عندما تظهر تقارير حول الوجود المزعوم للقوات الخاصة الروسية العاملة في سوريا، فإنها تميل إلى أن تكون شديدة التضارب، وتستند إلى بيانات شبه رسمية أو يصعب التحقق منها، وغالبًا ما يتم نشرها على المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي. رغم ذلك، يبدو أن هناك أدلة كافية لتأكيد أن المقاتلين الروس – سواء كانوا أفرادًا في القوات البرية أو أعضاءً في الجيش الروسي أو ينتمون إلى مجموعة “فاغنر” الروسية شبه العسكرية الذتي دام وصف أعضائها بـ”المرتزقة” – موجودون في الخطوط الأمامية في إدلب وحماة ويشاركون في القتال إلى جانب قوات النظام السوري.
الوجود الخفي للقوات الخاصة الروسية
نادرًا ما يتم الكشف رسميًا عن تفاصيل الوجود العسكري الروسي في سوريا لأسباب عملية، منها أن الاتفاقيات المنظمة لوجود العسكريين الروس في سوريا “غير محددة الأجل” كما يقول وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، وأن المعايير والقواعد المنظمة للوجود الروسي في سوريا وضعت نهاية عام 2016، أي بعد عام على التدخل العسكري الروسي في سوريا.
وقد ثبت أن تحديد أفراد الأمن الروس أمر صعب لسبب آخر، فغالبًا ما يتم الخلط بينهم وبين “المقاولين” من الشركات العسكرية الخاصة، ومنهم قوات “فاغنز” التي لعبت دورًا رئيسيا في العمليات الروسية بسوريا، وتُقدَّر أعدادهم على أرض سوريا بـ2000 إلى 3000 مقاتل، ورغم أن القانون الروسي يحظر الشركات العسكرية الخاصة، إلا أن التجنيد يتم في قاعدة عسكرية تابعة للكرملين في منطقة مولينكو.
Russian forces on the ground in northern #Hama pic.twitter.com/SAPnCY1zbf
— Danny Makki (@Dannymakkisyria) May 10, 2019
بدأت الشائعات حول وجود قوات روسية خاصة على الأرض في شمال غرب سوريا في شهر مايو/أيار الماضي، عندما تداول البعض على شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام صور ولقطات فيديو أصدرتها القناة الإعلامية الروسية “نيوز فرونت” لرجال مسلحين روس يشقون طريقهم عبر سهل الغاب إلى جانب القوات السورية بالقرب من الخطوط الأمامية بين محافظتي حماة وإدلب.
تكهن البعض حينها بأن هؤلاء كانوا “مرتزقة” روس على شاكلة “فاغنر” وليسوا أعضاء في الجيش الروسي، لكن التكهنات سرعان ما تحولت إلى وقائع موثوق في صحتها، حين تحدثت وسائل إعلام عن كمين نصبته القوات الخاصة الروسية في بلدة إعجاز التي يسيطر عليها مسلحي المعارضة، بعد تسللها وراء خطوط العدو في جنوب إدلب، وتسبب في مقتل 11 مسلحًا من ألوية صقور الشام.
من النادر أن تنفذ القوات الخاصة الروسية هذه الهجمات؛ ومع ذلك، فقد أجرى أفراد القوات البرية الروسية عمليات سرية مثل هذا عندما يكون لديهم معلومات حول أنشطة ما تسميهم “المتمردين” في إشارة إلى مقاتلي المعارضة السورية
رغم ذلك، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها رصد وحدة القوات الخاصة الروسية في الخطوط الأمامية في محافظة حماة، ففي وقت سابق من شهر مايو/أيار أيضًا، نُشرت بعض الصور على الإنترنت للجنود الروس في محيط بلدة كفر نبودة أثناء إطلاق قذائف الهاون باتجاه مواقع المعارضة السورية.
بعد ذلك ببضعة أيام، ذكرت وكالة أنباء “آنا نيوز“، وهي منفذ إعلامي روسي يغطي عمليات القوات السورية بانحياز قوي مؤيد للأسد، أن القوات الخاصة الروسية تشارك بنشاط في القتال في سهل الغاب، وأن أفرادها وجهوا الصواريخ إلى الأهداف، وواجهوا بأنفسهم نيران العدو ببنادق قنص وقذائف مضادة للدبابات ومدافع الهاون باستخدام رادارات مضادة للبطاريات، مشيرةً إلى أن القوات الخاصة الروسية ساهمت بشكل كبير فيما اسمته “إضعاف” دفاع المعارضة في السهل، لكن لم يتم تغطيتها من قبل وسائل الإعلام “لأسباب أمنية”.
من النادر أن تنفذ القوات الخاصة الروسية هذه الهجمات؛ ومع ذلك، فقد أجرى أفراد القوات البرية الروسية عمليات سرية مثل هذا عندما يكون لديهم معلومات حول أنشطة ما تسميهم “المتمردين” في إشارة إلى مقاتلي المعارضة السورية، في حين أنه ليس من النادر رؤية المستشارين العسكريين الروس والمقاولين في سوريا، حيث يلعب الجيش الروسي دورًا رئيسيًا في تقديم الدعم لجيش النظام السوري في الهجوم المستمر في شمال حماة والذي يهدف إلى الاستيلاء على المنطقة المنزوعة السلاح من مسلحي المعارضة في هيئة تحرير الشام.
قوات روسية في ساحة المعركة
في منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، ومع احتدام القتال في محافظتي إدلب الجنوبية وشمال حماة في شمال غرب سوريا، ذكرت وكالة “رويترز” للأنباء أن روسيا نشرت قواتها الخاصة في المنطقة، للقتال إلى جانب قوات جيش النظام السوري في شمال غرب سوريا، حيث تكافح منذ نهاية أبريل/نيسان الماضي للاستيلاء على آخر معقل للمعارضة.
ونقلاً عن مصادر في المعارضة السورية، قالت الوكالة إن الضباط والقوات الروسية كانوا وراء الخطوط الأمامية التي توجه العملية العسكرية في شمال حماة ومحافظة إدلب المجاورة منذ بدايتها باستخدام القناصة وإطلاق الصواريخ المضادة للدبابات، وذلك بعدما وجد جيش النظام السوري نفسه في أزمة فاضطر إلى طلب وجود قوات روسية في ساحة المعركة.
صور نشرتها وكالة أنباء ” آنا نيوز” تُظهر القوات الخاصة الروسية تشارك بنشاط في القتال في سهل الغاب
أُرسلت القوات الروسية، بحسب المتحدث باسم تحالف الجبهة الوطنية للتحرير ناجي مصطفى، بعد فشل قوات النظام السوري في التقدم والاستيلاء محافظة إدلب وريف حماة الشمالي، وهما المعقلان المتبقان للمعارضة بسوريا، الأمر الذي دفع الروس – المتواجدون الآن في الميدان بحسب قوله – إلى التدخل مباشرة بقصف المنطقة بأكثر من 200 طلعة جوية، بعدما كان التدخل بشكل غير مباشر في أعقاب فشل قوات الأسد.
وبحسب قولهم، فإن هذه هي المرة الأولى التي تنضم فيها قوات برية روسية بأعداد غير معلنة إلى المعركة للاستيلاء على قمم تلال الحميمات الاستراتيجية التي سقطت في أيدي مقاتلي المعارضة في مطلع يوليو/تموز الماضي، ما يشير إلى عجز النخبة السورية المعروفة باسم “قوات النمر”، والتي تحظى بتمويل ودعم لوجستي من روسيا، عن تحقيق أي مكاسب إقليمية كبيرة.
منذ أيام قليلة، أُعلن في دمشق عن تغيير اسم هذه القوات العسكرية الناشطة في الشمال السوري، والتي تضم أكثر من 10 مجموعات مقاتلة، إلى “الفرقة 25 مهام خاصة مكافحة الإرهاب” بقيادة العميد سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر” الذي يحظى برعاية روسية، تمثلت بمشاركته في لقاء الرئيس فلاديمير بوتين والأسد في قاعدة حميميم العام الماضي، وهو ما اعتبره محللون “أوامر روسية” تطرح تساؤلات عن مدى تماهي الحسن في تنفيذ ما يطلبه الروس.
لكن كما كان متوقعًا، أنكرت وزارة الدفاع الروسية – الحليف القوي للرئيس بشار الأسد – تورط “القوات البرية” الروسية و”القوات الخاصة” في الأعمال العدائية في إدلب، ووصفت التقرير بأنه “أخبار مزيفة”، وكررت موقفها الرسمي المتمثل في “أنه لم تكن هناك أي قوات برية روسية في سوريا ولا توجد الآن”.
لعل وجود الشرطة العسكرية والمستشارين العسكريين، والتي تعترف موسكو رسميًا بهم، قد وفر غطاءً لقوات أخرى للعمل هناك، بما في ذلك قوات العمليات الخاصة
وأشار الكرملين في بيان إلى أنه “تماشيًا مع الاتفاقات الروسية التركية لعام 2017، فإن الشرطة العسكرية الروسية تدير مراكز مراقبة حول محيط منطقة التصعيد في إدلب التي تراقب مع الزملاء الأتراك نظام وقف إطلاق النار”.
وبعد فترة وجيزة من نفي وزارة الدفاع الروسية لتقرير “رويترز”، قامت الوكالة الناطقة بالروسية بتحول مفاجئ في تقاريرها السابقة، وادعت في تقريرها المنشور في 19 يوليو/تموز أن الوجود العسكري الروسي في سوريا كان مقصورًا على شن الطيران العسكري الروسي غارات جوية على مدن خان شيخون وترمال وكفر عين وجسر الشغور، لدعم دعمت هجوم قوات النظام السوري.
في اليوم نفسه، أشار موقع صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية المحلية إلى أن “المرتزقة الروس” يساعدون قوات النظام السوري في قتالها ضد المعارضة في حماة وإدلب، لكن يبدو هذا التصريح مضلل، فمن غير المتصور أن يقوم أي موظف في مجموعة “فاغنر” المعروفة أيضًا باسم شركة PMC الروسية، بأي مهام بالقرب من ميدان المعركة – أو حتى تدريب الوحدات المحلية في العمق – دون تنسيق أنشطتهم مع وكالات الأمن القومي والدفاع وإنفاذ القانون الروسية.
تم تصوير جنود القوات الخاصة الروسية المزودة ببنادق قنص بالقرب من الخطوط الأمامية في مكان ما في ريف حماه الشمالي
وكما ذكرت صحيفة نوفايا جازيتا، وهي صحيفة روسية معروفة بانتقادها للكرملين، فإن الشركات العسكرية الخاصة مثل شركة “شيت” (الدرع) غير المسجلة رسميًا، على غرار شركة “فاغنر” العسكرية، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالجنرالات الروس ولواء سبيتسناز رقم 45 (Spetsnaz 45)، وهو وحدة عسكرية خاصة للاستطلاع والعمليات الخاصة للقوات الروسية المحمولة جوًا، ومقرها موسكو.
قد يفسر الاستدعاء السريع لهذه القوات أنه رغم مرور أكثر من 4 أشهر من العمليات المدعومة من روسيا في محافظة إدلب ومحيطها، لم تسفر هذه الحملة العسكرية إلا عن القليل أو ربما لا شيء يُذكر بالنسبة لروسيا وبشار الأسد، وتلك حالة نادرة لحملة عسكرية لم تكن في صالح روسيا منذ تدخلها في الصراع السوري في عام 2015.
ما وراء تعزيز الوجود الروسي
بالنظر إلى هذه المواقف المتناقضة حول الوجود الروسي البري في منطقة خفض التصعيد، قد يبدو من الصعب تحديد ما إذا كانت روسيا قد نشرت بالفعل قوات خاصة على الأرض للقتال في شمال غرب سوريا، ولكن من الواضح تمامًا أن وزارة الدفاع كان عليها أن تعزز الوجود الروسي على أرض الواقع في الأشهر الأخيرة.
فمنذ عام 2015، عندما شنت موسكو حملتها العسكرية في سوريا، شارك أفراد من كل وحدة استخبارات موجودة في القوات المسلحة الروسية تقريبًا في العمليات، بما في ذلك القوات الخاصة لمديرية المخابرات العامة التابعة لهيئة أركان العامة وقوات العمليات الخاصة ووحدات الشرطة والجيش في الحرس الوطني التي تمارس عملها بطريقة سرية.
من الواضح أن الوجود العسكري الروسي على الأرض قد استمر، سواء كانوا جنودًا نظاميين أو عمليات خاصة أو مرتزقة
ولعل وجود الشرطة العسكرية والمستشارين العسكريين، والتي تعترف موسكو رسميًا بهم، قد وفر غطاءً لقوات أخرى للعمل هناك، بما في ذلك العمليات الخاصة. من المعروف أيضًا أن الضباط الروس قاموا بتجهيز وحدات الجيش السوري التي دمرها الهجر، بما في ذلك الفيلق الخامس الذي تم نشره الآن في حماة وإدلب، والذي يُنظر إليه على أنه “قوة روسيا الضاربة في سوريا”.
استخدمت القوات الروسية هذا المخطط مرارًا وتكرارًا في مراحل مختلفة من الحرب السورية. في معركة حلب، على سبيل المثال، تُظهر السجلات الرسمية أن المستشارين العسكريين الروس فقط هم الذين شاركوا في العمليات العسكرية، لكن التقارير عمَّمت بشكل غير رسمي الحديث عن مشاركة عناصر مختلفة من الجيش الروسي أيضًا، بما في ذلك المهندسين العسكريين.
وعلى الرغم من أن الرئيس فلاديمير بوتين أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2017 “النصر” في سوريا وانسحاب القوات الروسية، باستثناء “المستشارين”، فمن الواضح أن الوجود العسكري الروسي على الأرض قد استمر، سواء كانوا جنودًا نظاميين أو عمليات خاصة أو مرتزقة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخاطب الجنود أثناء زيارته لقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية في 11 ديسمبر 2017
في الوقت الحالي، يسعى نظام الأسد إلى السيطرة على الطرق السريعة التي تمر عبر إدلب حتى يتمكن من فتح حركة المرور بين حلب ودمشق واللاذقية. لمواجهة هذه الخطة، أعادت تركيا نشر قوات المعارضة من شمال حلب إلى إدلب ودفعت التعزيزات إلى نقاط المراقبة.
لأسابيع متتالية، كان تقدم القوات الموالية للحكومة بطيئًا للغاية، ومصحوبًا بخسائر كبيرة في القوات. لم يحفز هذا القادة الروس فقط على الموافقة على دور عسكري أكبر للميليشيات التي تدعمها إيران والفرقة الرابعة المدرعة بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري، المقرب من طهران، ولكن أيضًا استخدام التعزيزات الروسية في عمليات أكثر تحديًا ضد المعارضة.
يتطلب ذلك من السلطات الروسية الحفاظ على سرية المعلومات المتعلقة بوجودهم على الخطوط الأمامية، ليس فقط بسبب اعتبارات مكافحة التجسس، ولكن أيضًا بسبب الحساسيات المحلية المحتملة، فإذا تم الكشف عن وجودهم في سوريا، فإن هذا قد يثير غضب الرأي العام الروسي، الذي يريد في أغلبيته أن تنهي البلاد تدخلها العسكري في سوريا، فالهجوم الذي تقوده روسيا ضد المعارضة، شمال غرب سوريا، لم يترك فقط عشرات القرى والبلدات في حالة خراب، بل أُجبر أكثر من 300 ألف مدني وفقًا للأمم المتحدة على الفرار إلى مناطق آمنة أقرب إلى الحدود التركية.