منذ اليوم التالي لسقوط نظام الأسد، تشهد المحافظات الشرقية الثلاث، دير الزور في قسمها الواقع في الجزيرة، ومحافظتا الحسكة والرقة، إضافة إلى ريف حلب الشرقي، تصعيدًا أمنيًا وعسكريًا متزايدًا تقوده قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
واجهت “قسد” الحراك الشعبي الرافض لوجودها بفرض حالة الطوارئ وشنّ حملات اعتقال واسعة، مما أدى إلى تصاعد حالة الغليان الشعبي في هذه المناطق، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم، وسط أجواء من التوتر والتصعيد المستمر.
دير الزور.. أرضٌ لا تهدأ
مع بدء الانسحاب المفاجئ لقوات النظام والميليشيات الموالية له من محافظة دير الزور في السادس من ديسمبر 2024، استولت “قسد” على القسم الجنوبي من المحافظة، المعروف محليًا باسم “الشامية” والواقع جنوب نهر الفرات، وذلك بموجب اتفاق مع النظام آنذاك، يقضي بتأمين انسحاب الجيش السوري نحو حمص مقابل استحواذ “قسد” على بقية المحافظة، كونها تسيطر منذ أواخر 2017 على القسم الأخر الواقع شمال النهر والمعروف بـ”الجزيرة”.
مع سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر ودخول قوات “إدارة العمليات العسكرية” إلى دمشق، شهدت عدة مناطق في دير الزور، بما فيها المدينة، مظاهرات حاشدة تطالب بخروج “قسد” من المنطقة، وبعد يوم واحد من سيطرتها على المدينة، قُتل 11 مدنيًا برصاص “قسد” أثناء تفريقها مظاهرة مناهضة لها في مدينة دير الزور.
تصاعد الغضب الشعبي ضد “قسد”، وترافق مع عدة استهدافات لمواقعها في ريف دير الزور، بالتزامن مع وصول تعزيزات عسكرية كبيرة من الشمال إلى مداخل المدينة، وأمام هذا الضغط، انسحبت “قسد” من دير الزور في 11 ديسمبر، لتسيطر عليها قوات “إدارة العمليات العسكرية”، التي أعلنت حينها إحكام قبضتها على النصف الثاني من المحافظة، والذي كان خاضعًا سابقًا لسيطرة النظام والميليشيات الإيرانية.
خلال الأيام الخمسة التي سيطرت فيها قوات سوريا الديمقراطية على المنطقة، تمكنت من نقل غالبية السلاح والعتاد الثقيل الذي تركه جيش النظام خلفه في مواقعه العسكرية بمحيط المدينة والمطار العسكري، كما قامت بنقل ما يقارب 3000 جندي من قوات النظام الذين كانوا لا يزالون في المدينة إلى المناطق التي تسيطر عليها.
إلى جانب ذلك، نفذت “قسد” عمليات نهب واسعة استهدفت المؤسسات والمنشآت الحكومية، في خطوة أثارت استياءً واسعًا بين السكان المحليين.
أما القسم الشمالي من محافظة دير الزور، المعروف بـ “الجزيرة“ والخاضع لسيطرة “قسد” شهد توتراً متزايداً بالتوازي مع التطورات في المدينة. حيث انهارت قيادة مجلس دير الزور العسكري (DMC) التابع لـ”قسد”، مجدداً عقب انشقاق ستة قياديين بارزين، كان أبرزهم تركي الضاري، الناطق باسم المجلس، الذي أعلن انشقاقه في 12 ديسمبر، ولحق به عشرات العناصر الذين عبروا نهر الفرات نحو مناطق سيطرة الحكومة الجديدة.
أمام هذا التصدع، سارعت “قسد” إلى جلب تعزيزات ضخمة من الحسكة والرقة إلى دير الزور لتعويض النقص، في محاولة للسيطرة على الوضع المتدهور.
وسبق لمجلس دير الزور العسكري أن تفكك وانهار خلال أحداث أغسطس 2023، التي اندلعت إثر “ثورة العشائر“، والتي كانت شرارتها اعتقال “قسد” للقائد السابق للمجلس، أحمد الخبيل (أبو خولة)، حيث يُعد المجلس الأداة العسكرية الأساسية التي تحكم “قسد” من خلالها المنطقة، حيث تقود تشكيلاته شخصيات من كوادر حزب العمال الكردستاني (PKK)كقيادة عليا، بينما يتألف غالبية عناصره من مقاتلين محليين، بقيادات عربية ذات صلاحيات محدودة.
أما على صعيد السكان المحليون فعاشوا حالة من الحذر والترقب، حيث كانوا ينتظرون عبور قوات إدارة العمليات العسكرية إلى مناطقهم، لكن ذلك لم يحدث، وظل الوضع على حاله حتى 19 يناير 2025، عندما شن مسلحون من قوات العشائر سلسلة هجمات استهدفت مواقع قسد في ريفي دير الزور الشرقي والغربي.
في اليوم التالي، عبر نحو أربعين مسلحًا من أبناء بلدة ذيبان شرقي دير الزور، الذين كانت “قسد” قد هجّرتهم منذ عامين إثر مشاركتهم في ثورة العشائر عام 2023. نفذ هؤلاء المسلحون عملية خاطفة سيطروا خلالها على البلدة ورفعوا علم الجمهورية العربية السورية، مما دفع عشرات من مسلحي “قسد” إلى الفرار بشكل هستيري. ولم تمض سوى ساعة واحدة حتى انسحب المسلحون مجددًا إلى الضفة الأخرى من نهر الفرات، حيث مناطق سيطرة قوات الإدارة الجديدة.
ردًا على ذلك، أعلنت “قسد” حالة الاستنفار، وفرضت حظر تجول شامل في الريف الشرقي، قبل أن تبدأ حملة اعتقالات واسعة طالت في مرحلتها الأولى 27 مدنيًا، من بينهم أطفال، مسنون، وشخص يعاني من اضطرابات عقلية، وفقًا لشبكة فرات بوست الإعلامية.
على مدار الأيام التالية، توسعت حملة الاعتقالات بمشاركة قوات “HAT” التابعة لـ”قسد”، مستهدفة العشرات من المدنيين في مختلف مناطق دير الزور، حيث شملت الاعتقالات بلدات وقرى عدة، منها: ذيبان، الحوايج، الطيانة، سويدان، الشحيل، الزر، الشعفة، زغير جزيرة، محيميدة، الحصان، حمار العلي، رويشد، العزبة، أبو حمام، الكشكية، غرانيج، أبو خشب، جديد عگيدات، جديد بگارة، أبو النيتل، الكبر، الهرموشية، جزرة ميلاج، النملية. وبلغ عدد المعتقلين نحو 80 شخصًا، وفقًا لشبكة نهر ميديا المحلية.
من بين المعتقلين كان الصحفي ثامر الشحاذة، الذي أُلقي القبض عليه من منزله في بلدة الشعفة شرقي دير الزور. وبحسب مصادر محلية، فإن سبب اعتقاله هو قيامه بتصوير علم الجمهورية العربية السورية، حيث لا تزال “قسد” تمنع رفعه رغم إعلان ما يُعرف بـ “الإدارة الذاتية” اعتمادها العلم السوري كراية رسمية في مناطق سيطرتها.
حتى تاريخ 3 فبراير 2025، لا تزال حملة الاعتقالات التي تنفذها (قسد) مستمرة في دير الزور، حيث كان آخرها اعتقال 13 شابًا من بلدة الكُبّر في ريف دير الزور الغربي.
وخلال هذه الحملة، ارتُكبت عشرات الانتهاكات بحق عوائل المعتقلين، شملت عمليات نهب وسرقة للمنازل، تحطيم الأثاث، بالإضافة إلى الاعتداء بالضرب وإهانة النساء، في ممارسات مكررة ينتهجها عناصر “قسد” منذ سيطرتهم على المنطقة في أواخر 2017.
من جانبها، بررت “قسد” هذه الاعتقالات عبر إعلامها الرسمي، مدعية أنها تستهدف “فلول النظام السابق”، والمجموعات المسلحة التابعة للشيخ إبراهيم الهفل، بالإضافة إلى عناصر متورطة في أعمال وصفتها بـ”التخريبية”.
الناشط خطاب العُمر من دير الزور يقول لـ “نون بوست” إن “الوضع في مناطق دير الزور – الجزيرة أصبح لا يُطاق فعليًا”، حيث تحولت المنطقة إلى ثكنة عسكرية، مع دوريات أمنية مكثفة خلال النهار، ومداهمات ليلية لا تتوقف. وأشار إلى أن الشباب باتوا يتجنبون النوم في منازلهم خوفًا من الاعتقالات التعسفية، فيما يخضع السكان لتفتيش هواتفهم في أي لحظة.
وأضاف أن “قسد عادت إلى سياستها القديمة باتهام المعتقلين بالانتماء إلى تنظيم الدولة (داعش)، وهو الأسلوب الذي لطالما استخدمته لقمع المعارضين”.
وأوضح العُمر أن مروحيات تابعة للتحالف الدولي شاركت الأسبوع الماضي في ثلاث عمليات اعتقال استهدفت عدة أشخاص، مشيرًا إلى أن “قسد لا تزال تستخدم شماعة داعش في أجنداتها، ويبدو أنها الورقة الأخيرة التي تساوم بها على بقائها في المنطقة”.
وأكد أن هذه السياسات لم تتوقف عند الاعتقالات، بل امتدت إلى استهداف المدنيين، حيث قُتل شخصان خلال الأيام الماضية برصاص قسد، فيما أصيبت سيدة وطفل أيضًا، ما يزيد من حالة التوتر والغضب الشعبي في المنطقة.
وذكرت شبكات محلية، من بينها نهر ميديا، أن الشاب محمد السليم العبدالله العطيش تُوفي أثناء محاولته الفرار من مداهمة نفذتها قوات “قسد” فجرًا في بلدة أبو حمام، حيث تعرض لنوبة قلبية أودت بحياته.
وفي حادثة أخرى، قُتل الطفل صلاح أيوب العبود النزال (11 عامًا) إثر إصابته بطلق ناري في الرأس في بلدة الشعفة، أطلقه أحد عناصر “قسد” نتيجة خلاف بين أفراد الميليشيا بالقرب من نهر الفرات.
كما أفادت شبكة فرات بوست بأن “قسد” نفذت إعدامًا ميدانيًا بحق أحد عناصرها العرب، فهد شعلان السويجي، بعد محاولته الانشقاق والفرار من الثكنة العسكرية التي كان يخدم فيها في ناحية الصور بريف دير الزور الشمالي. وينحدر السويجي من بلدة ذيبان شرقي دير الزور، في واقعة تعكس تصاعد الانتهاكات داخل صفوف الميليشيا.
الرقة تحت الحصار
الحملة الأمنية التي تنفذها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الرقة لا تزال مستمرة، حيث يبقى حظر التجول ساريًا، فيما تشهد ليالي المدينة حشودًا عسكرية مكثفة بشكل يومي، مع حالة من الترهيب المتعمد يمارسه مسلحون من “جوانين شورشگر” (الشبيبة الثورية) ضد السكان، من خلال عمليات ترويع وانتهاكات بحق المدنيين.
بحسب الصحفي مهاب الناصر، فإن الرقة تعيش في ظل حالة من القمع والتوتر المستمر. ففي 12 ديسمبر، خرجت مظاهرة ضخمة في المدينة احتفالًا بسقوط نظام الأسد، حيث رفع المتظاهرون “العلم السوري الجديد”، إلا أن الهتافات سرعان ما تحولت للمطالبة بخروج “قسد” من المدينة ودعم قوات الإدارة الجديدة.
ردت “قسد” بالرصاص الحي، مما أدى إلى إصابة 50 شخصًا ومقتل 5 متظاهرين، وفقًا لشبكات محلية. أعقب ذلك قطع الإنترنت عن المحافظة، وفرض حظر تجوال ليلي، وانتشار مكثف لعناصر “قسد” مع نصب عشرات الحواجز. كما شنت حملة اعتقالات واسعة بدأتها بالمصابين في المشافي، حيث اقتحمت المشفى الوطني وأخذت الجرحى إلى سجونها.
كما اعتقلت “قسد” جميع المشاركين في التظاهرات، بمن فيهم أطفال، وفقًا لما نقلته شبكة “الرقة تذبح بصمت”، حيث تجاوز عدد المعتقلين 200 شخص. لم تتوقف الحملة عند هذا الحد، بل امتدت إلى ملاحقة كل من ينتقد “قسد” على مواقع التواصل الاجتماعي، وشملت الاعتقالات حالات نهب للمنازل وترويع للسكان.
يضيف مهاب الناصر، أحد أبرز إعلاميي الثورة السورية في المحافظة، والمنحدر من مدينة الطبقة، أن الاعتقالات لا تزال مستمرة حتى اليوم، فيما يبقى الحصار المفروض على السكان منذ سقوط النظام دون أي تغيير.
في ظل هذه الأوضاع، ومع بدء المفاوضات بين “قسد” والحكومة السورية، عقدت “قسد” اجتماعًا مع عدد من الشخصيات المحلية في الرقة بتاريخ 17 يناير، في منزل آل العجيلي، وأعلنت “قسد” بشكل صريح عزمها الدخول في مفاوضات للحصول على حكم لامركزي في مناطق سيطرتها، طالبةً دعم السكان المحليين، مع تقديم وعود بمنحهم صلاحيات واسعة في إدارة مناطقهم، وتقاسم الثروات، والسماح برفع العلم السوري، ومناقشة إمكانية إلغاء التجنيد الإجباري.
في المقابل، طالب ممثلو الرقة برفع الحظر الجزئي بالكامل عن المدينة وريفها، وإنهاء حالة الطوارئ، ورفع علم الجمهورية العربية السورية رسميًا على سارية الرقة قرب الإطفائية، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، بالإضافة إلى الإفراج عن المعتقلين والناشطين الذين تم توقيفهم خلال الأحداث الأخيرة.
لكن “قسد” لم تستجب بشكل كامل لهذه الشروط، حيث مددت الحظر بدلًا من إلغائه، ورفعت علم سوريا الجديد إلى جانب صورة عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK). كما أفرجت عن عدد محدود من المعتقلين مقابل مبالغ مالية، وفقًا لناشطين من الرقة.
الصحفي محمد عثمان أكد أن “قسد” اعتقلت طفلين من الرقة، هما محمود إسماعيل الحمادي (15 عامًا) ومحمود غزوان الحمادي (15 عامًا)، بسبب مشاركتهما في مظاهرات الرقة ورفعهما علم الثورة. وعند محاولة عائلتيهما رؤيتهما في السجن، طلب مسؤول السجن مبلغ 10,000 دولار مقابل الإفراج عنهما، وهو ما تكرر مع العديد من المعتقلين الآخرين، بحسب شهادات محلية.
على صعيد الاعتقالات، كان آخرها اعتقال الشيخ عبد الكريم الصايل، الذي احتجزته استخبارات “قسد” فجر الاثنين من منزله في بلدة الكرامة بريف الرقة الشرقي، بسبب انتقاده ممارسات “قسد” في خطبة بأحد مساجد البلدة، وفقًا لشبكة “نهر ميديا”.
سقوط نظام الأسد واقتراب قوات “إدارة العمليات العسكرية” من الرقة دفع بالعشرات من عناصر “قسد” إلى الانشقاق والفرار نحو مناطق سيطرة الحكومة، فيما توارى آخرون عن الأنظار في منطقة الجزيرة. ردًا على ذلك، كثفت “قسد” دورياتها للبحث عنهم.
ووفقًا للصحفي مهاب الناصر، فقد لجأت استخبارات “قسد” إلى اعتقال ذوي العناصر المنشقين وأفراد من عائلاتهم، بغية ابتزازهم للضغط عليهم لتسليم أنفسهم.
من أحدث هذه الحالات، قيام استخبارات “قسد” باعتقال المسن موسى الكدو السفراني من منزله في مدينة الرقة، لأن ابنه، علي موسى الكدو، قد انشق عن “قسد” وهرب من المنطقة، وأثناء عملية الاعتقال، تعرضت النساء في المنزل للإساءة اللفظية، كما قام عناصر الميليشيا بتخريب وإتلاف محتويات المنزل.
هذا الأسلوب الذي تنتهجه “قسد” ضد المنشقين عنها والمطلوبين لها ليس جديدًا، حيث اعتادت على اعتقال عائلات المنشقين ومساومتهم حول سلامتهم مقابل تسليم أنفسهم. هذه السياسة، التي كانت تُمارس سابقًا في مناطق الجزيرة، باتت تُنفذ الآن بشكل واضح في الرقة بعد موجة الانشقاقات الواسعة عن صفوف الميليشيا.
الحسكة.. ليست بمنأى عن الانتهاكات
لم تكن الحسكة بمنأى عن الأحداث التي تشهدها الرقة ودير الزور، فبالتزامن مع مظاهرات الرقة في 12 ديسمبر، خرج العشرات من أهالي أحياء النشوة وغويران في الحسكة في تظاهرات تطالب بخروج “قسد” من المدينة وتسليمها للحكومة السورية.
رفع المتظاهرون علم الدولة السورية الجديد، وقاموا بإنزال أعلام حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، ما دفع عناصر “قسد” إلى إطلاق النار عليهم، مما أدى إلى إصابة شخصين، وفقًا لما نقلته شبكة الخابور المحلية.
لاحقًا، قامت “قسد” باعتقال المصابين من داخل المشفى، وشنت حملة مداهمات فجر اليوم التالي في أحياء غويران والنشوة، حيث اعتقلت أكثر من 20 شخصًا. وتوسعت الحملة لاحقًا لتشمل ريف الحسكة، حيث تم اعتقال أكثر من 30 مدنيًا، وفق مصادر محلية. وخلال المداهمات، قتلت “قسد” شابين شقيقين في قرية مجيبرة لسبب غير معلوم.
بين 27 و30 يناير، نفذت “قسد” حملة اقتحامات واسعة شملت قرى تل عودة، جرمز، الرطلة في ريف القامشلي، بالإضافة إلى قرى الجنيدية، دبانة، حسو، خويتلة، الدولاية، وأبو فاس، ومنطقة الشدادي في الريف الجنوبي للحسكة. كما اعتقلت المسن حسين الحمدي (67 عامًا) في قرية تل طويل بسبب انشقاق ابنه عن صفوف “قسد” وفراره إلى العراق.
بالمجمل، يعيش سكان الجزيرة السورية حالة من الترقب لما ستؤول إليه المفاوضات الجارية بين “قسد” والحكومة في دمشق، حيث يسود الصبر والتروي في انتظار تطورات الأوضاع. في المقابل، شهدت ساحة الأمويين في دمشق اعتصامًا نظمه أبناء المنطقة الشرقية يوم الجمعة الماضي، طالبوا فيه بطرد “قسد” من المنطقة وتحريرها.
في ظل هذه التطورات، تواصل “قسد” تشديد قبضتها الأمنية في الجزيرة السورية بشكل غير مسبوق، في محاولة لمنع أي ثورات شعبية محتملة قد تهدد وجودها. فبالنسبة لها، الاحتفاظ بهذه المناطق يعد ورقة مساومة وضغط خلال مفاوضاتها مع حكومة دمشق، والتي لا تزال جارية حتى اليوم.
منبج.. نزيف متواصل
تُعد منبج وريفها اليوم من أكثر المناطق نزيفًا في سوريا، حيث لا تزال الأوضاع الأمنية فيها غير مستقرة منذ سيطرة فصائل “الجيش الوطني” عليها في 8 ديسمبر، وانسحاب ميليشيا “قسد” منها. منذ ذلك التاريخ، تعيش المدينة وريفها أيامًا دامية، إذ شهدت سبعة تفجيرات بسيارات مفخخة خلال الأربعين يومًا الماضية، أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 45 مدنيًا، معظمهم من النساء والأطفال.
كان آخر هذه التفجيرات صباح الاثنين، 3 فبراير، حيث انفجرت سيارة مفخخة على طريق رئيسي في أطراف منبج، بجانب مركبة تقل مجموعة من النساء المزارعات. وفقًا لـ الدفاع المدني السوري، أسفر الانفجار عن مقتل 20 شخصًا وإصابة 10 آخرين، بعضهم في حالة حرجة.
جاء هذا الحادث بعد انفجار آخر، يوم السبت الماضي، أدى إلى مقتل أربعة مدنيين (شابّتين وطفلين) في منبج. وكما هو متوقع، وُجهت أصابع الاتهام إلى “قسد”، إلا أن الأخيرة نفت مسؤوليتها عن التفجير عبر بيان رسمي، واتهمت “فصائل موالية لتركيا” بالمسؤولية عنه.
لكن الشارع السوري يكاد يجمع على ضلوع “قسد” في التفجير، خاصة وأنها سبق أن اتُهمت بتنفيذ عدة تفجيرات مماثلة في السابق. ففي 11 يناير الماضي، تم ضبط سيارة مفخخة كانت متجهة إلى مدينة حلب قادمة من مناطق سيطرة “قسد”، إلا أن الميليشيا نفت مسؤوليتها عنها.
بعد تفجير السبت في منبج، عرضت الإدارة العسكرية في المدينة مقطع فيديو من كاميرات المراقبة، يُظهر شخصًا قيل إنه هو من ركن السيارة المفخخة. وبعد ساعات، ظهر نفس الشخص في مقطع فيديو آخر من الرقة، ما عزز فرضية تورطه في التفجير، ورفع مستوى الشكوك حول دور “قسد” في العمليات الأخيرة.
أدانت رئاسة الجمهورية السورية في بيان رسمي التفجير الذي وقع في منبج، مؤكدة أنها لن تتوانى في ملاحقة ومحاسبة المتورطين في هذا العمل الإجرامي، مشددة على أن هذه الجريمة لن تمر دون إنزال أشد العقوبات بمرتكبيها ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه العبث بأمن سوريا أو إلحاق الضرر بشعبها على حد وقف البيان.
وفي ريف منبج الشرقي يشهد معارك ضارية بين (قسد) من جهة، وفصائل “الجيش الوطني” من جهة أخرى، على جبهات سد تشرين وجسر قره قوزاق. لا تزال “قسد” تتحصن داخل جسم السد، في ظل اشتباكات يومية تتسبب بخسائر فادحة لكلا الطرفين، بينما لم تسلم القرى القريبة من تبعات هذه المواجهات.
تسبب قصف “قسد” للقرى القريبة من السد في سقوط أكثر من 30 مدنيًا بين قتيل وجريح منذ بداية المعارك، كان آخرها هجوم بمواد حارقة على قرية تل عرش بتاريخ 21 يناير، ما أسفر عن مقتل طفلتين وإصابة ستة أفراد آخرين من نفس العائلة بحروق خطيرة. أدان الدفاع المدني السوري القصف في بيان رسمي، إلا أن “قسد” نفت مسؤوليتها كعادتها.
رغم استمرار المعارك، لم يطرأ أي تغيير ملحوظ على خارطة السيطرة، وفي محاولة للالتفاف على الضغوط العسكرية، لجأت “قسد” إلى نقل قوافل بشرية إلى السد مكونة من موظفي “الإدارة الذاتية”، حيث تجبرهم على التظاهر ضد ما تسميه “العدوان التركي”. لكن في الواقع، تستغل هذه القوافل لنقل العتاد والأسلحة إلى مقاتليها داخل السد، ولإجراء عمليات تبديل العناصر وسحب القتلى والمصابين.
تواجه هذه القوافل ضغوطًا داخلية، حيث تهدد “قسد” كل من يرفض المشاركة بالفصل والعقوبات، كما تعرضت هذه القوافل لعدة ضربات جوية من قبل الطائرات المسيّرة التابعة للجيش الوطني، ما أدى إلى وقوع خسائر في الأرواح بين المشاركين.