عرفت أفريقية (تونس) سنة 800 ميلادي الموافق لسنة 184 هجري، تأسيس أول دولة إسلامية على ربوعها بقرار من الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد سنة 800 ميلادي لوضع سدّ أمام الدويلات المنتشرة في غرب إفريقية والأندلس، من خوارج وأدارسة وأمويين.
دولة حديثة عرفت فيها الحضارة الإسلامية في تلك الربوع تطورًا كبيرًا، حتى أن المسلمين وصلوا إيطاليا وأحكموا سيطرتهم المطلقة على جنوبها وجزرها المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط لفترة كبيرة رغم قوة العدوّ حينها وشراسته في القتال.
مؤسس الدولة.. إبراهيم بن الأغلب
تأسست دولة الأغالبة التابعة للخلافة العباسية في ولاية إفريقية على يد “إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي”، الذي تنتمي أسرته إلى قبيلة بني تميم النجدية التي نزلت في خراسان منذ الفتح الإسلامي لها في عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب.
كان والده الأغلب بن سالم من أبرز رجال الدعوة العباسية في مدينة مرو الرُّوذ إلى جانب أبي مسلم الخراساني، ثم أصبح من أعوان أبي جعفر المنصور، أرسل إلى تونس أين لقي حتفها فيها تحت أسوار القيروان سنة 767ميلادي عندما كان يصد هجوما لجند تونس يقوده الحسن بن حرب الكندي.
فتح جزيرة صقلية الإيطالية التي تُعتبرُ من أهمِّ جزر البحرِ الأبيض المتوسط وأكبرها مساحة، استمرَّ قرابة القرن من الزَّمانِ
انتقل إبراهيم بن الأغلب وأسرته إلى القاهرة، وانخرط في في صفوف جند مصر وأضحى من وجوههم، قبل أن يغادر إلى أفريقية في ولاية الفضل بن روح المهلبي، وبسبب العداوة القديمة بين أسرته وأسرة المهلبي نزل إبراهيم في الزاب (الجزائر).
في تلك الفترة عرفت المنطقة فتنة كبرى، وانتشر القتال والفوضى. استغل بن الأغلب ذلك ليعلي من مكانته في صفوف الجند حتى أضحى كأنه الحاكم الفعلي لها. سمع الخليفة الرشيد بذلك فعينه أميرًا على إفريقية في جمادى الثانية سنة 800ميلادي، واتخذ من القيروان عاصمة لإمارة الأغالبة التي أسسها.
علاقة الأغالبة بالعباسيين
ولاية ابراهيم بن الأغلب على أفريقية تمّت في عهد العباسيين كما قلنا سابقا، إلا أنها لم تكن تابعة لهم بصفة كلية، فقد اقتصر الأغالبة منذ عهد ابراهيم على ذكر اسم الخليفة في خطبة الجمعة فقط، إلى جانب وضع اسمه على العملة، ولكن فيما عدا هذين الأمرين فليس للخليفة العباسى أى نفوذ على دولة الأغالبة، فهم يتوارثونها أبًا عن جد، ويصرِّفون أمورها كما يشاءون دون رقيب.
استغلّ الأغالبة ضعف العباسيين حينها وابتعاد أفريقية عن مركز الخلافة، وعدم قدرتهم على الحكم المباشر لإعلان استقلال الإقليم وقيام دولتهم، والتوسع على حساب باقي الأقاليم لكن الأدارسة في المغرب حدوا من توسعهم غربًا، والصحراء حدتهم جنوبًا، والعباسيون شرقًا، فلم يبقَ لهم سوى الاتجاه شمالا حيث البحر.
فتح الجزر والسواحل الإيطالية
هذا الأمر حتّم على الأغالبة بقيادة مؤسسهم إبراهيم بن الأغلب تكوين قوة عسكرية كبيرة من البربر المستعربة الذين عملوا كجند في الجيش الأغلبي كما استكثر إبراهيم بن الأغلب من الصقالبة، بالتزامن مع ذلك تخلّص من عديد القادة والجند الذين رفضوا الخضوع له، وذلك لحماية حدوده البرية وإخماد الثورات الكثيرة التي عرفتها الدولة.
فضلا عن القوة البرية، كوّن مؤسس دولة الأغالبة قوة بحرية عظمى في سنوات معدودات، وأنشأ الموانئ لتحقيق أهدافه في إقامة دولة عظيمة في البحر المتوسط. واستهلّ الأسـطول الأغلبي نشاطه المبكر فـي حوض المتوسط الغربي بتدعيم سـلطان الأغالبة بشمال أفريقية وبسط سيطرتهم على الجهات الساحلية.
لم يكتف مؤسس الدولة بذلك فقط، بل اهتم بالسواحل الشمالية للمتوسط، وهو ما كان له، فقد مكن هذا الأسطول الدولة الفتية بعد ذلك من غزو “صقلية” و”مالطة” و”سردينيا” والسواحل الإيطالية الجنوبية والغربية، ومكّن الدولة الإسلامية من بسط نفوذها في تلك الربوع الأوروبية لأول مرة في التاريخ الإسلامي.
الامتداد الجغرافي للأغالبة
تذكر مصادر تاريخية أن فتح جزيرة صقلية الإيطالية التي تُعتبرُ من أهمِّ جزر البحرِ الأبيض المتوسط وأكبرها مساحة، قد استمرَّ قرابة القرن من الزَّمانِ؛ أي: منذ عهد ثالث ولاة الأغالبة زيادة الله، حتى نهاية دولة الأغالبة، وقبلها تمّ فتح عديد الجزر.
الفتح النهائي للجزيرة كان تحت قيادة الفقيه المالكي والقاضي أسد بن الفرات في عهد زيادة الله الأغلبي – أمير الأغالبة في أفريقية، تألف الجيش الإسلامي حينها أساسا من العرب والأمازيغ من شمال أفريقيا والأندلس. وجاء فتح الجزيرة على إثر هرب قائد الأسطول البيزنطي “فيمي” إلى أفريقية (تونس) بعد هزيمته في سيراقوسة أمام البيزنطيين بقيادة فوتينو، لاجئًا وطالبًا العون من أمير الأغالبة زيادة الله في القيروان عارضًا عليه الجزية مقابل جعله حاكمًا عليها.
كان هدف الحملة في البداية التعمق قدر الإمكان في الجزيرة وإثبات الوجود أمام روما، فضلًا عن كسب الغنائم والأسرى، لكنّ ضعف البيزنطيين الخارجين لتوهم من حادثة تومازو السلافي، دفع القائد أسد بن الفرات إلى تغيير الخطة والهدف من الحملة من التعمّق إلى السيطرة الحقيقية والكاملة على الجزيرة.
إلى جانب صقلية تم فتح جزيرةِ قوصرة، التي تسمى اليوم (بنطلاريا) وهي أقرب جزيرة للسَّاحلِ التونسي (تبعد 100 كم عن صقليّة و76 كلم عن المدينة التّونسيّة قليبية) بعد أن كانت تحت أيدي البيزنطيّين، تستخدم قاعدة لأسطولهم المقاتل ضدّ أسطول الأغالبة.
التمكين للمسلمين
حكم الأغالبة تلك الجزر وجنوب إيطاليا فترة طويلة من الزمن، خلالها فرضوا هيبتهم على الدول الأوروبية ومكّنوا للمسلمين من بسط سيطرتهم، حيث استطاعوا إقامة حاميات وحصون دائمة في بعض هذه السواحل الإيطالية، رغم المقاومة الكبيرة التي جوبهوا بها.
عقب السيطرة الكاملة على هذه الجزر المتناثرة في البحر المتوسط واستتباب الأمر للأغالبة، زحف المسلمون لمحاصرة روما عاصمة إيطاليا ومعقل الكنيسة والمسيحية (عام 846 في زمن أبي العباس محمد بن الأغلب، أمير الأغالبة)، وقد تمكّن جند الإسلام حينها من دخول المدينة إلا أنهم سرعان ما انسحبوا من هناك بعد اشتباكات عنيفة مع قوات الإمبراطور لويس الثاني.
اعتبرت البحرية الإسلامية بحقٍّ وريثةَ السيادةِ البيزنطية البحرية والتجارية في هذا البحر
كرر الأغالبة حصار روما -قلب إيطاليا ومركز البابوية الرئيس- مرة أخرى عام 870 ميلادي في زمن الأمير محمد بن أحمد أبو الغرانيق، وتم فك الحصار عقب دفع البابا يوحنا الثامن 25 ألف قطعة من الفضة للمسلمين، وقد أراد المسلمون بهذه الغزوات تأكيد قوتهم للمسيحيين.
السيطرة على البحر المتوسط
تذكر كتب التاريخ أن السيطرة على هذه الجزر والسواحل، مكّنت المسلمين من تأمين تجارتهم في غرب البحر الأبيض المتوسط، بعد أن كان البيزنطيون يسيطرون على معظم البحر المتوسط بحكم قوتهم البحرية الكبيرة ويفرضون رقابتهم على طرق التجارة به.
ورث الأغالبة البحريةَ البيزنطية في السيطرةِ على الحوض الأوسط للبحر الأبيض المتوسط، كما ورثوا عن البحريةِ البيزنطية التجارية النشاطَ التجاري البحري بين حوضي البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي.
تمكّن المسلمون من فرض سيطرتهم على البحر المتوسط بفضل بحرية الأغالبة
ساعدت بحرية مسلمي كريت وبحرية مسلمي الأندلس، المسلمين في بسط سيطرتهم على البحرِ الأبيض المتوسط، وأصبح للبحريةِ الأغلبية بصفةٍ خاصة، والبحرية الإسلامية بصفة عامة دورُها الفعَّال في التجارةِ بين المشرق والمغرب، وبذلك اعتبرت البحرية الإسلامية بحقٍّ وريثةَ السيادةِ البيزنطية البحرية والتجارية في هذا البحر، وقد أسهم هذا الدورُ التجاري للبحريةِ الأغلبية في الازدهارِ الاقتصادي لدولة الأغالبة.
انهيار القوة البحرية
بقيت هذه القوة البحرية مسيطرة على البحر المتوسط وسواحله الجنوبية والشمالية لفترة طويلة من الزمن، إلا أن انتشار الفتن والثورات التي اشتعلت في أفريقية بين البربر الخوارج الصفرية والإباضية، عجّل بنهايتها.
انشغل الولاةَ حينها عن الخروجِ للجهاد، واقتصار دور البحرية في الدِّفاعِ عن شواطئ أفريقية، إلى جانب الأربطة التي وجدت في هذه الفترةِ من تاريخ أفريقية، حتى لا تسقط الدولة في يد الطامعين، غير أنها سقطت في النهاية في يد الفاطميين.