قيصر يخرج من الظل.. شاهد الإبادة في سجون الأسد يكشف هويته

بعد سنوات من التخفي، ظهر “قيصر” سوريا، ليفصح عن هويته الحقيقية ويغادر ظلال البطولة الصامتة نحو الضوء، بعد أن كان قد كشف تفاصيل واحد من أفضع الجرائم ضد الإنسانية وهزت ضمير العالم.

وظهر المساعد أول فريد المذهان، ابن مدينة درعا في برنامج “للقصة بقية” عبر شاشة الجزيرة، ليروي تفاصيل مهمته القاسية التي أداها في أحلك سجون النظام السوري. ليكون المذهان، الذي عمل رئيسًا لقلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، الشاهد الأهم على بشاعة جرائم التعذيب التي هندسها الأسد، عبر التقاط آلاف الصور، التي استخدمت لاحقًا كأدلة جنائية.

وقد افتتح حديثه في أول مقابلة تلفزيونية له قائلًا: “أنا المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، المعروف بقيصر، ابن سوريا الحرة، أنا من مدينة درعا، مهد الثورة السورية”، معبرًا عن فخره وارتباطه الوثيق بمسيرة الشعب السوري لانتزاع الحرية من براثن القمع.

من هو المذهان وما تفاصيل عمله؟

عمل فريد المذهان مصورًا في وحدة التوثيق التابعة للشرطة العسكرية السورية في القابون، الواقعة بمدينة دمشق، بينما كان يقيم في مدينة التل في ريف دمشق. قبل عام 2011، كان المذهان يعمل في قسم الأدلة القضائية في توثيق وتصوير الحوادث الجنائية في دمشق، مثل حالات القتل والانتحار والحرائق. ولكن مع اندلاع الثورة السورية، تغيّرت طبيعة عمله بشكل جذري، حيث أصبح مسؤولًا عن توثيق وتصوير جثث ضحايا الاعتقال من مختلف الفئات، من أطفال ونساء ورجال.

خلال هذه الفترة، التقط المذهان حوالي 27 ألف لقطة، توثق معاناة 11 ألف معتقل قُتلوا تحت التعذيب بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013. وعلى الرغم من بشاعة الجرائم، كانت السلطات الرسمية تسجل أسباب الوفاة بشكل وهمي، مثل “توقف القلب والتنفس”، في محاولة لإخفاء الحقيقة وتزييف الوقائع.

الهوية العسكرية لفريد المذهان الملقب بقيصر

ذكر المذهان أن أول مهمة له كانت في بداية حملات الاعتقال التي شنتها قوات النظام ضد أهالي مدينة درعا. حيث تم توجيه أوامر لقسم الأدلة القضائية بالتوجه إلى مشرحة مشفى تشرين العسكري لتصوير جثث أشخاص مجهولين. ليتبين لهم بعد ذلك أن هذه الجثث كانت تعود لمتظاهرين سلميين خرجوا مطالبين بإسقاط النظام، وتم نقلهم عبر شاحنة تستخدم عادة لنقل المواد الغذائية.

وأضاف أنه خلال الأشهر الأولى من الثورة، كان توثيق الجثث يتم في مشرحة مشفى تشرين العسكري، ومن ثم توسع العمل ليشمل مشرحة مشفى حرستا، وأحيانًا مشرحة مشفى المزة العسكري، التي تم تحويل مرآب سياراتها إلى ساحة لتجميع الجثث حتى اكتمال عملية تصويرها ونقلها للدفن في مقابر جماعية.

آلية تسريب الصور وتهريبها

عمل المذهان على نقل الصور عبر بطاقة ذاكرة “فلاش ميموري”، حيث كان يخبئها في أماكن غير متوقعة مثل جواربه أو في ربطة الخبز، لتجاوز التفتيش على الحواجز الأمنية التي كانت تفصل بين مقر عمله في دمشق ومقر سكنه في مدينة التل. استمرت عملية تهريب الصور بشكل شبه يومي لمدة تقارب الثلاث سنوات، كان يواجه خلالها خطرًا دائمًا، عند عبور الحواجز التي تسيطر عليها القوات الحكومية.

استعان المذهان في عملية تخزين الصور بأحد أصدقائه وهو أسامة عثمان (سامي)، الذي كان يقوم بنقلها إلى جهاز احتياطي يحفظ بها الصور من الضياع أو الحذف ليعاود هو التقاط المزيد من الصور باستخدام ذات البطاقة.

وحسب ما ذكر خلال حديثه، أن جثث المعتقلين كانت تصل إلى المشرحة، وهي تحمل ثلاثة أرقام. الرقم الأول من أعلى الجثة كان يُعطى للمعتقل منذ دخوله السجن، بينما الرقم الثاني كان يشير إلى الفرع الأمني الذي اعتقله وقتله، والرقم الثالث كان رقماً طبياً يُعطى من قبل الطبيب الشرعي بعد إصدار بيان الوفاة. فيما كانت تتم مطابقة هذه الأرقام مع قائمة الأسماء التي تُرسل لاحقًا إلى الشرطة العسكرية بالقابون.

وأشار إلى أن أوامر التصوير كانت تُصدر من أعلى مستويات السلطة، بهدف ضمان تنفيذ عمليات القتل بما يتماشى مع القرارات السياسية للنظام. وأوضح أن قادة الأجهزة الأمنية كانوا يعبرون عن ولائهم المطلق لنظام الأسد من خلال توثيق صور جثث ضحايا الاعتقال، مما يعكس أن عمليات التصفية كانت تتم وفق آلية ممنهجة ومدروسة.

وذكر أنه في بداية الحراك الثوري كان عدد الجثث التي يتم توثيقها يتراوح بين 10 إلى 15 جثة يوميًا، ليرتفع هذا العدد لاحقًا إلى 50 جثة يوميًا مع تصاعد حملات القمع والعنف تجاه المدنيين.

قرار الانشقاق

اتخذ المذهان قرار الانشقاق عن صفوف النظام السوري منذ بداية الثورة، إلا أنه قرر تأجيل هذه الخطوة لعدة أشهر، مدفوعًا برغبته في جمع أكبر قدر ممكن من الأدلة التي توثق حقيقة ما يحدث داخل معسكرات الاعتقال. كان يعلم أن الصور التي جمعها ستكون حاسمة في إدانة النظام أمام العالم، ولكن لم يستطع التحمل أكثر بعدما تفشى الابتزاز الممنهج ضد ذوي المعتقلين. هذا الابتزاز كان يطال آلاف الأسر السورية، حيث كان ضباط النظام يساومونهم للحصول على أيّ معلومة حول مصير أبنائهم، مقابل مبالغ طائلة.

روى المذهان حادثة مروعة، إذ طلب منه أحد زملائه صورة لأحد أفراد عائلته المعتقل في أحد الأفرع الأمنية، بعدما علم أن ضابطًا من النظام كان يبتز والد المعتقل للحصول على 600 ألف ليرة سورية مقابل معرفة مصير ابنه. لم يكن المذهان قادرًا على إرسال الصورة بسبب المخاطر التي قد تواجهه، لكنه قرر أن يتواصل مع والد المعتقل ليكشف له حقيقة مصير ابنه، محاولًا إنقاذه من المزيد من الابتزاز.

يبلغ عدد المختفين قسريًا في سوريا منذ اندلاع الثورة السورية ما لا يقل عن 113,218 شخص.

في ختام حديثه، قال المذهان كلمات تعكس أعمق مشاعر المسؤولية التي حملها: “لقد حمّلتني أرواحهم الطاهرة أمانة في عنقي، أن أوصل آهاتهم ومعاناتهم إلى العالم الحر، وأن أكون شاهدًا على مصيرهم المؤلم. وأرجو من الله أن أكون أديت هذه الأمانة بكل نية صادقة”، في تعبير صادق عن مدى التزامه الإنساني تجاه شهداء الثورة السورية وذويهم.

أما عن كيفية خروجه من سوريا، فقد غادر المذهان عبر الأردن إلى قطر، حيث جرى تجهيز الملف القانوني للقضية بعد تكليف السلطات القطرية شركة محاماة في لندن، كارتر روك وشركاه. التي قامت بتعيين ثلاثة مدعين دوليين سابقين وثلاثة خبراء في الأنثروبولوجيا الطبية للتأكد من صحة الصور وتقديم القضية للعالم.

اسم لن ينساه السوريون

عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لاقى ظهور “قيصر” بوجهه الحقيقي لأول مرة تفاعلًا عاطفيًا عميقًا من قبل السوريين في الداخل والخارج. فقد اعتبر الكثيرون تضحياته جزءًا لا يتجزأ من نضالهم المستمر ضد ظلم النظام البائد، وأكدوا أن مهمته الأشبه بالفدائية كانت بمثابة العصا الأخيرة في نعش النظام.


كما استذكر الكثيرين شهداءهم من الرجال والنساء والأطفال الذين قضوا تحت التعذيب في سجون الأسد، راجين لهم الرحمة والمغفرة، مؤكدين على أن معركة السوريين لا تزال مستمرة حتى تحقيق العدالة وإنصاف دماء الشهداء. 

 


في ذات السياق، عبّر النائب الأمريكي جو ويلسون عبر حسابه في “إكس” عن فخره بلقاء “قيصر” مرتين عندما حضر للحديث أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي. واصفًا إياه “بالبطل” بعد أن “مهَّد الطريق أمام العالم لفضح جرائم الأسد.” مما يعكس مدى أهمية صور “قيصر” في تعزيز الوعي العالمي بجرائم النظام السوري.

أدلة قيصر وتداعياتها الدولية

ساهمت صور “قيصر” في القضية السورية بشكل بالغ الأثر، حيث كشفت فظائع نظام الأسد على نطاق عالمي، ففي 12 يناير/ كانون الثاني 2014، تم عرض ملف صور قيصر خلف أبواب مغلقة أمام 11 وزير خارجية من مختلف دول العالم، حيث أفصح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس قائلاً: “ما رأيناه كان فظيعًا وبغيضًا”، مؤكدًا أن الأمر يتطلب تحقيقًا للكشف عن الحقيقة خلف هذه الوثائق التي تحمل أهمية بالغة.

وفي بداية عام 2019، استند التحقيق الذي أُطلق بناءً على الصور التي سربها “قيصر” إلى اعتقال مشتبه بهم في فرنسا وألمانيا، كانوا متورطين في أعمال تعذيب وجرائم ضد الإنسانية ضد السوريين. كما تم استخدام هذه الصور لتحديد المسؤولين عن التعذيب في سجون النظام السوري، مثل العقيد أنور رسلان، الذي تم محاكمته في ألمانيا عام 2020 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في فرع الخطيب 215.

فريد المذهان “قيصر” وهو يدلي بشهادته خلال جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي.

كما أسفرت هذه الأدلة عن فرض “قانون قيصر”، الذي يُعد من أبرز النتائج المترتبة على هذه العملية الفدائية. حيث تم سن هذا القانون في الولايات المتحدة عام 2019، ليُفرض بموجبه عقوبات شديدة على النظام السوري وكل من يتعاون معه. استهدف القانون الأفراد والكيانات التي تقدم الدعم العسكري والاقتصادي للنظام، ولا سيما في مجالات الطيران والنفط والغاز والبناء والهندسة.

ختم المذهان حديثه بمطالبة المجتمع الدولي برفع العقوبات عن سوريا، معبرًا عن أمله في أن تتمكن الحكومة السورية الجديدة من فتح محاكم وطنية لملاحقة المسؤولين عن جرائم الحرب. مؤكدًا على أن العدالة يجب أن تأخذ مجراها من أجل إنصاف الضحايا وعائلاتهم، وأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق العدالة للشعب السوري.