بدأ كل شيء في اللحظة التي خرجت فيها من باب المنزل وأغلقته ورائي، وتركتُ مشاعري المختلطة بالحماسة والقلق والخوف تتحكم بأفكاري، لم تكن لدي أدنى فكرة عما سوف أواجه في الأيام العشرة المقبلة، حيث سأقضيها في مخيم “بسمة” الصيفي، وسط غرباء لنتنقل سويًا بين المدن التركية لخوض تجارب متنوعة.
دخلت صالة الانتظار في المطار، لأرى عدداً من الوجوه الجديدة وأسمع أصواتاً غير مألوفة ولهجاتٍ لا تشبه لهجتي، لم أتخيل نفسي يومًا في هذا المكان، مع هؤلاء الناس، لوحدي. بالطبع، كأي إنسان آخر، بدأت أسئلة عديدة تراودني، كيف سأعيش عشرة أيام بلياليها مع أناسٍ أعرفهم بالكاد؟ كم هي الجهود التي سأبذلها حتى أنجح في التأقلم معهم وأنا التي أواجه تحديات بالاندماج بسرعة في بيئة جديدة؟ كيف سأشعر بأنني واحدةٌ منهم؟ والأهم: هل سيكون انطباعهم عني جيداً أم لا؟ كنت أعلم أن تلك الأسئلة لن تنتهي إلا إذا تقدّمت وبدأت البحث عن أجوبة، بالفعل.
جلسنا سوية منتظرين بقية المشاركين في المخيم والذين توافدوا من أماكن مختلفة، من الكويت ومصر وسوريا وقطر والسعودية، وبدأنا نتناول أطراف الحديث ونتعرف على بعضنا البعض، أسماءنا وأعمارنا ومن أين أتينا، هواياتنا واهتماماتنا وتطلّعاتنا. أقلعت الطائرة متوجهة إلى مدينة أنطاليا حيث سنقضي النصف الأول من أيام المخيم.
لأول مرة في حياتي لا أغط في النوم وأنا جالسة في الطائرة، رغم الإرهاق الذي كنت اشعر به، فكيف أنام وهنالك إعصار من الأفكار يهب في رأسي؟، “هل سأندم على قدومي إلى هنا أم ستكون تجربة أتذكرها دائمًا بالخير؟” حدثتُ نفسي.
ما إن وصلنا إلى وجهتنا حتى ذهبنا إلى غرفنا لكي ننال قسطًا من الراحة واتضح بأنني سأقيم بنفس الغرفة مع فتاة أخرى، لا تشبهني ولا أشبهها في شيء بالإضافة إلى أعمارنا المتباعدة قليلًا. دردشنا عن أنفسنا وعن يومنا، اكتشفت أنني لست سيئة جدًا؛ كما اعتقدت دائمًا، عندما يأتي الأمر إلى التواصل وبدء محادثة مع الآخرين.
لاحقًا، وضمن فعالية كسر الجليد وبناء الروابط بين أعضاء الفريق، اجتمعنا سويًا بإشراف المرشدين، في حلقة دائرية عرّفنا عن أنفسنا وعما نحب. في تلك اللحظة بدأ عقلي بالاستيعاب بأني الفلسطينية الوحيدة بين عشرات الناس من مختلف الجنسيات العربية، “كيف سأتأقلم مع هذا الوضع؟” سألتني نفسي.
النفس والغير ومهارات المستقبل
ورشاتٍ تعليمية تطبيقية حول تكنولوجيا المستقبل وفعاليات ترفيهية ومغامرات ورحلات استكشافية وجلسات اجتماعية لتنمية قدرات التواصل.. وسط كل هذا اتّضح لي بأنني؛ ورغم الصعوبات التي واجهتها، أحب التواصل مع من حولي وأحب المشاركة وأحب أن أعرف أكثر عن كل شيء وكل شخص.
قسم المخيم لثلاثة أقسام رئيسية: الأول للترفيه واللياقة البدنية والمغامرات، الثاني لاكتساب مهارات العمل في مجموعات وفهم المشاعر والتواصل مع النفس ومع الآخرين. والثالث والأهم، هو التعرف على مجالات عمل تكنولوجيا المستقبل، التي يعمل عليها المختصون في هذا القطاع، ويطورون فيها سريعاً لتخدم الإنسان في المستقبل.
فعلى سبيل المثال، أقيمت ورشة، على يد د. محمد سعد تاج الدين وفريقه، وهو مهندس مصري في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد. تمحورت الورشة التي استمرت لأيام حول الطباعة ثلاثية الأبعاد، ماهيتها وهدفها وكيف من الممكن أن نستغلها لأغراض تفيدنا في الحياة اليومية مع شرح مكثف ودقيق وتطبيق عملي. اختتمت الورشة بصناعة غرض رمزي لكل واحد منّا، حيث قمنا برسم الغرض باستخدام الحاسوب وتمّت طباعة الرسمة بشكل ثلاثي الأبعاد حيث تحولت من مجرد رسمة على شاشة إلى غرض محسوس بين أيدينا، مما أثار دهشتنا ووسّع آفاق تفكيرنا حول المستقبل والتكنولوجيا. أنا طبعتُ غيمة!
أما خلال ورشة الروبوتات عُرضت علينا مجموعة من المعلومات عن ماهية الروبوتات والدوائر الكهربائية مما ساعدنا باسترجاع ما تعلّمناه في حصص الفيزياء والتكنولوجيا في المدارس. كما تخللت الورشة فعاليات كبناء دوائر كهربائية متنوعة الأشكال والأحجام والتحكم بروبوتات لأهداف مختلفة. وبالنسبة لي شخصياً سعِدت بهذه الورشة حيث جعلتني أرى الروبوتات وعملية بنائها عن قرب وهو شيءٌ اتطلّع لتعلّمه والتخصص به في المرحلة المقبلة!
ثقافة الاختلاف وثروة التنوّع
وفر لنا المخيم البيئة المناسبة لتعزيز مهاراتنا في التواصل وتنميتها. بنيت صداقات وعلاقات مع من حولي بغض النظر عن اختلافاتنا، وأدركت كم نحن متشابهون. بالإضافة إلى توفير المخيم للمساحة المناسبة لنا للتعبير عن آرائنا ووجهات نظرنا المختلفة، مما ساعدني بتعزيز قدرتي في التعبير عن رأيي وعما يجول في خاطري، وأنا بالفعل لا أزال أرى تأثير ذلك على نفسي حتى الآن.
بعد انقضاء المخيم الذي توزع بين أنطاليا وألانيا وبورصة وإسطنبول، يمكنني استخلاص بعض العبر الهامة التي شكّلت نظرتي للأشياء ولنفسي. فمشاركتي في المخيم وما ضمّه من فعاليات واختلاطي بالناس من حولي فتحا عيني وعقلي على حقيقة بأن الخروج من “منطقة الراحة” ليس بالسوء الذي يظنه الكثيرون؛ ومنهم أنا. كنت دومًا أظن بأنني لن أستطيع أن أتكيف وأتأقلم مع ما هو خارج هذه المنطقة، أو أنني كنت فقط أميل لما هو مألوف ومريح. لكن عندما وضعت نفسي تحت الأمر الواقع وخرجت من منطقة راحتي بدأت أرى الكثير من الأشياء من منظور مختلف، أدركت بأن تحدي الذات يعود علينا بأمور عظيمة، ويبعث الشعور بالإنجاز، وهذا ما كنت أبحث عنه. أصبحت منفتحة أكثر بكثير من السابق إلى فكرة الخروج من منطقة راحتي وتحدي ذاتي وتجربة الغير مألوف، فالحياة تعاش مرة واحدة.
خلاصة الحديث أن الإنسان لا يجب أن يخشى التجارب الجديدة وكل ما هو غير مألوف لأن هذه الأشياء الصغيرة هي التي تعطي للحياة طعماً حلواً ورونقاً مميزاً ويبعث للإنسان الشعور بأنه حيّ، بالفعل.