من 140 أسيرًا من القطاع قبل السابع من أكتوبر، لم يكن لديهم أي وسيلة لمعرفة مصير ذويهم خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي.
لقد عايشنا حالات مؤلمة، حيث كان بعض الأسرى يجهلون تمامًا ما إذا كانت عائلاتهم لا تزال على قيد الحياة أم أن الاحتلال أبادها بالكامل، ومن بين هؤلاء، أسير كان يعلم أن عائلته استشهدت بأكملها، ولم يكن يعرف سوى أن له شقيقة وحيدة من المفترض أنها نجت، إلا أنه لم يتمكن من معرفة مصيرها أو مصير أبنائها.
هذا القلق الدائم لم يكن مقتصرًا على أسرى غزة، بل شمل أيضًا أسرى الضفة والقدس الذين كانت عائلاتهم تتعرض هي الأخرى لانتهاكات واعتقالات وحملات قمع متواصلة.
لا تفرق مصلحة السجون الإسرائيلية بين صغير وكبير، رجل أو امرأة، حيث تُمارس الاعتداءات بشكل ممنهج، انطلاقًا من عقيدة قائمة على تجريد الفلسطيني من إنسانيته ووصفه بـ”المخرب”، ما يسمح للاحتلال بتبرير كافة الانتهاكات، من الضرب إلى القتل، كجزء من سياسة القمع الوحشي التي تنفذها إدارة السجون بحق الأسرى الفلسطينيين.
هذه هي صورة الأوضاع داخل السجون الإسرائيلية اليوم، وهي ليست مجرد انتهاكات عابرة، بل سياسة ممنهجة تشكل جريمة حرب ينبغي أن يُحاسب الاحتلال عليها في كل المحافل الدولية.
أنت من قادة الحركة الأسيرة، وعاصرت إدارات السجون والحكومات الإسرائيلية المختلفة، فكيف تصف أبرز تجارب الحركة الأسيرة، خاصة في ظل حكومة نتنياهو الحالية والتضييقات غير المسبوقة التي يقودها الوزير بن غفير؟
الحركة الأسيرة الفلسطينية ليست مجرد تجربة نضالية، بل هي خط مواجهة متقدم ضد الاحتلال، حيث تحوّلت السجون الإسرائيلية إلى ساحات اشتباك دائمة بين الأسرى وإدارة السجون، في معركة مستمرة من أجل الحقوق والكرامة.
على مدار العقود الماضية، خاض الأسرى مواجهات متكررة لتحسين ظروف اعتقالهم وانتزاع حقوقهم، مستخدمين الإضرابات المفتوحة عن الطعام كسلاح رئيسي، والتي بدأت خلال الانتفاضة الثانية، حيث شهد عام 2004 واحدًا من أكبر الإضرابات الجماعية، ثم تكررت هذه الإضرابات في السنوات التالية، مع محطات مفصلية مثل إضرابات 2011، 2012، و2019، التي جاءت كرد مباشر على تصعيد الاحتلال لسياسات القمع داخل السجون.
بالتوازي مع ذلك، خاض الأسرى نضالات أخرى لمواجهة العزل الانفرادي، والإهمال الطبي، وتقليص الزيارات العائلية، وتشديد ظروف الاعتقال.
منذ عام 2017، بدأ الاحتلال مرحلة جديدة من التصعيد ضد الأسرى، حيث شكلت الحكومة الإسرائيلية “لجنة أردان”، التي وضعت سياسات منهجية تستهدف القضاء على المكتسبات التي حققتها الحركة الأسيرة عبر نضالاتها الطويلة، شملت هذه السياسات تقليص الحقوق الأساسية، وإلغاء التمثيل السياسي للأسرى، وتشديد ظروف الاعتقال، مما أدى إلى مواجهات جديدة داخل السجون.
ومع وصول الوزير المتطرف إيتمار بن غفير إلى وزارة الأمن القومي، تم تنفيذ هذه السياسات بشكل أكثر وحشية، حيث بدأ القمع المنهجي منذ الساعات الأولى ليوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، حتى قبل بدء العدوان على غزة، ما يؤكد أن هذه الإجراءات لم تكن وليدة اللحظة، بل مخططة مسبقًا وتم انتظار الفرصة المناسبة لتطبيقها.
الهجمة التي يقودها بن غفير ليست مجرد قرارات فردية، بل تأتي في إطار سياسة متكاملة تتبناها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بزعامة نتنياهو واليمين المتطرف، بهدف كسر إرادة الحركة الأسيرة. ومع ذلك، فإن الأسرى واصلوا صمودهم، مدعومين بتفاعل شعبي قوي، خاصة من أبناء قطاع غزة الذين لم يتوقفوا عن مساندتهم في مختلف المحطات النضالية.
في المجمل، ما يجري اليوم داخل السجون هو امتداد لنهج تصعيدي بدأ منذ سنوات، حيث تم إعداد خطط لتشديد القمع. ولهذا، فإن المواجهة التي تخوضها الحركة الأسيرة ليست ضد وزير بعينه، وإنما ضد منظومة قمعية متكاملة تعمل على سحق الحقوق الفلسطينية، داخل السجون وخارجها.
ما هي أكثر اللحظات صعوبة التي مررت بها خلال تجربة اعتقالك؟
من أصعب التحديات التي واجهتها خلال فترة الاعتقال كانت تلك المتعلقة بالجانب الجماعي، حيث سعينا دائمًا إلى الارتقاء بالحركة الأسيرة وتحويل تجربة الاعتقال القاسية إلى محطة تُضيف للمناضل الفلسطيني وتهيئه لمواصلة النضال خارج السجن. حققنا نجاحات في بعض المحطات، لكن في أخرى واجهنا عقبات حالت دون تحقيق أهدافنا، وكان ذلك من التحديات الدائمة داخل السجون.
على المستوى الشخصي، كانت أصعب اللحظات هي فقدان أفراد من عائلتي أثناء وجودي في الأسر، حيث توفي ابن شقيقتي فادي، ثم جدي، وبعد ذلك فقدت ثلاثة من أشقائي. كانت هذه تجارب قاسية، إذ لم أتمكن حتى من تقديم التعازي لعائلتي، وكان الأسرى داخل السجن هم من يشاركونني الحزن بدلًا من عائلتي.
من المحطات المؤلمة أيضًا الانقطاع عن الزيارات العائلية لسنوات طويلة، حيث تم منعي من التواصل مع والدتي وأشقائي وشقيقاتي، ما عمّق الشعور بالعزلة. كذلك، كانت تجربة العزل الانفرادي من أقسى ما مررت به، حيث تعرضت له عدة مرات، وهو تجربة قاسية نفسيًا وجسديًا، تجعل الزمن يبدو أكثر بطئًا وثقلًا.
لكن أكثر ما كان يؤلمني هو الواقع الفلسطيني خارج السجون، حيث ظلّ هاجس الانقسام الوطني والتشتت السياسي حاضرًا في تفكيري. كنا نتابع المشهد الوطني عن كثب، نحاول بقدر الإمكان رفع صوتنا والتأثير في النقاشات حول مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني. كأسرى، لم يكن اعتقالنا يعني الانفصال عن القضية، بل كنا جزءًا من النقاش السياسي المستمر، وهذا الشعور بالعجز أحيانًا أمام الانقسامات والتحديات كان من أكثر ما ترك أثرًا علينا خلال سنوات الأسر.
الصراع داخل السجون بين الاحتلال والقوى الوطنية والإسلامية يتمحور حول هدفين متناقضين؛ فالاحتلال يسعى لتحطيم إرادة المناضل، بينما تحاول القوى تحويل السجن إلى أكاديمية لصقل المناضلين. كيف تصف هذه التجربة وأبرز ملامحها؟
تجربة الحركة الأسيرة هي معركة دائمة بين محاولات الاحتلال لقمع الأسرى وكسر إرادتهم، وسعي القوى الوطنية لتحويل السجون إلى بيئة مقاومة ومنصة لصقل المناضلين. مرّت هذه التجربة بمراحل متعددة، كان لكل منها سماتها وتحدياتها الخاصة.
في البداية، كان النضال المطلبي هو العنوان الأبرز للحركة الأسيرة، حيث خاض الأسرى معارك لتحسين ظروف الاعتقال وانتزاع حقوقهم الأساسية، ففي أواخر السبعينات، بدأت مرحلة جديدة مع الفرز السياسي داخل السجون، حيث بدأت التنظيمات الوطنية ببناء هياكلها الداخلية وتعزيز دورها داخل المعتقلات.
خلال التسعينات، خصوصًا بعد اتفاق أوسلو عام 1993، شهدت الحركة الأسيرة تحولات كبيرة تأثرت بحالة الانقسام السياسي العامودي والأفقي، ما انعكس على بنيتها ووحدتها الداخلية. ثم جاءت الانتفاضة الثانية، التي أدخلت الحركة الأسيرة في مرحلة جديدة من الصمود والاشتباك المباشر مع الاحتلال داخل السجون.
في جوهرها، كانت مهمة الأسرى الدائمة هي تحويل واقع الاعتقال من أداة للقمع إلى فرصة لتعزيز الفكر المقاوم، فالثوري الحقيقي لا يقبل الواقع كما هو، بل يسعى دائمًا لتغييره. داخل السجون، يحاول الاحتلال إعادة صياغة وعي الأسير وتجريده من إنسانيته وثوريته، وخلق حالة من التأقلم مع القمع، وهي استراتيجية استعمارية تهدف إلى تفكيك الروح النضالية للأسير الفلسطيني.
لكن الأسرى واجهوا ذلك عبر بناء ثقافة مقاومة داخل المعتقلات، وحوّلوا السجون إلى أكاديميات فكرية ثورية. من أبرز النماذج على ذلك تجربة التعليم الأكاديمي داخل سجن “هداريم”، التي قادها الأسير مروان البرغوثي، حيث تم تطوير تجربة تعليمية تحمل طابعًا تحرريًا حقيقيًا، وهي تجربة تستحق التوثيق والدراسة كنموذج فريد لصناعة الوعي داخل الأسر.
إلى جانب التعليم، كان هناك جهد مستمر للحفاظ على الهوية الوطنية للأسرى، خاصة بعد عام 2005، حيث سعى الاحتلال إلى تفكيك الهوية الثقافية والوطنية الفلسطينية داخل السجون. لذلك، كانت واحدة من المهام الأساسية للحركة الأسيرة هي إعادة ترسيخ الثقافة الوطنية في وعي الأسرى وتعزيز الوعي المقاوم، وهي معركة لم تكن سهلة، بل احتاجت جهدًا طويلًا ومكثفًا.
كما برز مفهوم “الصمود” داخل المعتقلات، الذي تطور من مجرد التعايش مع الاعتقال إلى صمود فاعل ومشتبك، بحيث يصبح المقاومة داخل السجن امتدادًا للنضال خارجه. كان الهدف هو نقل الأسرى من حالة الصمود الساكن إلى الصمود الفاعل والمتفاعل، حيث يتحول الأسير إلى عنصر مؤثر يساهم في بناء وعيه ووعي من حوله، ليخرج من المعتقل أكثر قوة وصلابة واستعدادًا للمواجهة.
في المحصلة، السجون لم تكن فقط أماكن احتجاز، بل ساحات مواجهة مستمرة، حيث خاض الأسرى معركة دائمة للحفاظ على وعيهم وهويتهم، وتحويل واقع الاعتقال إلى فرصة لتطوير الفكر والمقاومة، في مواجهة سياسات الاحتلال الهادفة إلى كسر إرادتهم.
في إطار الحديث عن الوعي وتشكيله، حدثنا أكثر عن مفهوم “الأكاديميا المقاومة”، والتي كنت جزءًا رئيسيًا من تجربتها؟
في السنوات الأخيرة، وتحديدًا داخل معتقل “هداريم”، بدأنا في تطوير مفهوم “الأكاديميا المقاومة”، الذي يقوم على الدمج بين البعد الأكاديمي والنضال الوطني الفلسطيني. انطلق هذا المفهوم من تساؤل أساسي: هل السعي نحو التحصيل الأكاديمي داخل الأسر يمكن أن يكون جزءًا من النضال الوطني؟ وكيف يمكن تحويل المعرفة إلى أداة مقاومة؟
منذ عام 2010، فرض الاحتلال قيودًا مشددة على تعليم الأسرى، حيث تم منعهم من الالتحاق بالجامعة العبرية، مما دفعهم للبحث عن بدائل، مثل الالتحاق بجامعتي الأقصى والقدس المفتوحة، ولاحقًا جامعة القدس “أبو ديس”، لكن سرعان ما استهدفت إدارة السجون هذا المسار أيضًا، عبر ملاحقة الكتب، والتضييق على الطواقم التدريسية، ومنع المحاضرات، وإعاقة العملية التعليمية بشكل ممنهج.
نتيجة لذلك، أصبح السعي للتعليم في السجون مهمة نضالية بحد ذاتها، حيث باتت الأكاديميا والمقاومة متداخلتين بشكل وثيق.
من هنا، تطورت الفكرة لتصبح نموذجًا للتعليم المشتبك، حيث لا يكون التحصيل الأكاديمي محصورًا داخل أسوار الجامعات، بل يجب أن يكون مرتبطًا بشكل مباشر بمسيرة التحرر الوطني. بمعنى أن الوجود الأكاديمي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الوجود على الأرض، في ميادين الاشتباك اليومي، مثل إقامة محاضرات في الأراضي المهجرة، أو المناطق المهددة بالمصادرة، أو حتى تنظيم لقاءات دراسية عند الحواجز الإسرائيلية والشوارع الالتفافية.
الأكاديميا المقاومة ليست مجرد تعليم داخل السجون، بل هي مشروع فكري يربط بين المعرفة والعمل الميداني، ويهدف إلى إنتاج وعي وطني مرتبط بشكل مباشر بمشروع التحرير، بحيث لا يكون التعليم منفصلًا عن الواقع، بل جزءًا من أدوات النضال الفلسطيني اليومية.
من منظور الحركة الأسيرة ومتابعتها وانخراطها في الشأن الوطني العام، ما هي أكثر المهمات إلحاحًا في المشهد الفلسطيني؟
يرى الأسرى أن هناك مهمتين أساسيتين تشغلان الأولوية في المشهد الفلسطيني الحالي:
وقف العدوان الإسرائيلي: يعتقد الأسرى أن وقف العدوان لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تحقيق وحدة وطنية حقيقية، تقوم على إعادة بناء وصياغة المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، فلا يمكن مواجهة التصعيد الإسرائيلي المستمر أو التصدي لمخططاته دون وحدة فلسطينية واضحة ومتماسكة.
إعادة تشكيل المشروع الوطني الفلسطيني: إن تجربة الصمود الوطني والشعبي التي قدمها الفلسطينيون في كافة أماكن وجودهم تحتاج إلى ترجمة سياسية حقيقية، فلا يمكن وقف العدوان المتدحرج دون تشكيل حالة وحدوية فلسطينية تكون أساس المواجهة.
اليوم، تتناول العديد من التحليلات الفلسطينية خطابات نتنياهو والإدارة الأمريكية، التي تتحدث عن تهجير الفلسطينيين، دون التركيز على السؤال الأهم: ماذا نريد نحن كفلسطينيين؟، فبدلًا من الانشغال بما يريد الاحتلال، يجب أن يكون هناك نقاش وطني حول رؤيتنا وأهدافنا، لأن الإشكالية الحقيقية لا تكمن فقط فيما يطرحه ترامب أو نتنياهو عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بل في غياب موقف فلسطيني موحد يواجه هذه التحديات.
من هذا المنطلق، يوجه الأسرى رسالة واضحة: يجب إعادة تشكيل المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة بناء الرافعة السياسية التي ستكون الأساس الحقيقي لمواجهة العدوان. نحن نعيش واحدة من أخطر المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، مما يجعل من الوحدة الوطنية ضرورة لا يمكن تأجيلها.
يؤكد الأسرى أن التفكير في فلسطين كقضية تحرر وطني يجب أن يكون الأساس، لا أن يتم التركيز على المصالح الضيقة والتجاذبات السياسية، فالاختلافات في الرأي يجب أن تُدار بالحوار، لا أن تتحول إلى حالة من الانقسام. الاختلاف ظاهرة صحية، لكنه لا يعني الافتراق، والمطلوب هو إدارة الخلافات بطريقة سليمة، بعيدًا عن التخوين والتكفير السياسي الذي يضرب وحدة الصف الفلسطيني.
لا يجوز أن يكون هناك أكثر من 60 ألف شهيد، وتدمير ما يقارب 69% من قطاع غزة، فيما يبقى النقاش الفلسطيني محصورًا في خلافات سياسية تُدار عبر وسائل الإعلام بدلًا من حوار وطني حقيقي يقود إلى حالة وحدوية فلسطينية. لذلك، يرى الأسرى أن هناك حاجة ماسة إلى خطوات عملية واضحة، أهمها:
- تشكيل قيادة وطنية فلسطينية مؤقتة تقود الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الحرجة، وتكون الممثل السياسي الحقيقي له.
- إدارة الخلافات الوطنية ضمن إطار سياسي مسؤول، بدلًا من استمرار المشهد الحالي الذي يتمحور حول تجاذبات إعلامية دون أي خطوات عملية.
- تحقيق حوار وطني جاد يُنتج رؤية موحدة، بدلًا من استمرار التجزئة التي تمنح الاحتلال فرصة لتنفيذ مخططاته التصفوية.
يرى الأسرى أن الوحدة الوطنية ليست خيارًا ثانويًا، بل هي المفتاح الرئيسي للانتصار. رغم كل الظروف القاسية، يؤكدون أن إمكانية تحقيق الدولة الفلسطينية لا تزال قائمة، خاصة في ظل ما يعانيه الاحتلال من أزمات سياسية وإعلامية وميدانية. لكن العامل الحاسم في ذلك هو ترتيب الشأن الفلسطيني الداخلي، لأن العامل الذاتي الفلسطيني هو الرافعة الأساسية لتحقيق الحرية.
إذا لم يتم توحيد الجهود الفلسطينية، فستبقى سياسات الاحتلال التهجيرية والتصفوية تتقدم، خصوصًا مع محاولات تصفية الأونروا ومشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدان الشتات. هذه السياسات تستهدف تفكيك القضية الفلسطينية، مما يتطلب مواجهة وطنية موحدة وصمودًا مستمرًا لإفشالها.
لديك عدد كبير من الدراسات المنشورة، وجزء أساسي منها يتناول المشهد السياسي في كيان الاحتلال وتركيبته. كيف تصف المشهد الإسرائيلي الداخلي بعد السابع من أكتوبر؟ وما هي الانعكاسات المتوقعة مستقبلًا؟
المشهد السياسي الإسرائيلي يمر بمرحلة من التداخل العميق بين التناقضات الداخلية والشرط الاستعماري القائم، حيث تعمقت هذه التناقضات بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حتى وإن لم تظهر بشكل واضح على السطح حتى الآن. وأبرز الصدوع داخل المجتمع الإسرائيلي:
التناقض بين الدين والدولة: يشكل هذا الصدع أحد أبرز التحديات التي تواجه “إسرائيل”، حيث يتزايد الاستقطاب بين التيارات الدينية المتشددة والعلمانية، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الدولة وقوانينها.
التركيبة الأثنية: صراع الشرقيين والغربيين: لا يزال التمييز بين اليهود الشرقيين (السفارديين) والغربيين (الأشكناز) قائمًا، وهو أحد العوامل التي تؤثر في إعادة توزيع القوى داخل المجتمع الإسرائيلي، خصوصًا مع صعود التيارات الدينية والقومية المتطرفة التي تمثل الشرقيين بدرجة أكبر.
التناقض القومي بين الفلسطينيين والإسرائيليين: هذا الصراع هو جوهر وجود الكيان الإسرائيلي، وقد تصاعدت حدته بعد السابع من أكتوبر، حيث بات واضحًا أن المشروع الاستعماري لا يزال يواجه مقاومة فلسطينية مستمرة تمنع تصفية القضية.
استمرار مشروع اليمين في إعادة هيكلة الدولة: لا تزال حكومة نتنياهو واليمين المتطرف تسعى إلى تنفيذ تعديلات قضائية تمنح السلطة التنفيذية صلاحيات أوسع، وتقوض القضاء.
بعد هذه المواجهة، يواجه الاحتلال تحديات غير مسبوقة، حيث تعرضت أسطورة الردع الإسرائيلي لضربة كبيرة، إذ لم يعد بإمكان “إسرائيل” الادعاء بأنها قادرة على الضرب والسيطرة والوصول إلى كل مكان كما كانت تفعل في السابق. ما يعني انهيار “عقيدة نتنياهو”، التي ارتكزت على ثلاثة محاور رئيسية:
- تغييب القضية الفلسطينية دوليًا وإقليميًا.
- تعزيز المشروع التطبيعي مع الدول العربية.
- ترسيخ سياسة الفصل بين الفلسطينيين.
يمكن الجزم بأن “إسرائيل” بعد السابع من أكتوبر ليست كما كانت قبله، فالمتغيرات العاصفة التي يشهدها هذا الكيان ستستمر في تشكيل المشهد الداخلي لسنوات قادمة، وهناك انعكاسات عميقة ستؤثر على مستقبل الدولة الصهيونية، ويجب دراستها وتحليلها بعمق لرصد التحولات القادمة، التي قد تشمل:
- تصاعد الخلافات الداخلية بين التيارات المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي.
- إمكانية حدوث تغييرات في النظام السياسي الإسرائيلي، سواء على مستوى القيادة أو التوجهات العامة.
- استمرار الأزمة الأمنية والعسكرية، مما قد يؤدي إلى مراجعة الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية.
كيف ترى مآلات المشهد الفلسطيني الداخلي مستقبلًا؟ وهل يمكن أن تحمل صفقة تبادل الأسرى تغييرًا في المشهد القيادي الفلسطيني، خصوصًا في حال استكمال إطلاق سراح قيادة الحركة الأسيرة؟
المشهد السياسي الفلسطيني يمثل، بشكل أو بآخر، نوعًا من الحسرة للإنسان الفلسطيني، إلا أنه في الوقت نفسه يحمل بوادر أمل، فقد شكلت تجربة الأسر فرصة للتفاعل مع أجيال متعددة من الشباب الفلسطيني داخل سجون الاحتلال، وكان الوعي الوطني لهذه الأجيال بارقة أمل مهمة، حيث ساهمت تجربة الاعتقال في صقل وعيهم وإعدادهم لتحمل المسؤولية الوطنية مستقبلًا.
إلى جانب ذلك، هناك أصوات متزايدة تنادي بضرورة تحقيق الوحدة الوطنية باعتبارها أولوية في هذه المرحلة الحساسة، وإن تصاعد هذه الأصوات يعكس إدراكًا متزايدًا لدى مختلف القوى والفصائل الفلسطينية بأهمية تجاوز الخلافات لمواجهة التحديات الكبرى التي تتعرض لها القضية الفلسطينية.
إحدى القضايا التي يمكن أن تشكل رافعة مهمة في المشهد الفلسطيني هي خروج الأسرى من سجون الاحتلال، فالأسرى المحررون، بعد تضحيات جسام ودماء كثيرة قدمها الشعب الفلسطيني من أجل حريتهم، يحملون دينًا في أعناقهم، ما يضعهم أمام مسؤولية الارتقاء إلى مستوى التضحيات التي بُذلت من أجلهم، وهذا يتجسد بالنضال من أجل تحقيق حالة وحدوية فلسطينية تعكس تضحيات الأسرى والمقاومين.
بناءً على ذلك، فإن تحرر قيادات الأسرى قد يساهم في إعادة توجيه المشهد الفلسطيني نحو حالة وحدوية أكثر تماسكًا، حيث يمكن أن يكون لهم دور محوري في تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف وتعزيز خطاب الوحدة والمقاومة، ما ينعكس إيجابًا على مستقبل القضية الفلسطينية.
في ضوء التغيرات التي حملها طوفان الأقصى، ما هي الأولويات الوطنية الفلسطينية في المرحلة القادمة؟
تشكل المرحلة القادمة منعطفًا حاسمًا في مسيرة النضال الفلسطيني، ما يفرض تحديد الأولويات الوطنية بشكل واضح لمواجهة التحديات والاستفادة من المتغيرات التي فرضها طوفان الأقصى.
أولى هذه الأولويات تحقيق الوحدة الوطنية، وهي الأساس لأي مشروع تحرري فلسطيني، وقد تم التطرق إليها باستفاضة سابقًا باعتبارها المدخل الحقيقي لإعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني.
ثانيًا، لا بد من إعادة صياغة وتشكيل الهوية الفلسطينية الجامعة على قاعدة قيم التحرير والمقاومة، بحيث تكون هذه الهوية إطارًا وطنيًا مشتركًا يضم كافة أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، بعيدًا عن أي تجاذبات سياسية ضيقة.
ثالثًا، تشكيل ثقافتنا الوطنية الفلسطينية بحيث تستند إلى روايتنا التاريخية وتراثنا النضالي، كأداة لمواجهة محاولات الاحتلال طمس الوعي الوطني الفلسطيني وتزييف التاريخ.
رابعًا، إعادة بناء الوحدة الشعبية بين أبناء الشعب الفلسطيني، من خلال رفض التقسيمات الجغرافية الاستعمارية التي جعلت الفلسطينيين معزولين في معازل منفصلة بين الضفة وغزة والداخل المحتل والقدس والشتات. المطلوب هو إعادة اللحمة الشعبية بين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، بحيث يكون النضال الفلسطيني موحدًا وعابرًا لكل الحدود المصطنعة التي فرضها الاحتلال.
وأخيرًا، فإن حالة المقاومة والمواجهة يجب أن تظل في صلب الأولويات، حيث لا يمكن فصل أي من هذه القضايا عن واقع المواجهة المستمرة مع الاحتلال. فالمقاومة بكل أشكالها تبقى الخيار الوحيد لفرض المعادلات واستعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهي العنوان الذي يجب أن تتجه إليه كل الجهود الوطنية في المرحلة القادمة.